هل قانون السببية يشمل الله؟

المدعى: تقول نظرية السبب الأول التقليدية (إن لكل سبب هناك نتيجة) إي أن الفعل (السبب) يؤدي إلى نتيجة، فكل شيء له سبب وله مسبَّب وهكذا، وهذه السلسلة من الأسباب والمسببات لا يمكن أن تكون لا نهائية، إذن فلابد من وجود سبب أول هو الله . وفي الماضي تحدى فلاسفةُ الإلحاد المؤمنين بالسؤال التقليدي: اذا كان لكل شيء سبباً فمن هو سبب الله؟ ويجيب رجال الدين بأن الله كان موجوداً دائماً ومن الأزل، ولا يحتاج إلى سببٍ لوجوده. وللرد على هذا الكلام يجيب العلماء بما يأتي: إذا افترضنا بأن الله موجود منذ الأزل ودائماً، فلماذا لا نقبل الافتراض بأن المادة موجودة منذ الازل؟ ويضيف البعض اعتراضاً آخر، وهو أن الفرض القائل بأن لكل شيء سبباً ماعدا الله هو فرض يناقض وينفي نفسه، وهو في الحقيقة فرضان في فرض واحد، فلكل شيء سبب فرضيُّ منطقيٌّ، واستثناء الله من سلسلة السببية هذه يناقض الفرض الأول وبدون أية إثباتات من المستثنين، وهذا يعيدنا إلى المربع الأول.

: اللجنة العلمية

يشتمل هذا النص على ادعاءات متخالفة، وفهم مشوَّه للأمور، وصياغة مضطربة للعبارات.

أولاً: لا وجود لنظريةٍ تسمى بنظرية السبب الأول سواء كانت تقليدية أم حديثة، وإنما هناك قانونٌ عقليُّ يقول بأن المعلول في حاجة إلى العلة، والفرق كبير بين النظرية والقانون المنطقي.

ثانياً: لا يوجد واحد من العلماء أو الفلاسفة يرفض قانون العلة والمعلول، إلا بعض تشكيكات ديفد هيوم الذي يقول: لا يمكن الاستدلال بالتجربة على وجود رابط ضروري بين العلة والمعلول، ويقول: إن كل ما نشهده هو الترافق بين الظواهر التي جعلت العقل ـ بحكم العادة ـ ينتزع هذا القانون، فكلما جاء ألفٌ جاء معه باءٌ، أو كلما جاءت النار جاء معها الإحراق، إلا أننا لا نمتلك القدرة العلمية على إثبات رابطٍ ضروريٍّ بينهما، وبالتالي فقانون العلة والمعلول عند هيوم يرتكز على البعد النفسي أكثر من ارتكازه على البعد العقلي، وقد نوقش هذا الادعاء وفند بكثير من البراهين، وقد تناوله السيد محمد باقر الصدر في كتابه فلسفتنا وفنَّده بأكثرَ من دليل، فراجعْه للإفادة أكثر.

 ومما جاء في هذا الكتاب قوله: (إن تفسير العلية بضرورة سيكولوجية يعني أن العلة إنما اعتبرت علة لا لأنها في الواقع الموضوعي سابقة على المعلول ومولدة له، بل لأن إدراكها يتعقبه دائماً إدراكُ المعلول بتداعي المعاني، فتكون لذلك علةً له، وهذا التفسير لا يمكنه أن يشرح لنا كيف صارت حركة اليد علة لحركة القلم مع أن حركة القلم لا تجيء عقب حركة اليد في الإدراك، وإنما تُدرَك الحركتان معاً، فلو لم يكن لحركة اليد سبقٌ واقعيٌّ وسببيةٌ موضوعية لحركة القلم لما أمكن اعتبارها علة)(1) .

ثالثاً: أن تكون سلسلة العلل غيرَ نهائية لا يُعدّ نظريةً أيضاً، وإنما مبدأ عقليٌّ يقوم على أنّ السلسلة مهما طال أمدها فهي كلُّها تحتاج إلى موجد. 

رابعاً: لم يسجل لنا تاريخ الفلسفة وجود تحدٍّ من قبل فلاسفة الإلحاد للمؤمنين بالقول (إذا كان كل شيء يحتاج إلى سبب فما سبب الله) ولا أظن أن هناك فيلسوفاً يحترم عقله يقع في مثل هذه السذاجة؛ لأن قانون العلية قائمٌ على أن ما كان قائماً بذاته لا يحتاج إلى علة. وإنما وُضِع القانون للممكنات الناقصة التي لا تتحقق إلا بعلة موجدة لها. 

خامساً: إشكالية فلاسفة الإلحاد ليست في احتياج الكون إلى علة، فهي قضية مسلَّمة عند جميع العقلاء، وإنما إشكالهم في كيفية معرفة طبيعة تلك العلة؛ ولأن العقل لا يمكنه الإحاطة علماً بالله، فكفروا بوجوده ثم علّقوا أمر الكون إلى المجهول، أو علّقوه على قِدَم المادة بوصفها إلهاً يمكن معرفته والإحاطة به، فمثلاً نظرية داروين في تطور الحياة على الأرض قائمة أساساً على قانون العلة والمعلول، وأن الحياة لا يمكن أن تأتي من فراغ، والملحد وإن كان يقدم تفسيراً يرضيه عن سر الحياة بحسب هذه النظرية، إلا أنه يتوقف عند الخلية الواحدة - التي أوجدتْ كل أشكال الحياة - من غير أن يكشف عن مصدرها، فإما تتحول تلك الخلية عنده إلى إله قائم بذاته، وإما ينسبها إلى المجهول أيضاً.

