لماذا لم يأتِ النبيُّ بمعاجزَ حسيَّةٍ؟

Sami Lateef: أيُمكنُ أن تَردُّوا على هذا الاِشكالِ؟ انظُرْ وركِّزْ جيداً كيفَ يتحايلُ محمّدٌ على القُرشيينَ حولَ إثباتِ نبوَّتهِ وكيفَ يتهرّبُ ويبرّرُ تبريراتٍ فاشلةً تشيرُ بوضوحٍ لِكذبهِ ... ............. عَجِزَ محمّدٌ عن الإتيانِ بمعجزةٍ، ورُغمَ إلحاحِ قريشٍ الَّتي لم تكنْ تَكرهُ أن يكونَ منها نبيٌّ يأتيهِ الخَبرُ من السّماءِ، لكنَّ عُقلاءَ قريشٍ كانوا يُريدونَ إثباتاً لنبوّةِ محمّدٍ، وكانوا على يقينٍ بأنّ اللهَ لا يُمكنُ أن يُرسلَ نبيّاً دونَ أن يُؤيّدهُ ببرهانٍ منْ عندهِ، ومع إصرارِ قريشٍ وإلحاحِها يظهرُ العجزُ في إجاباتِ محمّد: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا) [الإسراء: 93] والغريبُ هنا أنّ جميعَ الأنبياءِ بشرٌ ورُسلٌ ومعَ ذلكَ أخبرَ محمّدٌ بأنّهم جاءوا بالمُعجزاتِ! فماذا يَعني هذا الرَدُّ إن لم يكنْ هروباً واضِحاً ومراوغةً بيّنةً؟! ثم يزدادُ إصرارُ قريشٍ.. ويزدادُ معهُ إحراجُ محمّد، وفي كلِّ مرّةٍ يُحرَجُ يورِّطُ نفسَهُ في ردٍّ أسوأ منَ السُّكوتِ لو أنَّهُ سكتَ!! فيكونُ الجَوابُ التّالي: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ) [الإسراء: 59] قد تَبدو هذهِ الإجابةُ منقذَةٌ لمحمّدٍ، لكنَّهُ ورَّط اللهَ في إشكاليةٍ، فمحمّدٌ هنا يُضحِّي بإلههِ من أجلِ أن يُنقذَ نفسهُ من الإحراجِ! كيفَ؟ إنَّ هذه الآيةَ صوَّرتِ اللهَ بأنَّهُ يتعامَلُ بمبدأِ التّجربةِ والخَطأ، وهذهِ وحدَها تَنفي عنهُ صفةَ الألوهيّةَ، أي أنَّهُ ببساطةٍ لم يكنْ يعلمُ الغيبَ، الأمرُ الَّذي اِضطرَّهُ للتَّجربةِ، وعِندما لم تنجحِ التّجربةُ اِمتنعَ عن تكرارِها! .. ومعَ ذلكَ لم تتوقفْ قريشٌ عنِ المُطالبةِ بالمُعجزةِ.. وهنا يجدُ محمَّدٌ نفسهُ مُضطرَّاً للَّعبِ بآخرِ أوراقهِ، فبَدَلاً من البحثِ عن إجابةٍ، يتوجَّهُ إلى التَّهديد والوعيدِ، فيقومُ بحشدِ كلِّ أفعالِ اللهِ الشّنيعةِ في الأممِ السّابقةِ، مثل الصَّيحةِ والزَّلزلةِ والخَسفِ والمَسخِ والإغراقِ بالماءِ والقصفِ بواسطةِ الطّيورِ الأبابيلِ! لكنَّ ردَّ قريشٍ كانَ مُقنِعاً ومُفحِماً وصاعِقاً، ومُنهياً لكلِّ ألاعيبِ مُحمَّدٍ: (وإذْ قالوا اللّهمَ إن كانَ هذا هوَ الحقُّ من عِندكَ فأمطِرْ علينا حِجارةً من السّماءِ أو ائتِنا بعذابٍ أليم ) [الأنفال: 32 ] فمِنْ أينَ لمحمّدٍ أنْ يأتيهِم بعذاب؟ لكنَّ محمّداً يعودُ إلى المُراوغةِ من جديدٍ لإخفاءِ عَجزهِ: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33] وهنا دَعونا نحلِّلُ هذهِ الآيةَ، لِنرى هلْ فيها مَخرَجٌ لمحمّدٍ أم لا؟ الآيةُ تتكوّنُ من جُزأين: الجُزء الأول: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ . ذكرَ محمّدٌ في القرآنِ أنَّ اللهَ: 1- أخرجَ نوحاً وأغرقَ قومَهُ. 2- أخرجَ موسى وأهلكَ آلَ فرعون. 3- أخرجَ لوطاً وأهلكَ قومَهُ. فهل يَعجزُ إلهُ محمّدٍ أن يُخرجَهُ ويُهلكَ قريشاً؟!! .. الجزءُ الثّاني: وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. ما فائدةُ الاِستغفارِ هنا، وقد قالَ القُرآنُ: (اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ باللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء:48]؟ أم أنَّ قُريشاً لم يَكونُوا مُشركينَ؟؟!! .. الخلاصَةُ: أخِي المؤمنُ.. تدبَّرْ فِي كلامِي هذَا بعقلِكَ.. فإنَّهُ كلامٌ مِن شخصٍ لا يحملُ أيّةَ ضغينةٍ على الأديانِ والمُتديّنين، إنّمَا هوَ باحثٌ يحترمُ عقلَهُ، ويبحثُ عن الحقيقةِ، ويريدُكَ أنْ تَحترمَ عقلَكَ. ألمْ يقُلْ قُرآنُكَ: (أفلا يتدبَّرونَ)، (أفلا يعقلونَ) .. (أفلا يتفكَّرونَ). أليسَ اللهُ الَّذِي تُؤمنُ بهِ يريدكَ أن تعملَ بهذهِ الآياتِ؟ أم أنَّهُ يأمُركَ بالمُقدِّماتِ، ثُمَّ يُحاسبُكَ على نتائِجِهَا؟! ريتشارد دوكينز بالعَربيّةِ.

: اللجنة العلمية

مُلاحظاتٌ عامّةٌ:

حاولَ هذا المُنكِرُ لنبوَّةِ النَّبيِّ محمّدٍ (صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ) أنْ يضعَ سيناريو لِحوارٍ غيرِ واقعيٍّ بينَ رسولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ) وبينَ قريشٍ، ورسمَ أحداثَهُ من وحيّ خيالهِ ورتَّبَ فصولَهُ بالشَّكلِ الَّذِي يخدمُ أهدافَهُ، ثمَّ مِنْ دُونِ أيِّ حياءٍ يَنصَحُنا بضرورةِ اِحترامِ العقلِ، مَع أنَّهُ وبكلِّ وقاحةٍ ينتهكُ حُرُماتِ العقلِ، ويعبَثُ بِشرفِ المَنطقِ، ويُمارسُ بكلماتِهِ الرَّذيلةَ الفكريَّةَ في وضحِ النَّهار. 

اِبتدأ كلامَهُ بِوضعِ النَّتيجةِ الَّتِي يُريدُ أنْ يَصلَ إليها بقولهِ: (انظرْ وركِّزْ جَيِّدَاً كيفَ يتحايَلُ مُحمَّدٌ على القُرشِيِّينَ..) وبالتّالِي كانَ يَسعى مِنَ البِدايةِ إلى تثبيتِ هذهِ الصُّورةِ المُزيَّفةِ فِي ذِهنيَّةِ القارئِ، فِي حِينِ أنَّ البَاحِثَ المُنصفَ هوَ الَّذِي يَضَعُ الفِكرَةَ فِي سِياقٍ مَنطقيٍّ يُتيحُ مَعهُ الفُرصةَ للقارئِ كي يُشاركَ فِي التَّفكيرِ واِستخلاصِ النّتائجِ، إلَّا أنَّهُ أرَادَ أنْ يَسُوقَنَا سَوقاً لِنَتبنَّى مَا يَقولُهُ زُورَاً وبُهتاناً على النَّبيِّ الأكرمِ (صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ)، ويبدو