هَلْ يَنُوبُ ٱللهُ عَنِ الإِنسَانِ؟

شِيثُ البَراهِمَةِ: مُلحِدَةٌ تَقولُ: ‏كيفَ تَتوقَّعُونَ مِنْ إِلهٍ يَعجَزُ عن إِعطَاءِ كَسرَةِ خُبزٍ لِطِفلٍ يَمُوتُ جُوعاً؟!.

: اللجنة العلمية

الأَخُ المُحْتَرَمُ، السَّلَامُ عَلَيْكُمُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ

مِثلُ هذهِ الأَسئِلةِ تَكشِفُ عن رُؤيَةٍ مُشَوَّهَةٍ في ما يَتعلَّقُ بِفلسَفةِ الحَياةِ والإِنسَانِ، والتَّبايُنِ الَّذي نَراهُ بَينَ البَشرِ في ما يَخُصُّ التَّقيِيمَ الثَّقافِيًّ لِكَثيرٍ مِنَ الظَّواهِرِ، إِنَّما هُو نِتاجٌ طَبيعِيٌّ لِلتَّبايُنِ حولَ التَّصَوُّراتِ المَعرِفيَّةِ المَسؤُولةِ عن عَمليًّةِ الفَهمِ عِند الإِنسَانِ، فمَثلاً: هذا السُّؤالُ يَنطلِقُ مِنَ الإِعتقادِ بأَنَّ ٱللهَ هُو الَّذي يجبُ أَنْ يَقومً بِمسؤُولِيَّاتِ الإِنسانِ، مِمَّا يَعني أَنَّ فَهمَهُ لِلعَلاقِةِ بَينَ الإِنسَانِ وبَينَ ٱللهِ قائِمةٌ على التَّدخلِ المُباشرِ مِنَ اللهِ حتَّى لو أَدَّى إِلى مُصادَرةِ إِرادةِ الإِنسانِ، وهذا مُخالفٌ لِلتَّصوُّرِ المَعرفيِّ الًّذي يَجعلُ تلكَ العلاقةَ قائمةً على فَسحِ الطَّريقِ أمامَ الإِنسانِ؛ لكي يكونَ هو المَسؤولَ عن إِعمارِ هذهِ الحياةِ، وعليهِ لا يُمكنُ الإِجابةُ على هذا السُّؤالِ ما لمْ نَقُمْ بتَعديلِ ذلكَ التَّصوُّرِ المَعرفيّ بوَصفهِ تَصوَّراً مُشوَّهاً، ولذا نَرى مِنَ الضَّرُوري أَنْ نُجيبَ على هذا السُّؤالِ ضِمن الرُّؤيةِ الَّتي تَكشفُ عنِ الفلسفةِ الإِسلاميَّةِ فيما يَتعلَّقُ بالإِنسانِ.

• إِنَّ الحالةَ المَنهجيَّةَ، تَقتضي البحثَ عن فلسفةِ الخلقِ والإِيجادِ، قبلَ البحثِ عن فلسفةِ الإِسلامِ والرِّسالاتِ، ورغمَ وُجودِ تَداخُلٍ بَينَ الأَمرينِ؛ لأَنَّ فلسفةَ الإِسلامِ هِي الكاشفةٌ والمُعبِّرةُ عن فلسفةِ الخلقِ والإِيجادِ، إِلَّا أَنَّ العقلَ الإِنسانِيًّ بذاتهِ يُؤمنُ بوُجودِ حِكمةٍ مِنَ الخلقِ، يَراها واضِحةً وبَيِّنَةً، حتَّى لو لمْ يكُنْ هُناكَ مُذكِّرٌ ومُنَبِّهٌ بتلكَ الحِكمةِ.

• المُتأمِّلُ في حَقِيقةِ الخلقِ، وما أَوجدَهُ اللهُ في هذا الكونِ، يًجدُهُ في حالةٍ مِنَ الإِنسِجامِ والتًّكامُلِ والتَّرابُطِ فيما بَينَهُ، وهذهِ الحَقِيقةُ البَديهيَّةُ تَكشِفُ عن ضَرورةِ وُجودِ مِحورٍ، يُمثِّلُ غايةً لهذا الإِنسِجامِ والتَّكامُلِ الكَونيّ، وما يَصطَلِحُ عليهِ القُرآنُ مِن تَسخِيرِ الكونِ لِلإِنسًانِ، هو تَعبيرٌ دَقيقٌ عن مِحوَريَّةِ الإِنسانِ لهذا الكَونِ.

