هَلْ في الإسلامِ نِظامٌ سِياسِيٌّ؟

عمران: السَّلامُ عَليكُم ورَحمةُ اللهِ وبَركاتُهُ .. نَسمَعُ بَينَ الحينِ و الآخرِ عِباراتٍ يَسعى البَعضُ مِنْ خِلالها الى إبعادِ النّاسِ عنِ الدّين بِقولِهم {الأفضَلُ فَصلُ الدّين عنِ السِّياسةِ وجَعلُ حدودهِ المَسجدَ فقط} وقَولُ البَعضِ {إذا أرَدتَ أنْ تَحكمَ شَعباً مُتخَلِّفاً فاحكُمهُ باسمِ الدّين} ويَستدلُّونَ على ذلكَ بالخِلافاتِ بَينَ المَذاهبِ و داعِش وغَيرِها مِنَ الأمورِ ويَدعونَ الى الحُريَّةِ و المُساواةِ بِلحاظِ أنَّ الدّينَ ليسَ فيهِ مُساواةٌ و الإقتداءُ بِمنجزاتِ و أفكارِ الدُّولِ الغربيَّةِ  نَرجو مِنْ جَنابِكمُ الرَّدَّ الشافيَ على مِثلِ هكَذا أقوال

: اللجنة العلمية

لَا أَظُنُّ أنَّنَا نُجَانِبُ الْحَقِيقَةَ إِذَا أَشَّرْنا إِلَى وُجُودِ خَلَلٍ فِي طَبِيعَةِ الْوَعْي الّذِي تَخْتَزِنُهُ الْأُمَّةُ لِلْإِسْلَامِ، فَحَصْرُ الْاِهْتِمَامِ الْإِسْلَامِيِّ ضِمْنَ حُدودِ الْإِطَارِ الْعَامِّ وَالْهُوِيَّةِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ، دُونَ الْاِهْتِمَامِ الْوَاضِحِ بِمُحْتَوَى الْإِسْلَامِ الثَّقَافِيِّ وَالْحَضَّارِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ يُؤَكِّدُ هَذَا الْخَلَلَ.

مِمَّا يَجْعَلُ مِنَ الضَّرُورِيِّ إيجادَ مُعَالَجَاتٍ مَعْرِفِيَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ تَسْتَوْعِبُ الْإِسْلَامَ كَنَصٍّ مَازَالَ مُتَفَاعِلاً مَعَ حَاجَاتِ الْإِنْسَانِ وَطُمُوحَاتِهِ فِي كُلِّ آنٍ، وَإِذَا تَحَقَّقَ هَذَا الْوَعْيُ يُصبحُ مِنَ الطَّبِيعِيِّ السُّؤَالُ عَنْ نِظَامِ حُكْمٍ إِسْلَامِيٍّ لِوَاقِعِنَا الْمُعَاصِرِ، وَمِنْ دُونِ ذَلِكَ لَا يُمكِنُ أَنْ نَفْتَرِضَ نِظَامًا سِيَاسِيًّا مُتَفَاعِلًا مَعَ الْوَاقِعِ الرَّاهِنِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَنْطَلِقُ فِي فَهْمِهِ مِنَ التَّجَارِبِ التَّارِيخِيَّةِ.

هَذِهِ الْمُعْضِلَةُ الْمَعَرَّفِيَّةُ أَفْرَزَتْ نَمَطاً مِنَ التَّفْكِيرِ عَملَ عَلَى تَأصِيلِ هَذِهِ النَّظرَةِ السَّطْحِيَّةِ لِلْإِسْلَامِ، فَقَدَّمَتْ بَعْضُ الْقِرَاءَاتِ الْيَسَارِيَّةِ وَاللِّيبرَالِيَّةِ الْإِسْلَامَ كَإِطَارٍ شَخْصِيٍّ فَرديٍّ ضِمْنَ عَلَاقَةٍ خَاصَّةٍ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ الْخَالِقِ، كَبُعْدٍ وِجْدَانِيٍّ عَاطِفِيٍّ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِوَاقِعِ الْإِنْسَانِ الْاِجْتِمَاعِيِّ وَالثَّقَافِيِّ، فَدَعمُوا بِذَلِكَ النَّظَرَةَ التَّقْليدِيَّةَ، وَأَشَادُوا بِالتَّجْرِبَةِ الصُّوفِيَّةِ كَتَجْرِبَةٍ اِنْعِزَالِيَّةٍ لَا تَتَدَخَّلُ فِي الشَّأْنِ الْحَياتِيِّ لِلْإِنْسَانِ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي دَعَوا الْأُمَّةَ إِلَى مَزِيدٍ مِنَ الْاِنْفِتَاحِ عَلَى التَّجْرِبَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَبِخَاصَّةٍ فِي الشَّأْنِ السِّيَاسِيِّ وَالْاِجْتِمَاعِيِّ وَالْاِقْتِصَادِيِّ.

وَبِالرّغمِ مِنْ وُجُودِ بَعْضِ الْمُحَاوَلَاتِ فِي مُوَاجَهَةِ كُلِّ ذَلِكَ إِلَّا أنَّ الْمَشْرُوعَ السِّيَاسِيَّ لِلْإِسْلَامِ مَازَالَ غَامِضاً وَغَيْرَ وَاضِحِ الْمَعَالِمِ، وَقَدِ اِنْعَكَسَ ذَلِكَ فِي التَّبَايُنَاتِ بَيْنَ الْحَرَكَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي اِهْتَمَّتْ بِهَذَا الْمَشْرُوعِ، كَمَا اِنْعَكَسَ فِي فَشَلِ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ بِإقْنَاعِ الْأُمَّةِ بِالْخِيَارِ السِّيَاسِيِّ لِلْإِسْلَامِ، فَنَحْنُ أَمَامَ وَعْيٍ سِيَاسِيٍّ يُمَثِّلُ الْأغْلَبِيَّةَ، وَالطَّابِعُ الْعَامُّ لِلْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ، اِسْتَطَاعَ إِنَّ يَسْتَوْعِبَ كُلَّ الْخِيَارَاتِ السِّيَاسِيَّةِ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ يُحَقِّقِ التَّفَاعُلَ الْمَطْلُوبَ مَعَ الْخِيَارِ الْإِسْلَامِيِّ، مَعَ أنَّ الْحَالَةَ الطَّبِيعِيَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ تَسْتَوْجِبُ بُروزُ التَّيَّارِ الْإِسْلَامِيِّ كَعُنْوَانٍ سِيَاسِيٍّ، يُعَبِّرُ عَنْ مَدَى الْاِنْتِمَاءِ لِهَذَا الدِّينِ، ذَلِكَ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي يَقودُنَا مِنْ جَديدٍ إِلَى النَّظَرِ فِي طَبِيعَةِ الْاِنْتِمَاءِ، الَّذِي يَقبَلُ بِالْآخَرِ وَإِنْ كَانَ ذُو مَرْجِعِيَّةٍ مَعْرِفِيَّةٍ بَعيدَةٍ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَتَفَاعَلُ بِالْمُسْتَوَى الْمَطْلُوبِ مَعَ الْخِيَارِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَنْعَكِسَ مِنْ طَبِيعَتِهِ الذَّاتِيَّةِ.