أنَّهُ كانَ مُتعمِّداً في اِختيارِ عِباراتٍ مؤذيَةٍ في حقِّ منْ يؤمِنُ بِقدسيَّةِ النبيّ (صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ)، الأمرُ الّذي يَكشفُ عن عُقدةٍ نَفسيّةٍ خاصّةٍ أساسُها الكراهيَةُ والحِقدُ الدَّفينُ على رسولِ الإسلامِ والمسلمين، فالّذي لا يَرى الخُلقَ الرَّفيعَ والمَنزلةَ العالِيةَ والقِيَمَ الفاضِلةَ فِي شَخصِ الرَّسولِ ويتغافلُ مُتعمِّدَاً عَنْ كُلِّ النَّماذجِ الرَّائعةِ الَّتِي سَطَّرها بِسيرتهِ العَطرةِ كيفَ يَكونُ مُنصِفاً في الحكمِ على رسولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ)؟ ذلكَ الرّسولُ الذي وقفَ عندهُ الدّارسونَ بكُلِّ إجلالٍ واِحترامٍ حتَّى مِنْ غَيرِ المُؤمنينَ برسالتهِ، فالَّذِي يُقارِبُ الحقائقَ بعقليَّةٍ مريضةٍ تَسكنها الأوهامُ وتحرِّكُهَا الثَّاراتُ الشَّخصيَّةُ لا يَحِقُّ لهُ الكَلامُ عَنْ أعظمِ شخصيَّةٍ شَهدَ بِفَضلِهَا كُلُّ العُقلاءِ، والبَاحثُ الَّذِي يَحترمُ عقلهُ فِعلاً لا يَسعُهُ إلَّا أنْ يقفَ بإعجابٍ أَمامَ شخصيّةِ الرَّسولِ (صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ) سواءٌ كانَ مؤمنَاً برسالتِهِ أو غيرَ مؤمنٍ، فالرَّسولُ مُحمَّدٌ (صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ) كإنسانٍ لا يُدانيهِ إنسانٌ فِي فَضلِهِ ومكانتِهِ، ولذلِكَ تعشقهُ كلُّ القُلوبِ الَّتِي تَهوى الكَمالَ والجَمالَ مِنْ كُلِّ الأعراقِ ومِنْ كُلِّ الأديانِ، كمَا عبَّرَ الشَّاعرُ الفرنسيُّ لامارتين بقولهِ: أعظمُ حَدثٍ فِي حياتِي هوَ أنَّنِي دَرسْتُ حياةَ رسولِ اللهِ محمّدٍ دراسةً وافيةً. أو كمَا عبّرَ شاعرُ الألمانِ غوته بقولِهِ: بحثتُ في التَّاريخِ عَنْ مَثَلٍ أعلى لهذَا الإنسانِ، فوجدتُهُ في النَّبيِّ العربيّ محمّدٍ (صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ)، وعِندمَا بلغَ غوته السَّبعينَ مِنْ عُمرِهِ، أعلنَ على المَلأ أنَّهُ يَعتزِمُ أنْ يَحتَفِلَ فِي خُشوعٍ بتِلكَ اللّيلةِ المقدَّسةِ الَّتِي أُنزِلَ فيها القُرآنُ الكريمُ على النَّبيِّ مُحمَّدٍ (صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ). بلْ حتَّى ماركس تَجدُهُ يُصَرِّحُ بِفَضلِ النَّبيّ مَعَ أنّهُ صاحِبُ إيدلوجيّةٍ خاصَّةٍ فيَقولُ: هذا النَّبيُّ إفتتحَ بِرِسالتِهِ عَصرَاً للعِلمِ والنُّورِ والمَعرفةِ، حَريٌّ أنْ تُدوَّنَ أقوالُهُ وأفعالُهُ بطريقَةٍ علميَّةٍ خاصَّةٍ، وبِمَا أنَّ هذهِ التَّعاليمَ الَّتِي قامَ بِهَا هِيَ وَحيٌّ فقَدْ كانَ عليهِ أنْ يَمحُوَ مَا كانَ مُتراكِمَاً منَ الرِّسالاتِ السَّابقةِ مِنَ التَّبديلِ والتَّحويرِ. ولَوْ قُمنَا بِرَصدِ مَا قيلَ في حقِّهِ مِنَ العُلماءِ والفلاسفةِ وكِبارِ المُفكِّرينَ والمُصلحينَ لاحتَجنَا إلى كتابٍ خاصٍّ، ثُمَّ يأتِي هَذا المُتنطِّعُ ويُصادِرُ كُلَّ هذَا المَجدِ وكلَّ هذهِ البُحوثِ العِلميَّةِ الرَّصينَةِ والتَّأريخِ النَّاصِعِ للنَّبيِّ الأكرمِ بهذهِ الكَلِماتِ البَاهتَةِ، أو يُحاوِلُ أنْ يَرسُمَ صُورَةً مُشوَّهَةً لهَذِهِ القَامَةِ السَّامقةِ، والعَجيبُ أنَّهُ وبِكُلِّ وقاحَةٍ يُطالِبُ الآخرينَ بِإمعانِ النَّظرِ فِي كَلماتِهِ الَّتِي لا تَحمِلُ غَيرَ تَعَمُّدِ الإساءَةِ وتَشويهِ الحقائقِ، كلُّ ذلكَ يَقُودُنَا إلى القَولِ أنَّ الرَّجلَ كانَ يُخادِعُ عِندَمَا دَعانَا فِي آخرِ الكلامِ إلى اِحترامِ العقلِ، كمَا أنَّهُ كانَ يَكذبُ عِندمَا قالَ: (فإنَّهُ كَلامٌ مِنْ شَخصٍ لا يَحمِلُ أيَّةَ ضَغينةٍ على الأديَانِ والمُتَديِّنينَ)، فإذَا لَمْ تَكُنْ تَحملُ ضَغينةً وأنتَ تتحدّثُ عن رَسولِ الإسلامِ بهذهِ العِبارَاتِ فماذَا عَساكَ أنْ تَقولَ لَوْ كُنتَ تَحمِلُ ضَغينةً؟!

ومِنَ المُلفتِ فِعلاً أنَّ صَاحِبَ هذا السِّيناريو أرادَ أنْ يُثبتَ عجزَ النَّبيِّ فِي إقناعِ قُريشٍ برسالتِهِ، وسخَّرَ مِنْ أجلِ ذَلِكَ كُلَّ قدراتِهِ فِي المَكرِ والخَديعةِ حتَّى أنَّهُ لَمْ يَتورَّعْ فِي رَبطِ آياتٍ قُرآنيَّةٍ بأحداثٍ اِفتراضيَّةٍ لا علاقةَ لهَا بتلكَ الآياتِ، ومعَ ذَلِكَ أغفلَ بِشكلٍ مُتعمَّدٍ الحَديثَ عَنِ المَشهدِ الخِتامِيِّ لهذا السِّيناريو ولَمْ يَتحدَّثْ عمَّا اِنتهَتْ إليهِ قريشٌ في خاتمةِ المَطافِ؛ لأنَّ ذلكَ سيَنسِفُ الأسُسَ الَّتِي بَنَى عليهَا أوهامَهُ، فقَدْ آمنَتْ قُريشٌ بالرِّسالةِ وعَمِلَتْ على تَثبيتِ أركانِهَا حتَّى دانَتْ بهَا كلُّ بلادِ العَربِ، فعُقلاءُ قريشٍ الَّذِينَ أرادَ أنْ يَنتصِرَ لَهُمْ فِي قِبالِ النَّبيِّ مُحمَّدٍ (صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ) هُمُ الّذينَ آمنُوا بالرَّسولِ بَعدَ أنْ أعجزَهُمُ القُرآنُ وأثَّرَتْ كَلِماتُهُ بِهِم، أمَّا الَّذينَ أصَرُّوا على الكُفرِ فَقَدْ حَالَتْ مَصالِحُهُمْ دُونَ ذَلِكَ، وعِندَمَا اِنتدَبُوا الوَليدَ بنَ المُغيرةِ لِيَجلِسَ معَ رَسولِ اللهِ ويسمعَ ما عِندهُ فرَجعَ إلَيهِمْ فِي غَيرِ الصُّورَةِ الَّتِي تَركَهُمْ بِهَا، فَجَاءَهُ أبُو جَهلٍ يَستطلِعُ خَبرَهُ ويَأمرُهُ بتَشويهِ صُورَةِ الرَّسولِ فقالَ لهُ كمَا فِي مُستدرَكِ الحَاكِمِ: (فو اللهِ ما فيكمُ مِنْ رَجلٍ أعلمَ بالأشعارِ منِّي ولا أعلمَ برجزِهِ ولا بقصيدِهِ ولا بأشعارِ الجِنِّ منِّي، واللهِ مَا يُشبِهُ الَّذِي يَقولُ شَيئَاً مِنْ هَذا، واللهِ إنَّ لَقولَهِ الَّذي يَقولُ حلاوةً وإنّ عليهِ لطلاوةً وإنّهُ لمُثمِرٌ أعلاهُ مُغدِقٌ أسفلَهُ وإنَّهُ لَيَعلُو ومَا يُعلى، وإنَّهُ لَيُحطِّمُ ما تَحتَهُ، قالَ: لا يَرضَى عَنكَ قومُكَ حتَّى تَقولَ فيهِ! قالَ: فدَعنِي حتَّى أُفكِّرَ، فلمَّا فكَّرَ قالَ: هذا سِحرٌ (يؤثَرُ يأثرُهُ عَنْ غَيرِهِ)، فنزلَتْ : ذَرنِي ومَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا)، ويدلُّ هذَا بوُضُوحٍ على أنَّ الَّذِينَ يَرفعُونَ رايَةَ المُعارَضَةِ ليسُوا منَ العُقلاءِ كمَا يُصَوِّرُ هذَا المُنكِرُ وإنَّمَا هُمْ مِنْ أصحَابِ المَصالِحِ والمَكاسِبِ الَّذِينَ يَخشَونَ فَواتَهَا، ولِذَا كَانُوا يَستَخدِمُونَ الأساليبَ المُلتويَةَ ويَتعمَّدُونَ الكَذِبَ ويَستَكبرُونَ على الحَقائِقِ الواضِحَةِ، ولَو طَلَبنَا مِنْ هذَا المُدَّعِي ذِكرَ شاهِدٍ واحِدٍ يُدَلِّلُ على أنَّ عُقلاءَ قُرَيشٍ - كمَا يَصِفُهُمْ - كانُوا حَريصِينَ على إثبَاتِ نبوَّتِهِ عندَمَا يقولُ: (لكنَّ عقلاءَ قريشٍ كانوا يريدونَ إثباتاً لنبوّةِ محمّد) لمَا وجدَ وثيقةً تاريخيَّةً واحدَةً تؤكِّدُ ذلِكَ، فلَمْ يَكُنْ لقُرَيشٍ مُشكِلَةٌ مَعَ شَخصيَّةِ الرَّسولِ فقَدْ كانَتْ تَعرِفُ مُحمَّدَاً قَبلَ الرِّسالَةِ بالأمانَةِ والصِّدقِ وحُسنِ الرَّأيِ وكانَتْ لا تَرى مَانِعَاً أنْ يَكونَ عَليهَا زَعيمَاً ومَلِكَاً وقَدْ عَرضُوا عليهِ ذلِكَ بالفِعلِ على أنْ لَا يُسَفِّهَ أحلامَهُمْ، حتَّى قالَ قولَهُ المَشهورَ: (واللهِ؛ لو وَضعوا الشَّمسَ فِي يَمينِي، والقمرَ في يَسارِي، على أن أترُكَ هذا الأمَرَ، حتَّى يُظهِرَهُ اللهُ، أو أهلَكَ فيهِ؛ مَا تَركتهُ)، وبالتَّالِي مُشكلَةُ قُرَيشٍ الأساسيَّةُ هِيَ مَا تُمَثِّلُهُ هذِهِ الرِّسَالَةُ مِنْ تَهديدٍ للنِّظَامِ الاِجتماعيِّ وتَركيبَتِهِ الطَّبقيَّةِ، وعِندَمَا أصبَحَ الإسلامُ مُهدِّدَاً لمَصالِحِ الطَّبقَةِ المُترَفَةِ بدأَ الحِجاجُ واللِّجاجُ، بَلْ وَصلَ الأمرُ إلى الإيذاءِ المَادِّيِّ ومُحاولاتِ التَّصفيَّةِ الجَسديَّةِ، وعليهِ فإنَّ ما يُسمِّيهُمْ بعُقلاءِ قُرَيشٍ ليسُوا إلَّا أصحابَ المَصالحِ من الطَّبقاتِ المُترَفَةِ والمُستَكبرَةِ، أمَّا عُقلاءُ العَربِ على الحَقيقةِ همُ الّذينَ اِلتَحقُوا بدَعوتِهِ وصَدَّقُوا نُبوّتَهُ. 