• تَسخِيرُ الوُجودِ، أَو مِحوريَّةُ الإِنسَانِ للكون، تَعني أَنَّ فلسفةَ الخلقِ تَتحقَّقُ بوُجودِ الإِنسانِ، فلا يكونُ لهذا الكونِ مَعنىً مِنْ دُونِ إِنسًانٍ، فهُو المَخلوقُ الوَحيدُ الَّذي يُحقِّقُ مَعنىً لِوُجودهِ، كما يُحقِّقُ مَعنىً لِبقيَّةِ الأَشياءِ التي تشاركه في الوُجودِ، فالفَهمُ أَوِ الوَعيُ الَّذي يُحقِّقهُ الإِنسانُ العاقِلُ، هو ذاتُهُ الفَهمُ والوَعيُ الًّذي يُحدِّدُ مَسؤُوليَّةَ الإِنسَانِ ٱتِّجاهَ المَوجُوداتِ، فمُجرَّدُ الحَدِيثِ عن حِكمةِ الوُجُودِ، هو حَدِيثٌ عنِ الإِنسَانِ؛ لأَنَّهُ المَوجُودُ الوَحيدُ الَّذي يَجدُ لِلحِكمةِ مَعنىً ويَجِدُ لِوُجودِهِ حِكمةً. قال تعالى: (أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) (لُقماَنُ 20). وقد تَعاظَمتْ مَسؤُوليَّةُ الإِنسَانِ بَعدَ هذا التًّسخِيرِ حيثُ أَصبحَ هو المَخلوقَ الَّذي يَتحمَّلُ أَمانةَ الخَلقِ، قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (72 الأحزاب).

• المَسؤُوليَّةُ هي الَّتي تُحقِّقُ الدَّافعَ لِحركةِ الإِنسَانِ وتَقدُّمِهِ، - فالإِنسَانُ بما هو إِنسانٌ وبَعيداً عن كلِّ ٱعْتِبارٍ - نَجِدُهُ ومُنذُ أنْ خَطَتْ قَدماهُ هذا الوُجُودَ وهُو في حالةٍ مِنَ الكًدحِ الدَّائمِ؛ لِتَطويرِ نفسِهِ ومُقدَّراتِهِ مِنْ أَجلِ بِناءِ حضارتِهِ، مُستَفيداً مِمَّا جُعِلَ تحتَ تَصَرُّفِهِ، وما تَشهدهُ البَشريَّةِ من تَقدُّمٍ في شتَّى العُلومِ والمَعارفِ، لَخيرُ دَليلٍ على إِمكانيَّةِ تًكامُلِ الإِنسَانِ وتَطوُّرِهِ. فالجَمودُ والإِستِسلامِ والٱنْطِواءِ، مَفاهيمُ تُمثِّلُ الرُّؤيةَ المُعاكسةَ لِفلسفةِ الخلقِ والوُجُودِ، ووُقوفُ الإِنسَانِ ساكِناً أًمامَ ما هو مُتاحٌ لهُ مِنْ إِمكَاناتٍ، يُمثِّلُ ٱنْحرَافاً في طَبيعةِ الإِنسًانِ الطامِحةِ لِكُلِّ كَمالٍ.