بِهَذَا الْوَصْفِ يُمْكِنُنَا الْكَشْفُ عَنِ الدَّوَافِعِ الَّتِي حَرَّكَتْ بَعْضَ تَيَّارَاتِ الْأُمَّةِ لتبنِيَ مَشْرُوعَ الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيِّ، وَيُمْكِنُ تَلْخيصُهَا: فِي رَفْضِ الْوَاقِعِ بِمَا فِيهِ مِنْ تَخَلُّفٍ وَرَجْعِيَّةٍ وَحِرْمَانٍ، مُضَافًا الى الْكُفْرِ بِإِسْلَامِ الْأُمَّةِ الَّتِي تَبَنَّتْ كُلَّ الْخِيَارَاتِ مَا عَدَا خِيَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْحُكْمِ، وَمِنْ هَذِهِ الزَّاوِيَةِ يُمْكِنُنَا تَتَبُّعُ نُشُوءِ التَّفْكِيرِ الْمُتَطَرِّفِ الَّذِي حَاوَلَ تَبرئةَ الْإِسْلَامِ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي اِتَّهَمَ فِيهِ فَهمَ الْأُمَّةِ مُحَمِّلًا إِيَّاهُ كُلَّ الْمَسْؤُولِيَّةِ، وَلِكَيْ تُبَرِّئَ هَذِهِ التَّيَّارَاتُ الْإِسْلَامَ كَدِينٍ مِنْ سَاحَةِ الْاِتِّهَامِ، لَجَّأَتْ إِلَى التَّارِيخِ كَعُمْقٍ وِجْدَانِيٍّ، وَكَتَجْرِبَةٍ نَاجِحَةٍ- عَلَى الْأَقَلِّ فِي مُخَيِّلَةِ الْأُمَّةِ- لِتَسْتَعِيرَ مِنْهُ فَهمَ الْإِسْلَامِ، وَلِتُحَاكِمَ بِهِ الْفَهْمَ الْمُعَاصِرَ، وَبِذَلِكَ تَتَحَقَّقُ الْقَطِيعَةُ بَيْنَ إِسْلَامِ التَّجْرِبَةِ التَّارِيخِيَّةِ، وَبَيْنَ إِسْلَامِ التَّجْرِبَةِ الرَّاهِنَةِ، وَدَخلَتْ بِذَلِكَ الْأُمَّةُ فِي مَرْحَلَةٍ جَديدَةٍ مِنَ التَّنَاقُضَاتِ، فَمُضَافًا الى حَالَةِ التَّنَاقُضِ الَّتِي يُفْرِزُهَا الْوَاقِعُ الْمُعَاصِرُ، أَصْبَحَتِ الْأُمَّةُ أَيْضًا مُلْزَمَةً أَنْ تَعيشَ تَنَاقُضَاتِ الماضي، فَلَمْ تُصْبِحْ خِيَارَاتُ الْإِنْسَانِ الْمَعرِفِيَّةُ مُجَرَّدَ تَحْقِيقِ وَعْيٍ يَتَفَاعَلُ مَعَ الْوَاقِعِ، وَإِنَّمَا تَحْقِيقُ وَعْيٍ يُمْكِنُهُ الْاِلْتِفَاتُ إِلَى الْوَرَاءِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَسِيرُ قُدُماً الى الْإمَامِ، فِي عَمَلِيَّةٍ صَعْبَةٍ وَمُعَقَّدَةٍ تَصِلُ فِي أَكْثَرِ الأحيانِ الى الْكُفْرِ بِالْوَاقِعِ أَوِ الْكُفْرِ بِالماضي.

وَمِنِ الْمُؤَكَّدِ أنَّ الْإيمَانَ بِإِسْلَامِ الماضي وَالتَّأْكِيدَ عَلَيْهِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بَعْدَ الْكُفْرِ بِإِسْلَامِ الْحَاضِرِ، وَمِنْ أَجَلِ ذَلِكَ تَمَّ التَّأْكِيدُ عَلَى نِظَامِ الْخِلَافَةِ كَحَلٍّ لِأَزْمَةِ الْحُكْمِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالْكَفْرِ بِالدِّيمُقْرَاطِيَّةِ كَشَكْلٍ مُعَاصِرٍ لِلْحُكْمِ.

وَمَشْرُوعُ الْخِلَاَفَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِرُغمِ أنَّهُ يَحْمِلُ دَلَالَةَ الْاِنْتِمَاءِ لِلْإِسْلَامِ، إِلَّا أنَّهُ فِي الْوَاقِعِ يَكشِفُ عَنْ حَالَةِ تُنَاقِضٍ أَوِ اِنْفِصَامٍ ؛ فَالْإشَادَةُ بِالتَّارِيخِ هِيَ إِدَانَةٌ لِلْوَاقِعِ، وَالْإيْمَانُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ إِسْلَامٍ، يُقَابِلُهُ تَشْكِيكٌ بِمَا عَلَيهِ الْمُسْلِمُ الْيَوْمَ مِنْ إِسْلَامٍ، بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُسْلِمُ الْمُعَاصِرُ أَنْ يَقُولَ:( أَنَا مُسْلِمٌ لِأَنِّي أَعَيْشُ الْيَوْمَ إِسْلَامِي وَأُعَبِّرُ بِتَجْرِبَتِي عَنْ إيمَانِي).

وَالْإِسْلَامُ وَإِنْ كَانَ مُسَاهِماً فِعلِيَّاً فِي صُنْعِ التَّارِيخِ إِلَّا أنَّهُ لَمْ يُحَقِّقْ ذَلِكَ فِي الْحَاضِرِ، فَكُلُّ الْخِيَارَاتِ الثَّقَافِيَّةِ، وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَالْاِقْتِصَادِيَّةِ، وَالْاِجْتِمَاعِيَّةِ، وَالتَّعْلِيمِيَّةِ...

هِيَ مُنْجَزَاتٌ لَيْسَتْ إِسْلَامِيَّةً، فَإِذَا أَرَادَ الْمُسْلِمُ الْمُعَاصِرُ الْإِسْلَامَ اِنْفَصَلَ عَنِ الْوَاقِعِ وَإِنْ أَرَادَ الْوَاقِعَ اِنْفَصَلَ عَنِ الْإِسْلَامِ.

وَقَدْ كَرَّسَ الْخِطَابُ السَّلَفِيُّ هَذِهِ الْحَالَةَ وَتَفَنَّنَ فِي نَقْلِ أَمْجَادِ الماضي وَتَسْوِيقِهَا، حَتَّى أَصْبَحَ الْخِطَابُ الْأعْلَى صَوْتًا وَالْأَكْثَرُ حُضُورًا هُوَ الْإِسْلَامُ التَّارِيخِيُّ، الْأَمْرُ الَّذِي يُفَسِّرُ لَنَا بُروزَ بَعْضِ الظَّوَاهِرِ الطَّالِبَانِيَّةِ والدّاعِشيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحَرَكَاتِ الرَّادِيكَالِيَّةِ، الَّتِي تُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِيَّةٍ مَأزومةٍ هَمَّشَهَا الْحَاضِرُ فَهَرَبَتْ نَحوَ الماضي، وَمِنْ هُنَا لَا يُمْكِنُنَا اِسْتِبْعَادُ الْحَالَةِ النَّفْسِيَّةِ عِنْدَ تَحْلِيلِ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا نَسْتَبْعِدُ تَأْثِيرَ الْجَوِّ الثَّقَافِيِّ الَّذِي عَزَّزَ هَذِهِ الْحَالَةَ، كَمَا لَا يَجُوزُ اِسْتِبْعَادُ الْعَامِلِ السِّيَاسِيِّ الَّذِي وَظَّفَ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ.

