تَفْسِيرُ الظَّوَاهِرِ تَفْسِيرًا عِلْمِيًّا لَا يَمْنَعُ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ.

سُهَيْلٌ هِتْلَرُ /: رُبَّمَا يَأْتِي اليَوْمُ الَّذِي نَكْتَشِفُ فِيهِ أَنَّ الإِلَهَ الَّذِي تُؤْمِنُ بِهِ مُجَرَّدُ أُسْطُورَةٍ، كَمَا كَانَ يَعْتَقِدُ القُدَمَاءُ فِي آلِهَتِهِمْ.

: اللجنة العلمية

     إِثْبَاتُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ أُسْطُورَةٌ أَوْ غَيْرُ أُسْطُورَةٍ لَا يَقُومُ عَلَى الإِحْتِمَالَاتِ المَفْتُوحَةِ، وَالتَّوَقُّعَاتُ الغَيْرُ مُؤَسَّسَةٍ عِلْمِيًّا هِيَ تَوَقُّعَاتٌ هلَامِيَّةٌ لَا يَسِيرُ خَلْفَهَا العَاقِلُ، فَحَتَّى يَكُونُ الأَمْرُ أُسْطُورَةً لاَبُدَّ أَنْ نَحْتَمِلَ فِيهِ احْتِمَالًا عَقْلَانِيًّا عَلَى أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى شُرُوطِ وَأَرْكَانِ الأُسْطُورَةِ.

     وَالأَسَاطِيرُ هِيَ قَصَصٌ خَيَالِيَّةٌ لَا تُسْعِفُهَا التَّبْرِيرَاتُ المَنْطِقِيَّةُ، وَقَدْ يَلْجَأُ الإِنْسَانُ أَحْيَانًا لِلأُسْطُورَةِ بِوَصْفِهَا فَضَاءً غَيْرَ مَحْكُومٍ بِشُرُوطِ الوَاقِعِيَّةِ، فَالأُسْطُورَةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ تَصْوِيرٍ مُشَوَّهٍ لِلحَقِيقَةِ أَوْ تَصْوِيرٍ غَيْرِ حَقِيقِيٍّ لِلحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَعْبِيرٌ عَنْ بُنْيَةٍ حَضَارِيَّةٍ أَوْ ثَقَافِيَّةٍ أَوْ حَاجَةٍ نَفْسِيَّةٍ لِأُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ، وَبِالتَّالِي الأُسْطُورَةُ هِيَ وَسِيلَةٌ تَعْبِيرِيَّةٌ فَوْقَ عَقْلِيَّةٍ لِلهُرُوبِ مِنْ شُرُوطِ الوَاقِعِيَّةِ الصَّارِمَةِ، وَعَلَى هَذَا الأَسَاسِ نَفْهَمُ الأُسْطُورَةَ ضِمْنَ المَلَاحِمِ البُطُولِيَّةِ الَّتِي تَتَوَارَثُهَا الأَجْيَالُ بِوَصْفِهَا تَعْبِيرًا عَنْ حَاجَةٍ إِنْسَانِيَّةٍ لِخَلْقِ نَمُوذَجٍ أَكْثَرَ كَمَالًا مِمَّا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الوَاقِعِ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ البُعْدَ المَعْرِفِيَّ الَّذِي تَرْتَكِزُ عَلَيْهِ الأُسْطُورَةُ هُوَ الإِحْسَاسُ العَمِيقُ بِوُجُودِ حَقِيقَةٍ فَوْقَ مَادِّيَّةٍ، مِمَّا يَجْعَلُ الإِنْسَانَ فِي حَالَةٍ مِنَ التَّطَلُّعِ الدَّائِمِ لِعَالَمِ الغَيْبِ.

     وَبِنَفْسِ هَذَا السِّيَاقِ نَفْهَمُ وُجُودَ السِّحْرِ فِي عَالَمِ الإِنْسَانِ، وَذَلِكَ بِوَصْفِهِ تَوَسُّلًا بِسَبَبٍ غَيْبِيٍّ يَتَوَقَّعُ أَنَّهُ أَكْثَرُ هَيْمَنَةً مِنَ السَّبَبِ المَادِّيِّ، وَعَلَيْهِ يُمْكِنُنَا تَوْظِيفُ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ لِكَيْ تَكُونَ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ حَاجَةِ دَاخِلِيَّةٍ فِي الإِنْسَانِ تُشْعِرُهُ بِالفَقْرِ اتِّجَاهَ مَا هُوَ غَيْرُ مَادِّيٍّ، الأَمْرُ الَّذِي جَعَلَ البَعْضَ يَعْتَقِدُ بِأَنَّ الأُسْطُورَةَ وَالسِّحْرَ مَرْحَلَةُ بِدَايَةٍ لِلشُّعُورِ الدِّينِيِّ، وَهُوَ اسْتِنْتَاجٌ مَعْكُوسٌ لِأَنَّ الإِنْسَانَ يَلْجَأُ لِلسِّحْرِ وَالأُسْطُورَةِ عِنْدَمَا يَفْتَقِدُ الشُّعُورَ الدِّينِيَّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدِّينَ يُمَثِّلُ النَّافِذَةَ الحَقِيقِيَّةَ الَّتِي يَطِلُّ بِهَا الإِنْسَانُ إِلَى عَالَمِ الغَيْبِ وَمَنْ يَفْتَقِدُ هَذِهِ النَّافِذَةَ فَسَوْفَ يُوجِدُ لِنَفْسِهِ نَوَافِذَ لِكَوْنِهَا حَالَةً إِنْسَانِيَّةً مُلِحَّةً.

     وَلَيْسَ مِنْ المَنْطِقِيِّ مُصَادَرَةُ الدِّينِ بِنَفْسِ الحُجَّةِ الَّتِي يَتمُّ بِهَا مُصَادَرَةُ الأُسْطُورَةِ وَالسِّحْرِ، حَتَّى لَوْ سَلَّمْنَا بِكَوْنِهَا جَمِيعًا مَظْهَرًا لِشُعُورٍ نَفْسِيٍّ وَاحِدٍ، فَالأَمْرُ الَّذِي يَجِبُ بَحْثُهُ وَفَهْمُهُ هُوَ نَفْسُ ذَلِكَ الشُّعُورِ; لِأَنَّ مُصَادَرَةَ السِّحْرِ أَوْ الأُسْطُورَةِ لَا يَعْنِي أَبَدًا مُصَادِرَةَ هَذَا الشُّعُورِ، فَيُمْكِنُ لِلعَلْمَانِيَّةِ أَنْ تُزِيلَ السِّحْرَ مِنَ العَالَمِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُزِيلَ قَابِلِيَّةَ الإِنْسَانِ فِي أَنْ يَنْسَحِرَ، وَالخَيَارُ الأَنْسَبُ لَيْسَ التَّنَكُّرَ عَلَى هَذَا الشُّعُورِ وَعَدَمَ التَّفْكِيرِ فِيهِ، فَكُلَّمَا يَتمُّ حَجْبُهُ مِنْ إِطَارٍ يُوجِدُ لِنَفْسِهِ إِطَارًا آخَرَ يَتَمَظْهَرُ مِنْ خِلَالِهِ، وَفِي ظَنِّي مُحَارَبَةُ الأَدْيَانِ هِيَ دَعْوَةٌ بِشَكْلٍ أَوْ بِآخَرَ لِلسِّحْرِ وَالأُسْطُورَةِ لِلظُّهُورِ مِنْ جَدِيدٍ، وَيُمْكِنُ رَصْدُ حَالَةِ انْتِشَارِ السِّحْرِ وَالأُسْطُورَةِ فِي المُجْتَمَعَاتِ غَيْرِ المُتَدَيِّنَةِ بِدِينٍ سَمَاوِيٍّ، لِأَنَّ الأُسْطُورَةَ مُتَنَفَّسٌ طَبِيعِيٌّ لِهَذِهِ الحَالَةِ الشُّعُورِيَّةِ الضَّاغِطَةِ عَلَى الإِنْسَانِ.

     وَإِذَا كَانَ السِّحْرُ أَوْ الأُسْطُورَةُ تَعْبِيرًا مُشَوَّهًا عَنْ تَطَلُّعِ الإِنْسَانِ إِلَى الغَيْبِ، فَلاَبُدَّ مِنْ إِيجَادِ تَعْبِيرٍ آخَرَ يَكُونُ أَكْثَرَ تَمْثِيلًا لِتِلْكَ الحَقِيقَةِ الثَّابِتَةِ فِي الغَيْبِ، وَفِي هَذَا السِّيَاقِ تَأْتِي فَلْسَفَةُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَاتِ بِوَصْفِهَا ضَرُورَةً حَتْمِيَّةً لاَبُدَّ مِنْهَا; لِأَنَّ هَذَا الشُّعُورَ المُتَأَصِّلَ فِي الإِنْسَانِ وَالَّذِي يَشُدُّهُ دَائِمًا إِلَى الغَيْبِ، يَجْعَلُ الإِنْسَانَ دَوْمًا فِي حَالَةٍ مِنْ التَّرَقُّبِ وَالإِنْتِظَارِ لَعَلَّ هُنَاكَ خَبَرًا يَأْتِيهِ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِمَّا أَنْ يَتَكَفَّلَ الإِلَهُ بِإِخْبَارِنَا عَنْ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ طَرِيقًا لِلإِتِّصَالِ بِهِ، وَإِمَّا أَنَّ الإِنْسَانَ سَوْفَ يَصْنَعُ بِنَفْسِهِ طُرُقًا بِاجْتِهَادِهِ الخَاصِّ، وَحِينَهَا سَوْفَ تُهَيْمِنُ الأُسْطُورَةُ وَالسِّحْرُ وَالشَّعْوَذَةُ، وَفِي ظَنِّي حَتَّى مَنْ يَكْفُرُ بِالأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ سَوْفَ يُوجِدُ لِنَفْسِهِ إِطَارًا أُسْطُورِيًّا خَاصًّا بِهِ، فَالَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالإِلَهِ غَيْرِ المَادِّيٍّ حَتْمًا سَوْفَ يُؤْمِنُ بِإِلَهٍ مِنَ المَادَّةِ، وَلِذَا كَانَتْ بِعْثَةُ الأَنْبِيَاءِ ضَرُورَةً نَابِعَةً مِنْ شُعُورِ الإِنْسَانِ بِاللهِ.