المُناقشةُ التّفصيليّةُ: 

إستدلَّ بقولهِ تَعالَى (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا) بأنَّ الرّسولَ كانَ يتهرَّبُ مِنَ الإتيانِ بالمُعجزةِ، ومِنَ الواضِحِ أنَّ هذا النَّوعَ مِنَ الإستنتاجِ فيهِ تَحامُلٌ غَيرُ مُبرَّرٍ ولا تَخدِمُهُ الشَّواهِدُ التَّأريخيَّةُ ولا السِّيَاقُ العَامُّ للآياتِ القُرآنيَّةِ هذَا مُضافَاً إلى أنَّهُ يُخالِفُ المَعنَى العَامَّ لفلسفةِ الرِّسالةِ والنُّبوَّةِ، وحتَّى يَتّضحَ ذلكَ لابُدَّ مِنَ الرُّجوعِ إلى السِّياقِ الَّذِي جاءَتْ فيهِ هذِهِ الآيَةُ، فقَدْ جاءَتْ ضِمنَ تَسلسُلٍ طَبيعيٍّ للآيَاتِ، فقَدْ جاءَ قبلَهَا قولُهُ تَعالَى: (قُل لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (88 الإسراء)، وقَدْ دلَّتْ هذِهِ الآيةُ على أنَّ القُرآنَ هُوَ المُعجِزَةُ الدَّالَةُ على صِدقِ النَّبيِّ مُحمَّدٍ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ)، وذلِكَ بَعدَ أنْ تَحدَّاهُمْ أنْ يَأتُوا بمِثلِهِ بَعدَ أنْ أكَّدَ لَهُم مُسبَقَاً عَجزَهُمْ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ اِستعانُوا بالجِنِّ، وفِي ذَلِكَ كَسرٌ لِغُرُورِ العَربِ الّذِينَ يَعتبِرُونَ أنفُسَهُمْ أهْلَ الفَصاحَةِ والبَلاغَةِ، وكمَا يُقالُ أصبحَتِ الكُرَةُ في ملعَبِ قُرَيشٍ خاصَّةً والعَربِ عامَّةً إمَّا أنْ يأتُوا بمِثلِهِ وإمَّا أنْ يُسلِّمُّوا أنَّهُ مِنَ اللهِ تعالَى، وهُوَ تَحدٍّ بسيطٌ ويَنسَجِمُ مَعَ طَبيعةِ الثّقافةِ العَربيَّةِ تِلكَ الفَترةِ، وبالتَّالِي مِنَ السَّهلِ أنْ يَأتُوا بمِثلِهِ أو أحسَنَ مِنْهُ طالمَا هُوَ مِنْ صُنعِ الإنسَانِ، ويَكونُ الرَّسُولُ بذَلِكَ قدَّمَ لهُمْ فُرصَةً ذهبيَّةً عِندمَا جَعلَ التَّحديَ ضِمنَ المَلعبِ الَّذِي خَبِرُوهُ جيِّدَاً، ومعَ ذَلِكَ فَشِلُوا فَشَلاً ذَريعَاً، وأصبَحُوا يَجعلُونَ أصابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ حتَّى لا يَسمَعُوا آيَاتِ القُرآنِ، ومَعَ أنَّ القُرآنَ كَانَ هُدىً وبَصائِرَ يَهدي النَّاسَ إلى الَّتِي هِيَ أقوَمُ إلَّا أنّهُمْ رَفَضُوا وعانَدُوا، مِمَّا يَعنِي أنَّ قَرارَ الكُّفرِ كانَ لِمُجرَّدِ الجُحودِ والإنكارِ، ولا عِلاقةَ لهُ بالمَعاجزِ المَاديّةِ، ولِذَا جَاءَتِ الآيةُ بَعدَ هذهِ الآيةِ مُباشرةً بقولهِ: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) (89 الإسراء). ولأنَّهُمْ عَجِزُوا