هَلِ اللهُ هُوَ المَسؤُولُ عَنْ إغرَاقِ قَومِ نُوحٍ؟

مُحَمَّد الأسَديّ: السَّلامُ عَليكُمْ وَرَحمةُ اللهِ وَبَركاتُهُ .. المُلحِدُونَ يَسألُونَ: كَيفَ أغرَقَ اللهُ قومَ نُوحٍ عَليهِ السَّلامُ وَفيهِمْ أطفَالٌ صِغارٌ لا ذنبَ لَهُمْ فِيمَا اقتَرَفَ آبَاؤهُمْ وَهوَ أرحَمُ الرَّاحِمينَ.

: اللجنة العلمية

يُمارِسُ الإلحَادُ تَشويشَاً مُتَعمَّدَاً مِنْ خِلالِ بَعضِ الأسئِلَةِ، فِي حِينِ أنَّ هَذهِ الأسئِلَةَ غَيرُ مُنسَجِمَةٍ مِنَ الأسَاسِ مَعِ البُنيَةِ المَعرِفِيَّةِ للإلحَادِ، فَمثَلاً السُّؤالُ عَنْ مَنطقيَّةِ بَعضِ الظَّواهرِ الطَّبيعيَّةِ مِثلَ الزَّلازِلِ وَالأَعَاصِيرِ وَالفَيَضَاناتِ وَغَيرِهَا مِنَ الظَّواهرِ الَّتِي تُحدِثُ ضَررَاً بَالِغَاً، يُعَدُّ سُؤَالَاً غَيرَ مُبَرَّرٍ ضِمنَ المَنطِقِ الإلحَاديِّ، وَحَتَّى يَتَّضِحَ الأمرُ أُبَيِّنُ ذَلكَ فِي نِقاطٍ.

• الإلحَادُ فِكرةٌ قَائمَةٌ عَلى العَدميَّةِ فِي المَبدَأ وَفِي المَعادِ، وَبالتَّالي يَرفُضُ المُلحِدُ وُجُودَ أيِّ حِكمَةٍ أو إرَادَةٍ تَقفُ خَلفَ هَذا الوُجُودِ، وَعَليهِ لَا يَعتَرِفُ بِوُجُودِ فَلسَفَةٍ خَلفَ كُلِّ المَظَاهِرِ الكَونيَّةِ وَإنَّمَا هِي مَادّةٌ عَميَاءُ مَرهُونَةٌ لِنِظامٍ خَاصٍّ بِالمَادَّةِ أَو مَرهُونَةٌ لِبعضِ الطَّفرَاتِ الغَيرِ مَفهُومَة.

• إنَّ الإلحَادَ يَعمَلُ عَلى تَفسِيرِ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ بِحَسَبِ القَوَانِيْنِ الطَّبِيعيَّةِ فَيَبحَثُ مَثَلاً فِي كَيفِيَّةِ حُدُوثِ الزَّلازِلِ أَو كَيفِيَّةِ تَكَوُّنِ الأعَاصِيرِ وَلَكِنَّهُ لَا يَبحَثُ أبَدَاً عَن وُجُودِ حِكمَةٍ خَلفَ هَذِهِ الزَّلازِلِ والأعَاصِيرِ، وَإنَّمَا يُسَلِّمُ بِوجُودِهَا حَتَّى لَو لَمْ يَتَعَرَّفْ عَلى حِكمَتِها، وَعِنْدَ هَذَا الحَدِّ لَا يَخْتَلِفُ الإلْحَادُ عنِ الإيْمَانِ لأنَّ الإيمَانَ أَيضَاً لَا يَتَعَارَضُ مَعِ التَّفْسِيرَاتِ العِلْمِيَّةِ عَنْ كَيْفِيَّةِ حُدُوثِ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ.

• فِي المُحَصِّلَةِ لَا يَكُونُ الإلحَادُ حَلاًّ فَلسَفِيَّاً لِهَذِهِ الظَّوَاهِرِ وَإنَّمَا هُوَ جَهلٌ مُطبَقٌ بِفَلسَفَةِ وُجُودِهَا وَحُدُوثِهَا. وَهُنَا نَجدُ الإلحَادَ يَتَأقلَمُ مَعَ هَذِهِ الظَّواهِرِ وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً بِالحِكمَةِ مِن حُدُوثِهَا، ثُمَّ يَأتِي لِيُطَالبَ المُؤمِنَ بِأنْ لَا يَتَأقْلَمَ مَعَها فِي حَالِ لَمْ يَعْرِفِ الحِكمَةَ مِنْ حُدُوثِهَا.