وَلِتَقْديمِ قِرَاءةٍ سِيَاسِيَّةٍ مُعَاصِرَةٍ لِلْإِسْلَامِ تَسْتَمِدُّ شَرْعِيَّتَهَا مِنَ النَّصِّ الدِّينِيِّ، لَابُدَّ مِنْ مُوَاجَهَةِ الْوَعْي التَّارِيخِيِّ لِلْإِسْلَامِ، فَعَمَلِيَّةُ النَّقْدِ لِلتَّجَارِبِ التَّارِيخِيَّةِ هِيَ الْخُطْوَةُ الْأوْلَى لِتَجَاوزِ التَّرِكَةِ الثَّقِيلَةِ الَّتِي جَعَلَتِ الْأُمَّةَ مُسْتَسْلِمَةً أَمَامَ مَا أُنْجِزَ تَأرِيخيّاً، وَمِنَ الْمُفَارَقَاتِ الْمُدْهِشَةِ أنَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ تَسْتَبْعِدُ الْخِيَارَ الْإِسْلَامِيَّ فِي الْحُكْمِ لِقُصُورِ التَّجْرِبَةِ التَّارِيخِيَّةِ الَّتِي مَثَّلَتْ كَارِثَةً حَقِيقِيَّةً لِتَجْرِبَةِ الْحُكْمِ فِي الْإِسْلَامِ، وَبِخَاصَّةٍ الْعَهْدِ الْأُمَوِيِّ وَالْعَبَّاسِيِّ، وَلَكِنْ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ تَنْظُرُ بِعَيْنِ الْقَداسَةِ لِتِلْكَ التَّجَارِبِ التَّأرِيخِيَّةِ، وَلَا تَجِدُ فِي نَفْسِهَا الْجُرْأَةَ لِتَقْديمِ أَيَّ تَصَوُّرٍ مُعَارِضٍ لَهَا، وَذَلِكَ بِسَبَبِ الرَّبْطِ الَّذِي حَصَلَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ كَدِينٍ وَبَيْنَ تَجْرِبَةِ سَلَفِ الْأُمَّةِ، والأعجَبُ مِنْ ذَلِكَ أنَّ بَعْضَ الْحَرَكَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَسَّسَتْ كُلَّ تَصَوُّرَاتِهَا عَلَى تِلْكَ التَّجْرِبَةِ وَبَدَأَتْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْخِلَاَفَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ تَأَسِّيًا بِتَجْرِبَةِ الْأُمَوِيِّينَ وَالْعَبَّاسِيَّيْنَ وَالْعُثْمَانِيّين مِثْلَ حَرَكَةِ التَّحْرِيرِ.

وَيُمْكِنُنَا الْقَوْلُ: أنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ خَضعَتْ لِتَجْرِبَةٍ إِسْلَامِيَّةٍ قَاسِيَةٍ، وَعَلَى أَقَلِّ تَقْديرٍ مُنْذُ قِيَامِ الدَّوْلَةِ الْعَصَبِيَّةِ اِبْتِدَاءً مِنَ الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ مُرُورًا بِالْعَبَّاسِيَّةِ وَاِنْتِهَاءً بِسَلَاطِينِ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَقَدْ سَطَّرَ لَنَا التَّارِيخُ أَبَشَعَ أَشْكَالِ الْاِسْتِغْلَاَلِ السِّيَاسِيِّ بِاِسْمِ الدِّينِ، مِمَّا أَوَجَدَ حَالَةً فِي الشُّعُورِ أَوْ مِنَ اللَّاشُعُورِ تَسْتَدْعِي النُّفُورَ مِنَ النُّظُمِ السِّيَاسِيَّةِ ذَاتِ الصِّبْغَةِ الدِّينِيَّةِ، وَقَدْ يُفَسِّرُ لَنَا هَذَا وُجُودَ هَذِهِ الْأَنْظِمَةِ الَّتِي تَحكمُ بِسِيَاسَاتٍ لَا تَرْتَكِزُ عَلَى الدِّينِ فِي مَشْرُوعِهَا السِّيَاسِيِّ، حَتَّى أحْزَابِ الْمُعَارَضَةِ فِي أغْلَبِهَا الْأَعَمِّ لَا تُعَارِضُ تِلْكَ الْأَنْظِمَةَ مِنْ مُنْطَلَقٍ إِسْلَامِيٍ، الْأَمْرُ الَّذِي يُؤَكِّدُ أنَّ خِيَارَاتِ الْأُمَّةِ فِي السِّيَاسَةِ لَيْسَتْ إِسْلَامِيَّةً، وَوُجُودَ هَذِهِ الْأَنْظِمَةِ كَانَ نِتَاجَاً طَبِيعِيَّاً لِثَقَافَةِ الْأُمَّةِ.

فَقَدْ تَوَارَثَتِ الْأُمَّةُ عَلَى مَدَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنَاً مِنَ الزَّمَنِ شَكْلاً وَاحِداً لِلْحُكْمِ، يَتَمَثَّلُ فِي الْخِلَافَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي سَقَطَ آخِرُ أَشْكَالِهَا فِي بِدَايَةِ الْقَرْنِ الماضي، وَقَدْ قُدِّمَ الْإِسْلَامُ  طِوالَ هَذِهِ الْفَتْرَةِ بِالشَّكْلِ الَّذِي لَا يَتَنَاقَضُ مَعَ هَذَا النِّظَامِ، الْأَمْرُ الَّذِي سَاعَدَ عَلَى إبْعَادِ الْأُمَّةِ عَنِ الشَّأْنِ السِّيَاسِيِّ وإيكالِ الْأَمْرِ إِلَى مَنْ يُسَمَّى بِخُلَفَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَتَبَلَّدَتْ وَتَجَمَّدَتْ عَقْلِيَّةُ الْأُمَّةِ سِيَاسِيًّا، وَأَصْبَحَ مِنَ الصَّعْبِ إنتاجُ تَصُّورٍ سِيَاسِيٍّ يَنْتَمِي الى الْإِسْلَامِ وفِي الْوَقْتِ ذاتِهِ يَنْتَمِي الى الْوَاقِعِ الرَّاهِنِ، وَبَعْدَ سُقُوطِ هَذَا النَّمُوذَجِ وَدُخُولِ الْاِسْتِعْمَارِ وَتَجْزِئَةِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ، تَبَدَّدَ حُلْمُ الْخِلَافَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَوَقَعَتِ الْأُمَّةُ فِي حَيْرَةٍ جَعَلتها عُرْضَةً لِلْاِسْتِسلامِ أمامَ كُلِّ التَّيَّارَاتِ السِّيَاسِيَّةِ الْجَدِيدَةِ، فَبَرَزَتْ ثَقَافَةٌ  أَسَاسُهَا الْقَوْمِيَّةُ وَالْحُكُومَاتُ الْقُطرِيَّةُ، وَقَدْ سَاهَمَ أتاتورك الَّذِي أقَامَ نِظَامَهُ الْعِلْمَانِيَّ عَلَى أَنْقَاضِ الْخِلَافَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ في تَكْريسِ هَذِهِ الثَّقَافَةِ، وَبَدَأَتْ مَوْجَةُ الْقَوْمِيَّةِ تَجْتَاحُ الْعَالَمَ الْإِسْلَامِيَّ، وَتَشَكَّلَتْ حُكُومَاتٌ قَوْمِيَّةٌ قَويَّةٌ فِي مِصْرَ وَسُورِيّا وَالْعِرَاقِ، وَلَوْلَا هَزِيمَةُ الْعَرَبِ فِي حَرْبِ 67 الَّتِي أُعْتُبِرَتْ هَزِيمَةً لِلتَّيَّارِ الْقَوْمِيِّ لَما بَادَرَتْ بَعْضُ الْحَرَكَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِرَفْعِ شِعَارِ الْإِسْلَامِ، فَتَراجُعُ الْمَشْرُوعِ الْقَوْمِيّ وَإخفَاقُهُ فِي تَأسِيسِ دُوَلٍ حَديثَةٍ عَلَى غِرَارِ الدُّوَلِ الْغَرْبِيَّةِ وَتَقَاعُسُهُ أَمَامَ الْقَضِيَّةِ الْفِلَسْطِينِيَّةِ، فَسَحَ الْبَابَ لِلْحَديثِ عَنْ تَصَوُّرٍ سِيَاسِيٍّ إِسْلَامِيّ لِلْمِنْطَقَةِ مُسْتَفِيدًا مِنَ الْجُهُودِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي أَسَّسَ لَهَا جَمَالُ الدِّينِ الأفغاني وَمُحَمَّد عَبْده فِي الْقَرْنِ الثَّامِنَ عَشَر، وَحَسْنُ الْبَنّا فِي الأربعينات مِنَ الْقَرْنِ الْمُنْصَرِمِ، إِلَّا أنَّهَا تَظَلُّ جُهُوداً مَحْدُودَةً لَا تَرْتَقِي الى مُسْتَوَى الْمُنَافَسَةِ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ.

