هَلْ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الدِّينُ ضارّاً لِلْإنْسانِ؟

يقولُ الملحدونَ: إنَّ العلمَ يعطينا كثيراً منَ الأمورِ النّافعَةِ، لكنَّ الدِّينَ لا يستطيعُ أنْ يُقدِّمَ أيَّ شيءٍ للإنسانيَّةِ، بلْ إنَّهُ يُقدِّمُ ما يضرُّ بِها، فمثلاً نجدُ في الإنجيلِ أوِ التَّوراةِ أحكاماً قاسيةً مثلَ عقوبَةِ الموتِ على مُمارَسةِ الجِنْسِ خارجَ إطارِ الزَّوْجيَّةِ، وعقوبَةِ جَمْعِ الحَطَبِ يومَ السَّبْتِ، وعقوقِ الأهلِ، وما شابَهَ ذلكَ. وهذِهِ أمورٌ لا يُمكنُنا أنْ نقبَلَها.

: اللجنة العلمية

التقييمُ الموضوعيُّ لأيِّ شيءٍ يُشترَطُ فيهِ الحِياديَّةُ العلميَّةُ، بِمعنى أنْ يكونَ البَحْثُ غيرَ مسبوقٍ بأهدافٍ خاصَّةٍ تقودُ أصحابَها إراديّاً أوْ لا إراديّاً إلى ما خُطِّطَ للوصولِ إليهِ منْ قبلُ. فالتقييماتُ التي تُحرِّكُها الأغراضُ الخاصَّةُ تقييماتٌ متحامِلةٌ وغيرُ منصفةٍ، وهذا ما وقعَ فيهِ الإلحادُ في الوَسَطِ العربيِّ والإسلاميِّ، إذْ نجدُهُ يرتكزُ على مجموعةٍ منَ الإطلاقاتِ والتقييماتِ المجحِفة بالدِّينِ منْ غيرِ أيَّةِ أسسٍ علميَّةٍ، وإنَّما مجرَّدُ استيرادٍ لإشكالاتٍ مبتلىً بِها واقعٌ ثقافيٌّ آخرُ لا عَلاقةَ له بإسلامِنا، ولا بِواقِعِنا. فأكثرُ الإشكالاتِ التي يثيرُها الإلحادُ لهُ عَلاقةٌ بالدِّينِ الكنيسيِّ الذي كانَ يعارضُ العلمَ ويحاربُ العُلماءَ، مَعَ أنَّ الإسلامَ كعقيدةٍ وكثقافةٍ لا يضعُ حدوداً أمامَ العلمِ، بلْ جعلَ العلمَ عبادةً يتقرَّبُ بِها الإنسانُ إلى اللهِ تعالى. وإذا تفهَّمْنا هذا الخطابَ المُعادِيَ للدِّينِ في تلكَ المرحلةِ التي حرَّمتْ فيها الكنيسةُ العلمَ، وتفهَّمْنا أيضاً الدَّورَ السَّلبيَّ الذي مثَّلَهُ الدِّينُ الكنيسيُّ منْ رجعيَّةٍ متحجِّرَةٍ، لا يمكنُ أنْ نتفهَّمَ إصرارَ الإلحاديِّ العربيِّ على تعميمِ تلكَ النَّتائجِ ليشملَ الدِّينَ بِما هوَ دينٌ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.

فالإلحادُ في الوَسَطِ العربيِّ والإسلاميِّ لم يكنْ صاحبَ خطابٍ علميٍّ تأسيسيٍّ همُّهُ المساهمةُ في بناءِ واقعٍ أفضلَ، ولمْ يكنْ نقدُهُ للإسلامِ نقداً يقدِّمُ إسهاماتٍ لحلِّ إشكالاتٍ لها عَلاقةٌ بالخطابِ الإسلاميِّ، وإنَّما هوَ مجرَّدُ استلابٍ ثقافيٍّ، وتبعيَّةٌ غيرُ واعيَةٍ للغربِ. وهذا موقفٌ غيرُ متبصِّرٍ لا بالإسلامِ، ولا بطبيعةِ المشكلةِ الحضاريَّةِ التي تعانيها أمَّتُنا الإسلاميَّةُ.

وعليْهِ، فإنَّ العلمَ مَهْما يتقدَّمْ لا يشكِّلْ أزْمَةً بالنِّسبةِ إلى الإسلامِ، بلْ قدْ يكونُ حافزاً إيجابيّاً للارتباطِ أكثرَ بالإسلامِ بوصفِهِ مخزوناً روحيّاً وثقافيّاً. فحاجاتُ الإنسانِ متنوِّعَةٌ، ولا يمكنُ الاهتمامُ ببعضِها وإهمالُ بعضٍ، فإنَّ الرُّؤْيَةَ المتوازِنةَ للإنسانِ بوصفِهِ رُوحاً ومادَّةً هيَ التي تخلقُ تكامُلاً بينَ حاجَةِ الإنسانِ إلى العلمِ وحاجَتِهِ إلى الدِّينِ.

وَنَحْنُ يُمكنُنا الجَزْمَ بأنَّ عقائدَ الإسلامِ وتعاليمَهُ لا تعارِضُ العلمَ، ولا تتناقضُ مَعَ القِيَمِ الأخلاقيَّةِ، وكلُّ تفسيرٍ للنُّصُوصِ الدِّينيَّةِ يتعارَضُ مَعَ قيمَةِ الإنسانِ كفردٍ أوْ كمجتمعٍ يُعَدُّ تفسيراً مرفوضاً. وما يقعُ فيهِ الإلحادُ منْ تفسيراتٍ مشوَّهَةٍ لأحكامِ الإسلامِ يُمَثِّلُ قِراءاتٍ ناقِصَةً تتناوَلُ النَّصَّ بَعِيداً عنِ النِّظامِ القِيَمِيِّ العامِّ الذي يُحَقِّقُهُ الإسلامُ، فالحِجابُ - مثلاً - عندَما يُنظرُ لهُ منْ زاويةِ الحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ فقطْ بإهمالِ بَقِيَّةِ القِيَمِ الحَضارِيَّةِ الأخرى فطبيعيٌّ أنْ تكونَ النَّتيجَةُ سلبيَّةً، أمّا إذا تمَّ النَّظَرُ إليهِ بِمِنْظارِ شبكةٍ مِنَ القِيَمِ المُتداخِلةِ فسوفَ تكونُ النَّتيجَةُ مختلفةً حَتْماً.

فَلا وُجُودَ لشيءٍ في الإسلامِ يضرُّ بالإنسانِ، لا على مستوى متطلبات الحَياةِ الاعتِيادِيَّةِ، إذْ لا يَحْرِمُهُ منْ شيءٍ، ولا على مستوى الفَضِيلَةِ والكمالاتِ المَعْنَوِيَّةِ، إذْ يدفعُهُ دَفْعاً للتحلِّي بمكارِمِ الأخلاقِ، وبذلكُ يصبحُ الدِّينُ ضَرُورَةً للإنسانِ قبلَ أنْ يكونَ شيئاً آخرَ، وكلُّ فَهْمٍ يقدِّمُ الإسلامَ ضِمْنَ تَصَوُّراتٍ مُشَوَّهَةٍ يمكنُ أن يُحْكَمَ عليهِ بأنَّهُ فَهْمٌ مُتحامِلٌ بعيدٌ عنِ الإنْصافِ. أمّا ما جاءَ في الإنجيلِ أوِ التَّوراةِ منْ إشكالاتٍ فنحنُ غيرُ مكلَّفِينَ بِمُناقشتِها أوْ توضِيحِها.