• وبِناءً على ما تَقدَّمَ لا يُمكِنُ أَنْ نَجِدَ تَصوَّراً لِفلسفةِ الرِّسالةِ، بَعيداً عن واقعِ الإِنسانِ الَّذي جُعِلَ مُحوراً وهَدفاً لِلخلقِ، وإِلَّا تَكونُ الرِّسالةُ حِينها بَعيدةً عن طًبيعةِ الإِنسانِ وفِطرتِهِ. فلو تَصوَّرنا أَنَّ الإِسلامَ جاءَ لِيمنعَ الإِنسانَ مِنَ التَّقدُّمِ والتَّكامُلِ، أَو أَنَّهُ - على أَقَلِّ تَقديرٍ- لا يُحفِّزُ الإِنسانَ ويُشجِّعهُ، ولا يُشرِّعُ لهُ التَّشريِعاتِ الًّتي تَفتحُ الطَّريقَ أَمامَ مَسيرتِهِ، حِينًئِذٍ لا يكونُ الدِّينُ مُجرَّدَ دَعوةٍ لِتخلُّفِ الإِنسانِ فَقط، وإِنَّما دَعوةٌ لِموتِهِ والقَضاءِ عليهِ؛ لأَنَّ الحياةَ لا تَعني أَقَلَّ مِنَ القُدرةِ على الإِستمرارِ في المَسيرِ. قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ (الانفال 24)، ففلسفةُ الرِّسالةِ هي الدَّعوةُ لِحياةِ الإِنسانِ، أَيِ الدَّعوةُ الَّتي تَفتحُ الطًّريقَ أَمامَ مَسيرةِ الإِنسانِ وتَكامُلِهِ.

• وفي المُحَصِّلَةِ لا يَكونُ الإِيمانُ باللهِ إِلًّا دافِعَاً لِلإِنسانِ لِتحقِيقِ إِنسانيَّتِهِ بجُهدِهِ وكَدِّهِ، ولا يَعني أَبداً أَنْ يكونُ اللهُ هو الًّذي يَنوبُ عن الإِنسانِ في إِنجازِ مَهامِّهِ، فالفقرُ والظُّلمُ والحِرمانُ وعدمُ العَدالةِ وكُلُّ الأُمورِ السَّلبيَّةِ في الحَياةِ هي مَسؤُوليَّةٌ أُنِيطَتْ بالإِنسانِ بًعدَ أًنْ زًوَّدَهُ اللهُ بكُلِّ الإِمكَاناتِ الّتي تُساعِدُهُ على إِنجازِ ذلكَ، وعلى الإِنسانِ بناءُ حضارةٍ خاليًةٍ مِنَ الفَسادِ والظُّلمِ والقهرِ والحِرمانِ، وبذلكَ يُصبِحُ الإِيمانُ باللهِ بمَثابةِ البَوصَلةِ الًّتي تُحدِّدُ الٱتِّجاهِ الًّذي يَسعى إِليهِ الإِنسانُ، وأَيُّ مَظهرٍ سَلبيٍّ في الحَياةِ يَعني أَنَّ الإِنسانَ أَضاعَ تلكَ البَوصَلةَ. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) (6 الانشقاق)، فالًّذي يَكدحُ في سبيلِ أَنانِيَّاتِهِ ورَغباتِهِ وشًهواتِهِ الخاصَّةِ حَتماً سيَكونُ مَسيرُهُ في الٱتِّجاهِ المُعاكِسِ، وعِندَها سوفَ نَرى هذا الفقيرَ الًّذي يَموتُ جُوعاً، ليسَ لِكونِ اللهِ لا يُريدُ إِطعامَهُ وإِنَّما؛ لأَنًّ الإِنسانَ هو الَّذي مَنَعً مِن ذلكَ.

• فسُؤالُ المُعتَرِضُ يَكونُ صَحِيحاً ومَقبولاً إِذا كانَ اللهُ قد خلقَ الوُجودَ والإِنسانَ بالشَّكلِ الَّذي يكونُ فيهِ الإِنسانُ غَيرَ قادرٍ على القِيامِ بمَهامِّهِ، وحِينها يكونُ اللهُ هو المَسؤولَ عن هذا الفقيرِ الًّذي يَموتُ جُوعاً، طالَما لمْ يُكلِّفُ الإِنسانَ بهذهِ المُهمَّةِ ولمْ يُمَكِّنْهُ مِنَ القِيامِ بها، أَمَّا إِذا يَسَّرَ اللهُ لِلإِنسانِ كُلَّ الطُّرُقِ وحَفَّزَهُ على ذلكَ فَمِنَ المَعيبِ بَعدَ ذلكَ أَنْ نَقولُ: (كيفَ تَتوقَّعونَ مِن إِلهٍ يَعجزُ عن إِعطاءِ كَسرَةِ خُبزٍ لِطفلٍ يَموتُ جوعاً).

  وَدُمْتُمْ سَالِمِيْنَ.