يَقودُنَا هَذَا الْأَمْرُ إِلَى ضَرُورَةِ مُرَاجَعَةِ الْعَقْلِيَّةِ الثَّقَافِيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَدِرَاسَةِ الْعَوَامِلِ الَّتِي سَاعَدَتْ فِي تَكْوينِهَا، وَالْمُرَاجَعَةُ هِي الطَّرِيقُ الْوَحِيدُ الَّذِي يُسَاهِمُ فِي الْكَشْفِ عَنِ الْاِتِّجَاهِ الْعَامِّ لِلْأُمَّةِ، وَمَعْرِفَةِ الْقِيَمِ الَّتِي تَتَحَكَّمُ فِي مَسيرِها الْمُسْتَقْبَلِيِّ، وَالْمَشْرُوعُ السِّيَاسِيُّ الْإِسْلَامِيُّ الْيَوْمَ أَمَامَ مُنْعَطَفٍ خَطِيرٍ، وَمَا زَالَتِ الْفُرْصَةُ أَمَامَهُ لِجَمعِ أَوْرَاقِهِ وَتَرْتِيبِ أَوْلَوِيَّاتِهِ وَالْعَمَلِ عَلَى بِنَاءِ خِطَابٍ إِسْلَامِيٍّ يَكُونُ فِيهِ أَكْثَرَ تَحَرُّرًا مِنَ الْإِسْلَامِ التَّارِيخِيِّ، فَالْحَرَكَاتُ الْإِسْلَامِيَّةُ أَمَامَ خِيَارَيْنِ الْأَوَّل: وَهُوَ الْعَمَلُ الدَّؤُوبُ لِرَسْمِ بَوْصَلَةٍ جَديدَةٍ لِلْأُمَّةِ ذَاتِ صِبْغَةِ إِسْلَامِيَّةٍ تَتَّصِفُ بِالْأَصَالَةِ والعَصرَنةِ مُضَافًا لِلنُّضْجِ وَالْفَاعِلِيَّةِ.

وَالْخِيَارُ الثّاني: هُوَ الْجُمُودُ عَلَى الْخِطَابِ التَّقْليدِيِّ وَمُسَايَرَةُ الْأُمَّةِ وَاِسْتِغْلَاَلُ عَوَاطِفِهَا الدِّينِيَّةِ لِتَحْقِيقِ مَكَاسِبَ سِيَاسِيَّةٍ، وَمَا يُؤسَفُ لَهُ أنَّ الْحَرَكَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ الْيَوْمَ أَقرَبُ لِلْخِيَارِ الثّاني، فَلَمْ تُقَدِّمْ تَصَوُّراً نَاضِجاً لِنِظَامِ حُكمٍ يَنْطَلِقُ مِنَ الْإِسْلَامِ الْمُتَمَثِّلِ فِي النُّصُوصِ.

وَمِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ يُمْكِنُنَا التَّأْكِيدُ عَلَى أنَّ الْبُعْدَ الْجَوْهَرِيَّ الَّذِي يُمْكِنُ الْاِرْتِكَازُ عَلَيْهِ فِي تَقْديمِ قِرَاءةٍ جَديدَةٍ لِلْإِسْلَامِ، هُوَ تَجَاوُزُ النَّظْرَةِ التَّقْليدِيَّةِ الْجَامِدَةِ الَّتِي تُصَوِّرِ الْإِسْلَامَ كَمُنْجَزٍ تَارِيخِيٍّ، وَهُوَ التّحدّي الْأكْبَرُ أَمَامَ الْحَرَكَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلَا أَظُنُّ أنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى تَحْقِيقِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَوْفَ يُمَثِّلُ رِدَّةً حَقِيقَةً عَنِ الْإِسْلَامِ الَّذِي تَشَكَّلَ وِفْقَ التَّجْرِبَةِ التَّارِيخِيَّةِ، فَالْلَّحَظَّةُ الَّتِي تَبْدَأُ فِيها هَذِهِ الْحَرَكَاتُ بِنَقْضِ التَّجْرِبَةِ التَّارِيخِيَّةِ هِي ذاتُها اللَّحْظَةُ الَّتِي تَتَخَلَّى فِيهَا عَنْ مَوْرُوثِهَا الدَّيْنِيِّ الْمُتَمَثِّلِ فِي أهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَمِنْ هُنَا نَجِدُ أَنَّ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَمِلَتْ عَلَى تَلْميعِ هَذا الْمَوْرُوثِ وَالتَّوْفِيقِ بَيْنَ مُتَنَاقِضَاتِهِ.

وَلَا يُمكِنُ الْحَديثُ عَنِ الْاِجْتِهَادِ وَإعْمَالُ الْعَقْلِ وَرَصْدُ الْمُتَغَيِّرَاتِ لِلْخُرُوجِ بِرُؤْيَةٍ سِيَاسِيَّةٍ تَنْتَمِي لِلْوَاقِعِ الرَّاهِنِ، وَمَا زَالَتِ الْأُمَّةُ مُتَرَدِّدَةٌ فِي فَتَحَ بَابِ الِاجْتِهَادِ الْفِقْهِيّ.

وَالَّذِي يَكْشِفُ عُمْقَ اِرْتِبَاطِ الْإِسْلَامِ السُّنِّيِّ بِالتَّارِيخِ ؛ هُوَ الْبَقَاءُ فِي بَابِ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، الْأَمْرُ الَّذِي يُؤَكِّدُ مَدَى تَأْثِيرِ السُّلْطَةِ السِّيَاسِيَّةِ التَّارِيخِيَّةِ عَلَى عَقْلِيَّةِ الْأُمَّةِ، وَإِلَّا كَيْفَ يُمكِنُ تَفْسِيرُ إغْلَاقِ بَابِ الِاجْتِهَادِ وَمَنْعُ الْأُمَّةِ مِنْ مُمَارَسَةِ الدَّوْرِ الَّذِي مَارَسَهُ الْأَسْلَافُ، وَلِعَدَمِ مَنْطِقِيَّةِ هَذِهِ الْفِكْرَةِ وَلِمُخَالَفَتِهَا الْوَاضِحَةِ لِشُرُوطِ الْمَعْرِفَةِ تَعَالَتِ النِّدَاءَاتُ لِفَتْحِ بَابِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَاتُ تَعْمَلُ عَلَى تَحَرُّرِ الْأُمَّةِ مِنْ هَيْمَنَةِ الماضي الْفِقْهِيَّةِ، إِلَّا أنَّهَا قَاصِرَةٌ وَمَحْدُودَةُ إِذْ لَمْ تَدْعُ الى تَحْرِيرِ كُلِّ الْفَهْمِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ تَأْثِيرِ التَّجْرِبَةِ التَّارِيخِيَّةِ.