• فَلو فَرَضنَا أنَّ المُؤمِنَ لَا يَعرِفُ الحِكمَةَ مِن وَرَاءِ تِلكَ الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ وَلَا يَجِدُ تَفسِيْرَاً لِمَوْتِ الأطْفَالِ وَالنِّسَاءِ، لَا يَكُونُ ذَلِكَ مُرجِّحَاً للإلحَادِ عَلى الإيمَانِ، لِأنَّ الإلحَادَ أيْضَاً لَا يَعرِفُ الحِكمَةَ مِن ذَلِكَ بَلْ هُوَ أَكْثَرُ جَهْلاً وَتَخَبُّطَاً. وَبِذَلكَ تَتَّضِحُ المُغالطَةُ الَّتِي يَستَخدِمُهَا الإلحَادُ حَيثُ يُطالِبُ الإيْمَانَ بِشيْءٍ هُوَ ذَاتُهُ لَا يَمْتَلكُهُ.

وَإِذَا اتَّضَحَ ذَلِكَ لَابُدَّ أَنْ نَتَحدَّثَ عَنِ الحِكمَةِ مِن هَذِهِ الظَّوَاهِرِ ضِمنَ الفَلسَفَةِ العَامَّةِ للإيمَانِ باللهِ، وَسَوفَ نُبيِّنُ ذَلكَ أَيضَاً فِي نِقَاطٍ.

• الإيمَانُ باللهِ يَنسجِمُ تَمامَاً معِ الِاعتِرَافِ بِالسُّنَنِ وَالأسبَابِ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا) (الكَهْفُ). وَالفَرقُ بَينَ المُؤمِنِ وَالمُلحِدِ هُوَ أنَّ المُلحِدَ يَقفُ عِندَ حُدُودِ الأسبَابِ المُبَاشِرَةِ فَيَجْهَلُ الحِكمَةَ مِن وَراءِ تَسخيرِ هَذهِ الأسبَابِ، بَينَمَا المُؤمنُ يَتعدَّى السَّببَ المُبَاشِرَ ليَتعَرَّفَ عَلَى مَن سَخَّرَ الأسبَابَ وَبذَلِكَ يَكتَشِفُ الفَلسَفَةَ الَّتِي تَقِفُ خَلفَهَا، فَالكَلامُ عنِ الغَايَةِ يَأتِي بَعدَ الكَلامِ عَنْ وُجُودِ إِرَادَةٍ خَارجَةٍ عَنِ المَوجُودَاتِ، وَالمُلحِدُ لَا يُؤمِنُ بِوُجُودِ هَذهِ الإرَادَةِ.

• الإيمَانُ لَا يَتَعَارَضُ مَعِ التَّفسِيرَاتِ الطَّبيعيَّةِ للظَّوَاهِرِ، فَالعُلُومُ الطَّبيعِيَّةُ تُجيبُ مَثَلاً عَنِ السُّؤالِ، كَيفَ تَحدُثُ الزَّلازِلُ وَالأمْطَارُ؟ أَمَّا الدِّينُ فَيُجِيبُ عَنِ السُّؤَالِ لِمَاذَا تَحْدُثُ وَمَا هِيَ الحِكْمَةُ مِنْهَا وَمَا هِيَ الغَايَةُ البَعيدَةُ مِن كُلِّ ذَلكَ؟ وَهُنَاكَ فَرقٌ كَبيرٌ بَينَ كَيفيَّةِ الشَّيءِ وَالهَدفِ مِنهُ، قَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57 الأعْرَافُ)، وَعَليهِ لَا يُمْكِنُ قَبُولُ هَذا الخَلطِ المُتَعَمَّدِ بَينَ اِهْتِمَامَاتِ العُلومِ الطَّبيعيَّةِ وَبَينَ اِهتِمَامَاتِ الدِّينِ، فَالعُلُومُ تُجِيبُ عَنْ سُؤَالِ المَادَّةِ وَالدِّينُ يُجيبُ عَن سُؤَالِ الرُّوحِ. 

• الإنْسَانُ فِي التَّصَوُّرِ الإيمَانِيِّ يُمَثِّلُ مِحوَرَ المَوجُودَاتِ الطَّبيعِيَّةِ، وَكُلُّ شَيءٍ خُلِقَ مِنْ أَجْلِ الإنسَانِ، قَالَ تَعَالَى: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (13 الجَاثِيةُ). بَينَمَا الإنسَانُ خُلِقَ مِنْ أَجْلِ غَايَةٍ أُخرَى؛ وَهِيَ تَحْقِيقُ تَكَامُلٍ إنسَانِيٍّ عَلَى مُستَوَى الرُّوحِ وَالمَادَّةِ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (70 الإسْرَاءُ)، وَعَليهِ فَقَدْ صَمَّمَ اللهُ هَذَا الخَلْقَ بِالشَّكلِ الَّذِي يُمكِّنُ الإنسَانَ مِنْ تَحقِيقِ هَذِهِ الغَايَةِ.

• الإنسَانُ هُوَ الكَائِنُ المَسْؤُولُ عَنْ وُجُودِهِ وَوجُودِ غَيرِهِ مِنَ المَخلُوقَاتِ، فَيَجِبُ عَلَيهِ الحِفَاظُ عَلَى نَفسِهِ فَلا يَجُوزُ لَهُ أنْ يُهْلِكَهَا، كَمَا يَجِبُ أنْ يُحَافِظَ عَلَى الطَّبِيعَةِ فَلا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالشَّكلِ الَّذِي يُؤَدِّي إلَى فَسَادِهَا، قال تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (85 الأعْرَافُ).