     وَعَلَيْهِ فَإِنَّ السِّيَاقَ الصَّحِيحَ لِلإِشْكَالِ المَطْرُوحِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَالتَّالِي: أَنَّ الإِنْسَانَ فِي طُولِ تَارِيخِهِ لَمْ يَعِشْ دُونَ الإِيمَانِ بِسُلْطَةٍ غَيْبِيَّةٍ، مِمَّا يَعْنِي أَنَّ الغَيْبَ حَالَةٌ مُتَأَصِّلَةٌ فِي الوُجُودِ الإِنْسَانِيِّ، الأَمْرُ الَّذِي جَعَلَ الإِنْسَانَ يَتَوَسَّلُ بِالأَسَاطِيرِ لِإِشْبَاعِ هَذِهِ الحَاجَةِ الوُجُودِيَّةِ، وَعَلَيْهِ يُصْبِحُ مِنَ الضَّرُورِيِّ البَحْثُ عَنِ الإِلَهِ الحَقِّ لِكَوْنِهِ المَلْجَأَ الحَقِيقِيَّ لِضَعْفِ الإِنْسَانِ، وَبِالتَّالِي فَإِنَّ الإِيمَانَ بِاللهِ هُوَ الحَصَانَةُ مِنَ الأَسَاطِيرِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَوَّلَ هُوَ نَفْسُهُ إِلَى أُسْطُورَةٍ؟

     وَالبَحْثُ خَارِجَ حُدُودِ المَادَّةِ يُعَدُّ نَوْعًا مِنَ الوَعْيِ المُتَسَامِي الَّذِي لَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ الإِحْسَاسِ القِشْرِيِّ بِالأَشْيَاءِ، وَهَذَا الوَعْيُ هُوَ الَّذِي يُمَثِّلُ الجَانِبَ المُشْرِقَ فِي الإِنْسَانِ; وَذَلِكَ لِأَنَّ انْطِلَاقَ الإِنْسَانِ مِنَ الحِسِّ وَالتَّحْلِيقِ خَارِجَ حُدُودِ المَادَّةِ يُعَدُّ دَلِيلًا عَلَى نُضْجٍ فِي العَقْلِ وَكَمَالٍ فِي العِلْمِ، فَإِمْكَانِيَّةُ تَفْسِيرِ الظَّوَاهِرِ تَفْسِيرًا عِلْمِيّاً لَا يَمْنَعُ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ; بَلِ الإِيمَانُ بِهِ هُوَ الَّذِي جَعَلَ البَحْثَ عَنْ أَسْبَابِ الأَشْيَاءِ أَمْرًا مُمْكِنًا، يَقُولُ الفَيْلَسُوفُ رِيتْشَارد سوينبرن فِي مَقَامِ تَوْضِيحِ مَا يَقُومُ بِهِ الدِّينُ تَكْمِيلًا لِلعِلْمِ: "عِنْدَمَا أَتَحَدَّثُ عَنِ الإِلَهِ فَإِنَّنِي لَا أَطْرَحُ إِلَهًا لِيَسُدَّ الثَّغَرَاتِ الَّتِي لَمْ يُجِبْ عَنْهَا العِلْمُ حَتَّى الآنَ، فَأَنَا لَا أُنْكِرُ قُدْرَةَ العِلْمِ عَلَى اسْتِكْمَالِ التَّفْسِيرِ، وَلَكِنَّنِي أَطْرَحُ الوُجُودَ الإِلَهِيَّ لِأُفَسِّرَ لِمَاذَا صَارَ العَالِمُ قَادِرًا عَلَى التَّفْسِيرِ"؟ [دُكْتُور عَمْرٌو شَرِيفٌ، خُرَافَةُ الإِلْحَادِ، مَكْتَبَةُ الشُّرُوقِ الدَّوْلِيَّةِ، مِصْرُ الجَدِيدَةُ، ط الأُولَى  2014 ص ص 70].