وَبِرَغْم أنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى تُمَثِّلُ خُطْوَةً فِي الْاِتِّجَاهِ الصَّحِيحِ إِلَّا أنَّهَا مازالَتْ تَدُورُ فِي فَلَكَ الْأئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَسْمُوحِ أَنْ تَأْتِيَ الْاِجْتِهَادَاتُ الْجَدِيدَةُ مُخَالِفَةً لِلْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَدْ نَلْحَظُ ذَلِكَ فِي الدَّعْوَى الَّتِي أَطْلَقَهَا مَجْمَعُ الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ الْعَالَمِيِّ لِضَرُورَةِ فَتَحِ بَابِ الِاجْتِهَادِ حَيْثُ وَضَعَ مِنْ ضِمْنِ الشُّرُوطِ الَّتِي يَجِبُ الْاِلْتِزَامُ بِهَا  الْاِقْتِدَاءَ بِسَلَفِ الْأُمَّةِ وَمَا عَملَ عَلَيْهِ الأئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ.

وَهَذَا التَّصَوُّرُ الَّذِي يَحِنُّ الى الماضي مَا هُوَ إِلَّا نِتَاجٌ طَبِيعِيٌّ لِلْإِسْلَامِ الَّذِي تَوَارَثَتْهُ الْأَجْيَالُ، فَقَدْ عَاشَتِ الْأُمَّةُ فِي ظِلِّ الْخِلَافَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ تِسْعمِائةَ سَنَةٍ وَتَحْتَ إِدَارَةِ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِي قُرَيْشٌ، وَضِمْنَ سُلْطَةٍ دِينِيَّةٍ مُتَمَثِّلَةٍ فِي اِتِّجَاهٍ مَذْهَبِيٍّ وَاحِدٍ، وَفِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ اِكْتَسَبَتِ الْأُمَّةُ وَعَيَهَا الدِّينِيَّ وَتَشَكَّلَتْ فِيهَا مَفَاهِيمُهَا الْإِسْلَامِيَّةُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَسْمُوحِ أَبَدًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ تُفَكِّرَ خَارِجَ حُدودِ السُّلْطَةِ الْحَاكِمَةِ، فَكَانَتِ الْبَيْعَةُ لِلْخَلِيفَةِ فَرَضاً، وَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لَهُ وَاجِباً، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى ذَلِكَ قُتِلَ بِسَيْفِ الْإِسْلَامِ، كَمَا حَدَثَ لِأهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ مَجَازِرَ وَاِسْتِبَاحَةٍ لِلْحُرُمَاتِ، وَكَمَا هُدِّمَتِ الْكَعْبَةُ عَلَى رُؤُوسِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَمَا قُتِلَ الْحُسينُ بْنُ عَلِيٍّ( عَلَيْهِ السَّلامُ) فِي كَرْبَلَاءَ، وَقُتِلَ الْكَثِيرُ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ صَبْرًا أَمْثَالُ حِجْرِ بْنِ عديٍّ وَسَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ وآخرينَ، فَلَمْ يَنْعَمِ الْمُسْلِمُونَ طِوَالَ هَذِهِ الْفَتْرَةِ الطَّوِيلَةِ بِإِسْلَامِهِمْ دُونَ أَنْ يَكُونَ عَلَى رَأْسِهِمْ خَلِيفَةٌ يَسوسُهم وَحَاكِمٌ يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِمْ، فَتَشَبَّعَتْ بِذَلِكَ وَرُبِّيَتْ عَلَيْهِ وَدَرَجَتْ فِيهِ حَتَّى أَصْبَحَ الْحَالِمُونَ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ لَا يَرَوُنَ سِوَى تِلْكَ الصُّورَةِ الَّتِي حُشِّيَتْ بِهَا كُتُبُ التُّرَاثِ وَتَفَنَّنَ الْعُلَمَاءُ وَالْفُقَهَاءُ فِي نَسْجِ التَّبْرِيرَاتِ الثَّقَافِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ لَهَا، فَبَاتَ مِنَ الصَّعْبِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُقَارِبَ الْخِلَافَةَ فِي التَّارِيخِ مُقَارَبَةً سِيَاسِيَّةً بَعيدَةً عَنِ الدِّينِ وَالْعَقِيدَةِ، بِرَغْمِ أنَّ مَا حَصَلَ بِالْفِعْلِ هُوَ عَمَلٌ سِيَاسِيٌّ بِاِمْتِيَازٍ، فَلَمْ تَكُنْ سَقِيفَةُ بَني سَاعِدَة- وَهِي الْخُطْوَةُ الْأوْلَى فِي مَشْرُوعِ الْخِلَافَةِ- وَلَا آخِرُ حُكَّامِ بَنِي الْعَبَّاسِ، يُمَثِّلُ فِعْلَاً دِينِيَّاً لَهُ عِلاقةٌ بِجَوْهَرِ الْإِسْلَامِ وَتعَاليمِهِ، إِنَّمَا هِيَ السِّيَاسَةُ الَّتِي مُورِسَتْ بِكُلِّ أَشْكَالِهَا وأدَبيّاتِها.

وَهُنَا نَسْأَلُ كَمَا سَأَلَ هَانِي الْحَطَّاب عِنْدَما قَالَ:( هَلْ كَانَ عَصْرُ الْخُلَفَاءِ فَتْرَةَ حُكْمٍ دِينِي يُعَبِّرُ عَنْ رَوْحِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، أَمْ أنَّهُ حُكْمٌ سِيَاسِيُّ صِرْفٌ يُعَبِّرُ عَنِ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِفِئَاتٍ وَأَشْخَاصٍ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ؟).

وَبِرغمِ بَدَاهَةِ الْإِجَابَةِ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ إِلَّا أنَّنَا نَجِدُ أَنَّ الْوَعْيَ الَّذِي تَوَارَثَتْهُ الْأُمَّةُ لَا يَسْمَحُ بِمُجَرَّدِ التَّشْكِيكِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْخِلَافَةِ الَّذِي أُسَّسهُ كِبَارُ الصَّحَابَةِ وَسَارَ عَلَيْهِ التَّابِعُونَ، وَمِنْ هُنَا نَجِدُ قِيَادَاتِ الْعَمَلِ الْإِسْلَامِيِّ تَرْتَكِزُ عَلَيْهِ فِي مَشْرُوعِهَا السِّيَاسِيِّ الْمُعَاصِرِ.

وَمِنْ هُنَا نَحْنُ نُحَمِّلُ الْفَشَلَ السِّيَاسِيَّ لِلْمَشْرُوعِ الْإِسْلَامِيِّ على التَّفْكِيرِ السُّنِيِّ الَّذِي اِحْتَكَرَ السَّاحَةَ السِّيَاسِيَّةَ وَهَمَّشَ بَقِيَّةَ الْقِرَاءَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ 14 قَرْناً مِنَ الزَّمَانِ.