• سُلطَةُ الإنسَانِ عَلى نَفسِهِ وَعَلى الطَّبِيعَةِ لَا تُخرِجُهُ عَن إِرَادَةِ اللهِ وَهَيمَنَتِهِ، فَمَعْ أنَّ اللهَ خَلَقَ الإنسَانَ مُريْدَاً وَمَسؤُولاً إلَّا أنَّهُ حَذَّرَهُ مِنْ بَعضِ المُخَالفَاتِ الَّتِي تُوجِبُ غَضَبَهُ وَسُخْطَهُ فِي الدُّنيَا قَبلَ الآخِرَةِ، وَعَليْهِ فَهُنَاكَ سُنَنٌّ أجرَاهَا اللهُ عَلى هَذِهِ الدُّنيَا وَهِيَ مَاضِيَةٌ فِي الأوَّلينَ وَالآخِرينَ قَالَ تَعالَى: ( سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا) (62 الأحزَابُ)، فَمَنْ لَمْ يَتَّعِظْ مِنْ هَذهِ السُّنَنِ وَفَعَلَ مَا يُوجِبُ غَضَبَ اللهِ فَحينَهَا لَا يَكُونُ اللهُ هُوَ المَسؤُولُ وَإنَّمَا الإنسَانُ هُوَ الَّذي تَسَبَّبَ فِي نُزُولِ العَذَابِ، وَإذَا حَاوَلنَا أنْ نَضرِبَ مِثَالَاً تَوضِيحِيَّاً نَقُولُ: إِذَا كَانَ هُنَاكَ مُوظَّفٌ مَسؤُولٌ عَنِ القَنَابِلِ وَالمُتَفَجِّرَاتِ وَقَدْ حُذِّرَ مِنَ المَسَاسِ أوِ الاِقتِرَابِ مِنْ جِهَازٍ مُحَدَّدٍ لِأنَّهُ سَيُؤَدِّي إلَى الاِنفِجَارِ الَّذِي يَمُوتُ بِسَببِهِ الجَمِيعُ بِمَا فِيهِمُ الأطفَالُ وَالنِّسَاءُ وَغَيرُ ذَلكَ، وَمَعَ ذَلكَ فَقَدْ تَمَرَّدَ هَذَا الإنسَانُ وَعَبَثَ بِالجِهَازِ وَدَمَّرَ الجَميعَ حِينَهَا يَكُونُ هُوَ المَسؤُولَ عَنْ دِمَاءِ الأبرِيَاءِ الَّتِي سُفِكَتْ، كَذَلِكَ الحَالُ مَعَ الإنسَانِ فِي هَذهِ الدُّنيَا فَقَدْ حَذَّرَ اللهُ مِنْ بَعضِ الأمُورِ وَنَبَّهَ الإنْسَانَ بِأنْ لَا يَصِلَ بَغَيِّهِ إلى هَذِهِ المُستَوَيَاتِ، وَبَعْدَ ذَلكَ لَا يَكونُ اللهُ هُوَ المَسؤُولَ عَمَّا يَحدُثُ وَإنَّمَا الإنسَانُ المُتمَرِّدُ هُوَ الَّذِي يَتَحمَّلُ مَسؤُوليَّةَ مَا يَحْدُثُ.

رَدُّ الشُّبهَةِ:

بَعدَ أَنِ اِتضَحَ كُلُّ ذَلكَ تَرتَفِعُ الشُّبهَةُ الَّتِي أثَارَهَا السَّائِلُ، وَهِيَ أنَّ اللهَ لَمْ يُغرِقِ الأطْفَالَ وَإنَّمَا قَومُ نُوحٍ هُمْ مَنْ تَسبَّبُوا فِي كُلِّ ذَلكَ، وَقَدْ شَرحَتِ الآيَاتِ فِي سُورَةِ نُوحٍ هَذَا الأمْرَ بِشَكلٍ وَاضِحٍ لَا لَبْسَ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: ( قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12) مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)

وَهَكَذَا يُرَغِّبُهُمْ اللهُ تَارَةً وَيُحَذِّرُهُمْ تَارَةً أُخْرَى وَصَبَرَ عَلَيْهِمْ 950 سَنَةً مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَظِيْمِ رَحْمَتِهِ، وَقَدْ وَصَفَتِ الآيَاتُ حَالَهُمْ وَجُحُودَهُم إلَى الآيَةِ 25 وَعِنْدَهَا حَمَّلَ اللهُ المَسْؤُولِيَّةَ لِقَومِ نُوْحٍ فِي مَا أصَابَهُمْ مِنْ غَرَقٍ قَالَ تَعَالَى: (مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللهِ أَنصَارًا) (25).