هَلْ يُتاحُ لِلْمُلْحِدِ المُجَاهَرَةُ بِالإِلْحَادِ دَاخِلَ المُجْتَمَعَاتِ المُؤْمِنَةِ؟

يَقُوْلُ المُلْحِدُوْنَ: إِنَّ مِنْ جُمْلَةِ المَشَاكِلِ المُهِمَّةِ وَالَّتِي يُعَانِي مِنْهَا المُلْحِدُوْنَ هِيَ: أَنَّ المُتَدَيِّنِيْنَ يُهَدِّدُوْنَ المُلْحِدِيْنَ، فَبَعْضُ الَّذِيْنَ يُجَاهِرُوْنَ بِالإِلْحَادِ فِي مُخْتَلَفِ مَنَاطِقِ العَالَمِ تَصِلُهُمْ رَسَائِلُ تَهْدِيْدٍ مِنْ قِبَلِ المُتَدَيِّنِيْنَ، وَلَوْ أَنَّنَا رَجَعْنَا إِلَى أَسْبَابِ بُرُوْزِ مِثْلِ هَذِهِ التَّهْدِيْدَاتِ لَرَأَيْنَا أَنَّ الدِّيْنَ هُوَ السَّبَبُ لِأَنَّهُ يَدْعُو المُتَدَيِّنِيْنَ إِلَى نَوْبَاتٍ مِنَ الكَرَاهِيَّةِ ضِدَّ مَنْ لَا يُقَاسِمُوْنَهُمْ مُعْتَقَدَاتِهِمْ. 

: اللجنة العلمية

إِذَا سَلَّمْنَا بِوُجُوْدِ هَذِهِ الإِشْكَالِيَّةِ لَا يَعْنِي أَبَدَاً أَنَّ العَامِلَ المُسَبِّبَّ فِيْهَا هُوَ الدِّيْنُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ فَهْمُهَا وَتَحْلِيْلُهَا بِمَا لَهُ عَلَاقَةٌ بِطَبِيْعَةِ المُجْتَمَعَاتِ البَشَرِيَّةِ عَامَّةً، فَلِكُلِّ مُجْتَمَعٍ مِنَ المُجْتَمَعَاتِ الإِنْسَانِيَّةِ أَعْرَافٌ وَتَقَالِيْدُ تُمَثِّلُ الهُوِيَّةَ الثَّقَافِيَّةَ لَهُ، كَمَا لِلْمُجْتَمَعَاتِ قِيَمٌ مِحْوَرِيَّةٌ تُمَثِّلُ السِّمَةَ وَالاِتِّجَاهَ العَامَّ لِهَذَا المُجْتَمَعِ، وَأَيُّ مُحَاوَلَةٍ عَابِثَةٍ فِي هَذِهِ القِيَمِ أَوِ الأَعْرَافِ سَيَكُوْنُ مُهَدِّدَاً لِلتَّمَاسُكِ العُضْوِيِّ لِلْمُجْتَمَعِ، وَمِنْ هُنَا نَجِدُ النِّظَامَ الدَّاخِلِيَّ لِأَيِّ مُجْتَمَعٍ يَعْتَمِدُ الحِمَايَةَ الصَّارِمَةَ لِهَذِهِ القِيَمِ أَوِ الأَعْرَافِ، وَالإِلْحَادُ فِي المُجْتَمَعَاتِ المُؤْمِنَةِ يَعْمَلُ عَلَى هَدْمِ القِيَمِ المُجْتَمَعِيَّةِ وَالأَعْرَافِ الَّتِي تُمَثِّلُ الخَيْطَ النَّاظِمَ لِلْمُجْتَمَعِ، فَمِنَ الطَّبِيْعِيِّ أَنْ لَا يَكُوْنَ مَرْغُوْبَاً فِيْهِ، وَمِنَ الوَاضِحِ أَنَّ التَّدَيُّنَ لَيْسَتْ لَهُ خُصُوْصِيَّةٌ فَلَوِ انْقَلَبَتِ الصُّوْرَةُ وَأَصْبَحَ هُنَاكَ مُجْتَمَعٌ إِلْحَادِيٌّ لَهُ أَعْرَافُهُ وَقِيَمُهُ الخَاصَّةُ فَإِنَّ هَذَا المُجْتَمَعَ لَا يَسْمَحُ لَأَيِّ جِهَةٍ أَنْ تَعْبَثَ فِي قِيَمِهِ وَأَعْرَافِهِ الخَاصَّةِ. 

وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الفَهْمَ الحَقِيْقِيَّ لِهَذِهِ الظَّاهِرَةِ لَهُ عَلَاقَةٌ بِطَبِيْعَةِ المُجْتَمَعِ بَعِيْدَاً عَنْ كَوْنِهِ مُجْتَمَعَاً إِيْمَانِيَّاً أَوْ إِلْحَادِيَّاً، إِلَّا أَنَّ الإِلْحَادَ يَعْتَمِدُ فِي تَحْلِيْلِهِ لِلظَّوَاهِرِ عَلَى العَقْلِيَّةِ العِدَائِيَّةِ الَّتِي تُوَظِّفُ كُلَّ شَيْءٍ ضِدَّ الأَدْيَانِ، فَعِنْدَمَا تَكُوْنُ النَّتَائِجُ مُعَدَّةً سَلَفَاً حِيْنَهَا سَيَكُوْنُ البَحْثُ العِلْمِيُّ مَرْهُوْنَاً لَهَا، وَهَذَا مَا وَقَعَ فِيْهِ صَاحِبُ الإِشْكَالِ حَيْثُ إفْتَرَضَ أَنَّ الأَدْيَانَ هِيَ السَّبَبُ وَرَاءَ رَفْضِ المُجْتَمَعَاتِ المُؤْمِنَةِ لِلْمُلْحِدِ، فِي حِيْنِ أَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ فِي أَيِّ مُجْتَمَعٍ وَمَعْ أَيِّ فِكْرَةٍ تَعْبَثُ فِي نِظَامِهِ الدَّاخِلِيِّ.

أَمَّا التَّوْجِيْهَاتُ الإِسْلَامِيَّةُ فِيْمَا يَخُصُّ التَّعَامُلَ مَعَ المُخَالِفِ، نَجِدُهَا قَائِمَةً عَلَى تَوْفِيْرِ كَافَّةِ الحُقُوْقِ لَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُعَادِيَاً لِلْإِسْلَامِ، وَالإِسْلَامُ بِوَصْفِهِ القِيْمَةَ الَّتِي قَامَ عَلَيْهَا المُجْتَمَعُ لَا يُمْكِنُ السَّمَاحُ بِالعَبَثِ فِيْهَا، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ المُخَالِفَ لِلْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُوْنَ مُعْتَدِيَاً لَا يَجُوْزُ الاِعْتِدَاءُ عَلَيْهِ أَو حِرْمَانُهُ مِنْ حُقُوْقِهِ الطَّبِيْعِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (8 المُمْتَحَنَةُ). فَفِي ظِلِّ المُجْتَمَعِ المُؤْمِنِ يَتَمَتَّعُ الكَافِرُ المُسَالِمُ بِكُلِّ الحُقُوْقِ طَالَمَا لَمْ يَعْتَدِ بِفِعْلٍ أَو قَوْلٍ وَطَالَمَا اِحْتَرَمَ القِيَمَ الَّتِي يَقُوْمُ عَلَيْهَا المُجْتَمَعُ المُؤْمِنُ، بَلْ حَتَّى فِي حَالَةِ تَمَّ الاِعْتِدَاءُ عَلَى المُجْتَمَعِ المُؤْمِنِ أَمَرَنَا اللهُ بِأَنْ تَكُوْنَ رَدَّةُ الفِعْلِ بِقَدْرِ الاِعْتِدَاءِ، قَالَ تَعَالَى: (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (194 البَقَرَةُ). وَالأَمْرُ بِالتَّقْوَى فِي الآَيَةِ فِيْهِ إِشَارَةٌ إِلَى الاِنْضِبَاطِ فِي رَدَّةِ الفِعْلِ، وَبِالتَّالِي المُؤْمِنُ مَأْمُوْنُ الجَانِبِ طَالَمَا هُوَ مُلْتَزِمٌ بِتَعْلِيْمَاتِ الإِسْلَامِ، أَمَّا المُلْحِدُ الَّذِي لَا تَرْدَعُهُ أَخْلَاقٌ وَلَا دِيْنٌ هُوَ الَّذِي يَتَعَدَّى عَلَى الآَخَرِيْنَ، وَمَا يَبْحَثُ عَنْهُ السَّائِلُ هُوَ حُرِّيَّةُ المُجَاهَرَةِ بِالإِلْحَادِ، وَقَدْ غَفِلَ عَنْ كَوْنِ المُجَاهَرَةِ تَعْنِي المُجَاهَرَةَ بِالعِدَاءِ لِكُلِّ القِيَمِ وَالأَعْرَافِ المُجْتَمَعِيَّةِ وَهَذَا مَا لَا يَقْبَلُهُ مُجْتَمَعٌ مِنَ المُجْتَمَعَاتِ الإِنْسَانِيَّةِ.