فَالتَّشَيُّعُ مَثَلاً ظَلَّ مُسْتَثْنًى وَمُسْتَبْعَداً مِنَ الْمَشْهَدِ الْعَامِّ لِلْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، مَعَ أَنَّهُ يَحْتَفِظُ بِقِرَاءةٍ خَاصَّةٍ وَفَهْمٍ يَتَجَاوَزُ الْإِسْلَامَ كَتَصَوُّرٍ تَارِيخِيٍّ يُرَادُ إِعَادَةُ إِنْتَاجِهِ مِنْ جَديدٍ، لِأَنَّهُ يَرْتَكِزُ عَلَى مَفْهُومِ الْإمَامَةِ، وَهِي فِي نَظَرِ الشِّيعَةِ ضَمَانَةٌ إلَهِيَّةٌ لِسَلَامَةِ الْمَسِيرَةِ، وَكَاِمْتِدَادٍ حَقِيقِيٍّ لِلسُّلْطَةِ الْإلَهِيَّةِ، فَالْإِسْلَامُ كَدِينٍ فِي التَّصَوُّرِ الشِّيعِيِّ لَهُ حَقُّ الْوَلَاَيَةِ عَلَى النَّاسِ، وبالتّالي لَا يَرْتَقِي أحَدٌ لِهَذِهِ الزَّعَامَةِ مَا لَمْ يَكُنْ مُمَثِّلاً فِعْلِيَّاً لِهَذِهِ الرِّسَالَةِ، سَواءٌ كَانَ فِي صُورَةِ الْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ الَّتِي يُحَدِّدُهَا النَّصُّ أَوِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَشْتَرِطُ مُحَدَّدَاتِهَا النَّصُّ نَفْسُهُ، فَالْمُجْتَمَعُ الْإِسْلَامِيُّ فِي الْمَنْظُورِ الشِّيعِيِّ بِنَاءٌ هَرَمِيٌّ يَكُونُ عَلَى رَأْسِهِ الْإمَامُ، وَالْوَلَايَةَ وَالْمُوَالَاةُ هِي الَّتِي تُحَقُّقِ التَّرَابُطَ وَالْاِنْسِجَامَ الدَّاخِلِيَّ لِهَذَا الْمُجْتَمَعِ، وَيَكْتَسِبُ هَذَا الْمُجْتَمَعُ شَرْعِيَّتَهُ الْإِسْلَامِيَّةَ مِنْ خِلَالَ الْإمَامِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ مِنْ مَرْجِعِيّاتٍ فِقْهِيَّةٍ، فَالْوَلَاءُ فِي هَذَا الْمُجْتَمَعِ لَيْسَ لِلنِّظَامِ السِّيَاسِيِّ الَّذِي يَحْكُمُ، وَإِنَّمَا لِلْإِسْلَامِ الَّذِي يَتَمَثَّلُ فِي الْإمَامِ أَوِ الْمَرْجِعِيّاتِ، فَهُوَ مُجْتَمَعٌ خاصٌّ يَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ

بِوُجُودِهِ فِي هَذِهِ الدَّائِرَةِ الَّتِي تَجعلهُ مُجْتَمَعًا إِسْلَامِيًّا بِاِمْتِيَازٍ، وَبِهَذَا تَتَحَقَّقُ أَوَّلُ مُفَارَقَةٍ بَيْنَ الْمُجْتَمَعِ السُّنِيِّ الَّذِي يَنْتَظِمُ وَيَتَّجِهُ وَلَاؤهُ نَحْوَ النِّظَامِ السِّيَاسِيِّ الَّذِي يَحْكُمُ، وَبَيْنَ الْمُجْتَمَعِ الشِّيعِيِّ الَّذِي لَا يَعْتَرِفُ بِأَيِّ نِظَامٍ وَسُلْطَةٍ خَارِجَ سُلْطَةِ الدِّينِ الْمُتَمَثِّلَةِ فِي الْإمَامِ أَوِ الْفُقَهَاء.

فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ إِسْلَامُ السُّلْطَةِ الَّذِي تَوَارَثَتهُ الْأُمَّةُ فِي صُورَةِ الْإِسْلَامِ السُّنِيِّ، فَإِنَّ هُنَاكَ إِسْلَاماً آخَرَ ظَلَّ مُغَيّبَاً وَمُهَمَّشَاً وَهُوَ إِسْلَامُ الْمُعَارَضَةِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ فِي نُسْخَتِهِ الشِّيعِيَّةِ، وَأهَمِّيَّةُ هَذَا الْخَطِّ فِي الْوَقْتِ الْمُعَاصِرِ تَرْجِعُ إِلَى أنَّ خِطَابَهُ السِّيَاسِيَّ لَابُدَّ أَنْ يَتَجَاوَزَ النَّمَطَ التَّقْليدِيَّ لِنِظَامِ الْحُكْمِ طَالَمَا كَانَ مُعَارِضَاً لَهُ تَأرِيخياً، وَمَا حَقَّقهُ التَّشَيُّعُ مِنْ قَطِيعَةٍ حَقِيقِيَّةٍ مَعَ النُّظُمِ السِّيَاسِيَّةِ التَّارِيخِيَّةِ، مَكَّنَتْهُ مِنَ الْقَطِيعَةِ مَعَ النُّظُمِ السِّيَاسِيَّةِ الْمُعَاصِرَةِ، فَأُوجَدَ لِنَفْسِهِ إِطَارًا خَاصًّا ضِمْنَ دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ سَوَاءً كَانَ حَاكِمَاً أَوْ مَحْكُومًا.

فَبِالْمِقْدَارِ الَّذِي فُتِحَ فِيهِ بَابُ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ الشِّيعَةِ- وَلَمْ يُغْلَقْ فِي أيّ مَرْحَلَةٍ مِنْ مَرَاحِلِهِ التَّارِيخِيَّةِ- ظَلَّ بِذَاتِ الْمِقْدَارِ مَفْتُوحًا لِاِجْتِهَادَاتٍ سِيَاسِيَّةٍ.

   وَمِنْ هُنَا يَجُوزُ لَنَا أنْ نَتَصَوَّرَ التَّشَيُّعَ الْمُعَاصِرَ بِوَصْفِهِ صَاحِبَ خَلْفِيَّةٍ ثَقَافِيَّةٍ تُمَكِّنُهُ مِنْ إيجادِ قِرَاءةٍ تَجْعَلُ الْإِسْلَامَ أَكْثَرَ حَيَوِيَّةً وَتَفَاعُلًا مَعَ الْوَاقِعِ الْمَوْضُوعِيِّ، طَالَمَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِالتَّجْرِبَةِ التَّارِيخِيَّةِ كَتَصَوُّرٍ نِهَائِيٍّ لِلنِّظَامِ الْإسْلَامِيِّ، وَعَدَمُ اِعْتِرَافِ الشِّيعَةِ بِالنَّمَاذِجِ التَّارِيخِيَّةِ فِي الْحُكْمِ، يَرْجِعُ إِمَّا لِكَونِهَا تُمَثِّلُ اِنْحِرَافًا عَنِ الْمَسَارِ الرِّسَالِيِّ لِلرِّسَالَةِ الْمُتَمَثِّلِ فِي إمَامَةِ أهْلِ الْبَيْتِ( عَلَيْهِمُ السَّلامُ)، أو بِوَصْفِهَا تَجْرِبَةً مَحْكُومَةً بِظُروفِهَا التَّارِيخِيَّةِ لَا يُمْكِنُ تَكْرَارُهَا، وَمِنْ هُنَا يَصْعُبُ عَلَيْنَا إيجادُ مُشْتَرَكَاتٍ فِكرِيَّةٍ تُقَرِّبُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيِّ الشِّيعِيِّ وَبَيْنَ التَّيَّارَاتِ السَّلَفِيَّةِ.