سادساً: قوله: لماذا لا تكون المادة موجودة من الأزل، وهو يردد هذا القول بنشوة المنتصر الذي يفحم من يقول بقِدَم الله، ولو تأمّل فيما يقول لما قال ما قال؛ لأنه غافل عن أنّ القول بالقِدَم ليس مجرد افتراض ساذج يقفز في أذهان السذّج من الناس، وإنما القدم محكوم بشروط وصفات تؤهل القديم على أن يكون قديماً، والمادة بصفاتها المعلومة لدينا لا يمكن أن تكون قديمة؛ لأنها متغيرة ومتبدلة وتقع عليها الأعراض من نقص وكمال.. وغير ذلك، أو كما يقول الإمام الصادق عليه السلام: (..والقديم لا يكون حديثاً، ولا يتغيّر ولا يخلو ذلك الشيء من أنْ يكون جوهراً واحداً ولوناً واحداً، فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتّى؟ ومن أين جاء الموت إن كان الشيء الذي أُنشئت منه الأشياء حيّاً؟ أو من أين جاءت الحياة إن كان ذلك الشيء ميّتاً؟ ولا يجوز أن يكون من حيّ وميّت قديمين لم يزالا؛ لأن الحيّ لا يجيء منه ميّت وهو لم يزل حيّاً، ولا يجوز أيضاً أن يكون الميّت قديماً لم يزل؛ لما هو به من الموت؛ لأن الميّت لا قدرة به ولا بقاء)(2) . فالمصنوع لا يكون قديماً؛ لأنه متغير ومتبدل ينتقل من حال إلى حال، والمادة تشهد على نفسها بالمصنوعية؛ فهي لا تخلو أن تكون جوهراً أو عرضاً متفاوتة ومتباينة، فكيف ـ والحال هذا ـ أن تكون قديمة؟

 وقد جاء في مناظرة ابن أبي العوجاء للإمام الصادق عليه السلام: 

قال الإمام: أ مصنوعٌ أنت أم غيرُ مصنوع؟.

 فقال له ابن أبي العوجاء: أنا غير مصنوع.

 فقال له الصادق عليه السلام: فصفْ لي لو كنتَ مصنوعاً كيف كنت تكون؟.

 فبقي عبد الكريم مليّاً لا يحير جواباً، وولع بخشبة كانت بين يديه وهو يقول: طويلٌ عريضٌ عميق قصير متحرّك ساكن كلّ ذلك من صفة خلقه.

 فقال له الصادق عليه السلام: فإن كنتَ لم تعلم صفة الصنعة من غيرها فاجعلْ نفسك مصنوعاً لما تجد في نفسك ممّا يحدث من هذه الأمور.

 فقال له عبد الكريم: سألتَني عن مسألة لم يسألني أحدٌ عنها قبلك، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها)(3).

سابعاً: قوله (ويضيف البعض اعتراضاً آخر...) من هو البعض الآخر الذي يضيف مثل هذا الكلام الساذج؟ ومن هو الذي يمكن أن يقبل أن يُنسَب له مثلُ هذا الكلام؟. فقوله: (فلكل شيء سبب فرضيٌّ منطقي، واستثناء الله من سلسلة السببية هذه يناقض الفرض الأول)، فبعد أن رفض في عباراته الأولى منطقية قانون السببية، نجده هنا يقر ويعترف بهذا القانون بقوله: (فلكل شيء سبب فرضيّ منطقي)، في حالة من التناقض وعدم الانضباط الفكري، مما يدل على أنه يرتجل الكلام بدون وعي وإدراك. ومن ثم يقول: إن الله يجب أن يخضع لنفس هذا القانون؟ متجاهلاً طبيعة القانون نفسه، فلكل قانون إطار يتحرك فيه، وإخراجه عن هذا الإطار يعد جهلاً بنفس القانون، فكل شيء لا بد له من سبب، أي كلُّ شيء لم يكن ثم كان لا بد له من سبب، فالشيء الذي يحتاج إلى سبب هو الشيء الحادث، والله تعالى ليس بحادثٍ حتى يشمله القانون. وبحسب عبارة الفلاسفة فإن الموجود الممكن هو ما نسأل عن سبب وجوده؛ لأنه ممكن في ذاته وحتى يخرج من طور الإمكان إلى طور الوجود والتحقق لا بد له من علة، أما ما كان واجباً للوجود بذاته لا يُسأل عن سببه. 

___________________

  (1) فلسفتنا، السيد محمد باقر الصدر ص 72

  (2) الاحتجاج للشيخ الطبرسي : ٣٣٦ ـ ٣٤٥ .

 

  (3) الكافي : كتاب التوحيد، باب حدوث العالم وإثبات المحدِث ..