وَإِذَا رَجَعَنَا لِلْإِشْكَالِ الَّذِي أثارَهُ السَّائِلُ يُمْكِنُنَا أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَ الْخِطَابِ السِّيَاسِيِّ الَّذِي تَمثُّلُهُ الْحَرَكَاتُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ كَنِظَامِ حَيَاةٍ يُمْكِنُهُ التَّفَاعُلُ مَعَ حَاجَاتِ الْإِنْسَانِ الْحَيَّاتِيَّةِ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَسْؤُولُ عَنْ حَالَةِ النُّفُورِ مِنَ النِّظَامِ السِّيَاسِيِّ الْإِسْلَامِيِّ عِنْدَ الْبَعْضِ، فِي حِين أَنَّ الثّاني يُمَثِّلُ الْفَهْمَ النَّاضِجَ الْقَائِمَ عَلَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ نِظَاماً مِنَ الْقِيَمِ الْمُسْتَوْعِبَةِ لِوَاقِعِ الْإِنْسَانِ فِي كُلِّ زَمَانِ.

فَالْإِسْلَامُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ نِظَامٌ قِيمِيٌّ أخْلَاقِيٌّ تَشْرِيعِي، وَلَا عَلاقَةَ لَهُ بِالشَّكْلِ أَوِ الْهَيْكَلِيَّةِ الْإِدَارِيَّةِ الَّتِي تَخضَعُ لِضَرُورَاتِ الْمَرْحَلَةِ، فَنُظُمُ الدَّوْلَةِ وَهَيْكَلِيَّتُهَا الْإِدَارِيَّةُ مِنَ الْجَوَانِبِ الْمُتَغَيِّرَةِ الَّتِي لَا يَحْتَفِظُ الْإِسْلَامُ فِيهَا بِصُورَةٍ مُحَدَّدَةٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا، وَهِي ذاتُها الزَّاوِيَةُ الَّتِي يَنْفَتِحُ فِيهَا الْعَقْلُ الْمُسْلِمُ عَلَى كُلِّ التَّجَارِبِ الْبَشَرِيَّةِ.

وَإِذَا اِعْتَمَدَنَا هَذا الْوَصْفَ الَّذِي تَقَدَّمَ يُمْكِنُنَا أَنْ نُعَرِّفَ الدَّوْلَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ بِكَوْنِهَا الدَّوْلَةَ الَّتِي تَعْتَمِدُ عَلَى النِّظَامِ الْقِيمِيِّ فِي الْإِسْلَامِ كَمَبَادِئَ دُسْتُورِيَّةٍ لِكُلِّ تَشْرِيعَاتِهَا وَقَوَانِينِهَا،

وَتَبْقَى هُنَاكَ مُعْضِلَةُ الْحُدودِ الَّتِي شَرَّعهَا الْإِسْلَامُ مِنْ قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ وَجَلْدِ الزّاني وَرَجَمِهِ إِذَا كَانَ مُحصَناً وَغَيْرِهَا، هَلْ تُمثِّلُ الْحَدَّ الْفَاصِلَ بَيْنَ النِّظَامِ الْإِسْلَامِيِّ وَغَيْرِ الْإِسْلَامِيِّ؟

فِي تَفْكِيرِ أهْلِ السُّنَّةِ لَا يُمكِنُ فَهمُ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَّا بِإقَامَةِ الْحُدودِ، بِوَصْفِهَا حُدودَ اللهِ الَّتِي لَا يَجُوزُ تَخَطِّيهَا، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ شَرعَ اللهِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَنفيذُها، وَهَذَا مَا يُفَسِّرُ لَنَا حِرْصَ الْجَمَاعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى إقَامَةِ هَذِهِ الْحُدودِ فِي الْمَنَاطِقِ الَّتِي تُسَيْطِرُ عَلَيْهَا، وَهُنَاكَ عَشْرَاتُ مَقَاطِعِ اليوتيوب تَكشِفُ عَنْ هَوَسِ الْإِسْلَامِيِّينَ فِي إقَامَةِ الْحُدودِ بِالشَّكْلِ الَّذِي تَنفرُ مِنْهُ طِبَاعُ الْبَشَرِ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ كَانَ الْحَالُ مَعَ دَوْلَةِ طَالِبَانِ، وَالْعَجِيبُ أنَّ السُّعُودِيَّةَ تُصَنَّفُ دَوْلَةً إِسْلَامِيَّةً وَهِيَ لَا تُقيمُ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا الْحُدودَ، الْأَمْرُ الَّذِي يُؤَكِّدُ مِحْوَرِيَّةَ هَذِهِ الْحُدودِ وَأهَمِّيَّتِهَا لِإقَامَةِ نِظَامٍ إِسْلَامِيٍّ وِفقاً لِلتَّفْكِيرِ السُّنِيِّ، وَالْحُكُومَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ ضِمْنَ هَذَا التَّصَوُّرِ تَتَعَارَضُ مَعَ الْمَوَاثِيقِ الدَّوْلِيَّةِ وَحُقوقِ الْإِنْسَانِ، الْأَمْرُ الَّذِي يَجْعَلُ الْمَشْرُوعَ الْإِسْلَامِيَّ بَيْنَ خِيَارَيْنِ إِمَّا الْاِعْتِرَافُ بِهَذِهِ الْمَوَاثِيقِ وَمِنْ ثُمَّ التّخلي عَنْ هَذِهِ الْحُدودِ، وَإِمَّا الْكُفْرُ بِهَذِهِ الْمَوَاثِيقِ وَمِنْ ثُمَّ إقَامَةُ دَوْلَةٍ مَعْزُولَةٍ عَنِ الْمُحِيطِ الدَّوْلِيِّ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي دَوْلَةِ دَاعِش.

وَكِلَا الْخِيَارَيْنِ يُشَكِّكُ فِي مَقدِرَةِ الْفِكْرِ السُّنِيِّ فِي إقَامَةِ دَوْلَةٍ إِسْلَامِيَّةٍ، هَذَا مُضَافًا لِلْعُقْدَةِ الَّتِي أَشَرْنَا لَهَا سَابِقَاً وَهِيَ الْعَقْلِيَّةُ السَّلَفِيَّةُ الَّتِي تُهَيْمِنُ عَلَى هَذِهِ الْحَرَكَاتِ.

أَمَّا الْحُدودُ فِي الْفِكْرِ الشِّيعِيِّ فَهِيَ لَا تُشَكِّلُ عَقْدَةً أَمَامَ إقَامَةِ دَوْلَةٍ إِسْلَامِيَّةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّوْلَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ فِي الْمَفْهُومِ الشِّيعِيِّ تُتَصَوَّرُ فِي بُعْدَيْنِ: الْأَوَّلُ هِي الدَّوْلَةُ الْإلَهِيَّةُ الَّتِي يُشْرِفُ عَلَى إقَامَتِهَا النَّبِيُّ الْأعْظَمُ (ص) مُبَاشَرَةً أَوِ الْإمَامُ الْمَعْصُومُ الْمُنْتَخَبُ وَالْمُعَيَّنُ مِنْ قِبَلِ اللهِ، وَهَذِهِ الدَّوْلَةُ تُمَثِّلُ إِرَادَةَ اللهِ بِلَا خِلَافٍ طَالَمَا ثَبتَ إستِخلافُ اللهِ لِلنَّبِيِّ وَأهْلِ بَيْتِهِ( عَلَيْهِمُ السَّلامُ)، وَمِنْ هُنَا لَا يُمكِنُ أَنْ يُفَكِّرَ الْإِنْسَانُ الشِّيعِيُّ أَنْ يَنُوبَ عَنِ الْإمَامِ لِإقَامَةِ خِلَافَةِ اللهِ فِي الْأرْضِ طَالَمَا الْإمَامُ مَوْجُودٌ، وَيَنْحَصِرُ تَكْليفُهُ حِينَئذٍ بأتِّباعهِ وَالْاِنْصِيَاعِ لِأَوَامِرِهِ، وَإقَامَةُ الْحُدودِ هُوَ مِنْ اِخْتِصَاصِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ، فَلَا يَحِقُّ لِأَيِّ إِنْسَانٍ لَمْ يُفَوِّضْهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَقطَعَ يَدَ السَّارِقِ او يَرْجُمَ الزّانيَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْحُدودِ، فَلَا يُقِيمُ الْحَدَّ إِلَّا الْإمَامُ الْمَعْصُومُ فَمَنْ لَهُ حَقُّ تَطْهِيرِ الْمُجْتَمَعِ لَابُدَّ أَنْ يَتَّصِفَ هُوَ أَوَّلاً بِالطَّهَارَةِ وَهَذَا مَا ثَبْتَ لِأهْلِ الْبَيْتِ( عَلَيْهِمُ السَّلامُ)( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرَا).

أَمَّا التَّصَوُّرُ الْآخَرُ لِلدَّوْلَةِ وَهِيَ فِي فَتْرَةِ غَيْبَةِ الْإمَامِ وَهُوَ إقَامَةُ نِظَامٍ يُحَافِظُ عَلَى الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ وَهَذَا النِّظَامُ مَهْمَا بَلَغَ مِنَ الطُّهْرِ وَالْعَدَالَةِ لَا يُمكِنُ أَنْ يَدَّعِيَ فِيهِ إِنْسَانٌ أنَّهُ مُمَثِّلٌ عَنِ اللهِ أَوْ كَاشِفٌ عَنْ إِرَادَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَكَمَا أنَّ الْفَرْدَ الْمُسْلِمَ مُكَلَّفٌ بِتَطْبِيقِ الْإِسْلَامِ عَلَى سُلُوكِهِ الشَّخْصِيِّ وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ لَا يَدَّعِي الْكَمَالَ وَالْعِصْمَةَ وَلَا يُمْكِنُهُ الجزمُ بِرِضا اللهِ تَعَالَى عَنْهُ، كَذَلِكَ الْحَالُ فِي شَأْنِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ فَهُوَ مُكَلَّفٌ أَنْ يَنْتَظِمَ فِي إِطَارٍ اِجْتِمَاعِيٍّ يُجَسِّدُ قِيَمَ الْإِسْلَامِ وَتَشْرِيعَاتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدَّعِيَ الْكَمَالَ أَوْ يَعْتَقِدَ بإِنَّهُ شَعْبُ اللهِ الْمُخْتَارِ، وَكَمَا يَجُوزُ وَصْفُ الْفَرْدِ الْمُسْلِمِ الْمُطَبِّقِ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِكَوْنِهِ مُسْلِماً كَذَلِكَ يَجُوزُ وَصْفُ النِّظَامِ الْاِجْتِمَاعِيِّ الْمُنْضَبِطِ بِقِيَمِ الْإِسْلَامِ وَتَشْرِيعَاتِهِ بإِنَّه نِظَامٌ إِسْلَامِي.

وَالْمُجْتَمَعُ الْمُسْلِمُ مَهْمَا بَلَغَ مِنْ دَرَجَاتٍ عَالِيَةٍ لَا تُؤَهِّلُهُ لِإقَامَةِ الْحُدودِ فَالْإِسْلَامُ لَا يُجِيزُ قَطْعَ يَدِ السَّارِقِ إِلَّا فِي حَالَةِ أنَّهُ وَفَّرَ لَهُ كُلَّ ظُروفِ الْحَيَاةِ الْكَرِيمَةِ وَوَفَّرَ لَهُ كُلَّ فُرَصِ الْعَيْشِ الْهَنِيِّ وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ لَا يُمكنُ أَنْ يَدَّعِيهَا أَيُّ نِظَامٍ، وَكَذَلِكَ لَا يَرْجُمُ الزّانيَ أو يَجْلِدُهُ إِلَّا إِذَا أَقَامَ لَهُ مُجْتَمَعَاً طَاهِرَاً عَفِيفَاً وَوَفَّرَ لَهُ كُلَّ فُرَصِ الزَّوَاجِ حَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ أَيُّ مُبَرِّرٍ لِلزِّنَا، وَهَذَا لَا يَعْنِي التَّنَكُّرَ عَلَى هَذِهِ الْحُدودِ أَوِ الْكُفرِ بِهَا وَإِنَّمَا يَعْنِي الْاِعْتِرَافَ بِهَا كَتَشْرِيعٍ لَمْ تَتَوَفَّرْ لَهُ شُرُوطُهُ الْمَوْضُوعِيَّةُ لِتَطْبِيقِهِ.

وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ بَيْنَ الدَّوْلَةِ الْإلَهِيَّةِ الَّتِي يُقِيمُهَا اللهُ تَحْتَ إشرافِ أنبيائهِ وَرُسُلهِ وَالْأئِمَّةِ الَّذِينَ اِخْتَارَهُمْ لِذَلِكَ وَبَيْنَ الدَّوْلَةِ الَّتِي يُقِيمُهَا الْمُسْلِمُونَ، نَظْمَا لِأَمْرِهِمْ وَاِلْتِزَامًا بِدِينِهِمْ، نَكُونُ قَدْ تَجَاوَزْنَا كَثِيرَاً مِنَ الْعُقَدِ الَّتِي تُوَاجِهُ الْمَشْرُوعَ الْإِسْلَامِيَّ الْمُعَاصِرِ، وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ قَطَعْنَا الطَّرِيقَ أمامَ كُلِّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُصَادِرَ حُرِّيَّاتِ الآخرينَ بِاِسْمِ اللهِ طَالَمَا النِّظَامُ الْمَنْشُودُ هُوَ خِيَارٌ بَشَرِيٌّ وَلَيْسَ إلَهِيّاً.

وَتَظَلُّ دَائِرَةُ الْاِجْتِهَادِ مَفْتُوحَةً أَمَامَ كُلِّ الْخِيَارَاتِ الَّتِي تُقَرِّبِ النَّاسَ لِخَيْرِهِمُ الدِّينِيّ وَالدُّنْيَوِيّ بَعْدَ أَنْ يَتِمَّ تَسَالُمُ الْجَمِيعِ عَلَى ثَوَابِتِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ هُنَا نُؤَكِّدُ عَلَى أنَّ هَذَا النِّظَامَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا فِي دَائِرَةِ الْمُجْتَمَعَاتِ الْمُسْلِمَةِ الَّتِي اِخْتَارَتِ الْإِسْلَامَ كَنِظَامٍ لِلْحَيَاةِ، وَبِذَلِكَ نَرْفُضُ كُلَّ مُحَاوَلَةٍ تَسْتَخْدِمُ الْقُوَّةُ والإكراهَ لِإقَامَةِ دَوْلَةٍ إِسْلَامِيَّة.