عَنِ الإتيَانِ بمِثلِ القُرآنِ ولَمْ يَكُنْ أمَامَهُمْ سَبيلٌ غَيرُ الاِعتِرَافِ والإقرَارِ للرَّسولِ الأكرمِ، عَمَدُوا إلى أسلوبٍ آخرَ وهُوَ أنْ يَأتُوا كُلَّ مرَّةٍ بطَلَبٍ، فتَحدَّثَتِ الآيَاتُ الَّتِي جاءَتْ فِي مَا بَعدُ عَنْ تَمنِّيَّاتِهِم الَّتِي تُعَبِّرُ عَنْ مَدى جُحودِهِمْ وإنكارِهِم للحَقِّ، فمَرَّةً يَطلُبونَ مِنْهُ أن يُفجِرَ الأرضَ يُنبُوعَاً ومرَّةً يَطلبونَ أنْ تكونَ لَهُ جَنّةٌ يُفجِرُ الأنهارَ خِلالَهَا تَفجيرَاً، ومرَّةً يَطلبونَ مِنهُ أنْ يُنزِّلَ عليهِمْ مِنَ السَّماءِ كِسَفاً، ومرَّةً يَطلبونَ منهُ أن يأتيَ باللهِ والملائكةِ أو يكونَ لهُ بَيتٌ مِنْ زُخرُفٍ أو يَرقَى إلى السَّماءِ وغيرِ ذلكَ منَ الحُجَجِ الّتي يَتهرَّبونَ بِهَا عَنْ قَبولِ الحَقِّ، قالَ تعالى: (وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا) (93 الإسراء). ولَو وَجبَ على اللهِ أن يَأتِيَهِمْ بِكُلِّ مَا يَقترحونَهُ من الآياتِ لوجَبَ عليهِ أنْ يأتِيَهم بِمَنْ يَختارونَهُ مِنَ الرُّسلِ، ولَجازَ لكلِّ إنسانٍ أنْ يقولَ: لا أؤمنُ حتّى تأتيَ بآيةٍ خلافَ ما طلبَ غَيرِي. ممَّا يَجعلُ التَّدبيرَ بِيَدِ النّاسِ لا بيدِ اللهِ وهذا نَقضٌ لِغرضِ البِعثَةِ من الأساسِ. فحتَّى الأنبِياءُ السَّابقونَ عندَمَا جاءُوا بِمُعجِزَاتٍ تُناسِبُ الوَاقِعَ الثَّقافيَّ الَّذِي كانُوا فِيهِ لا يَعنِي أنَّهُمْ كَانُوا يَستطِيعُونَ ذلكَ على نَحوِ الاِستِقلالِ عَنِ اللهِ ولَمْ يُخرِجْهُمْ ذَلِكَ عَنْ كَونِهِمْ بَشَرَاً، أجرَى اللهُ تِلكَ المعاجِزَ على أيديهِمْ ولَيسَ بِمَقدُورِهِمْ صُنعُ شَيءٍ مِنْ دُونِ مَشيئةِ اللهِ وإرادتِهِ، فَلا وُجُودَ لأيِّ تَناقُضٍ بَينَ مَوقِفِ النَّبيِّ ومَوقِفِ الأنبياءِ السَّابقينَ فالجَميعُ مَأمورُونَ بأمرِ اللهِ الّذِي يُجرِي مَا يَشاءُ مِنَ المَعاجزِ على أيديهِم. والمُشكلَةُ الَّتِي كانُوا يُعانُونَ مِنهَا لَيسَتِ التّدليلُ على صِدقِ الرَّسولِ وإنَّمَا فِي نَوعيَّةِ الرَّسولِ حَيثُ كانُوا لا يَتَصوَّرونَ أنْ يَكونَ رَسُولُ اللهِ بَشرَاً كَغيرِهِ مِنَ البَشَرِ، ولِذَا جَاءَ بَعدَهَا مُباشَرَةً قولُهُ تَعالَى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولًا) (94).

أمَّا قولُهُ: (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ) [الإسراء: 59] قد تَبدو هذهِ الإجابَةُ مُنقِذَةً لمُحمَّدٍ، لكنَّهَا ورَّطَتِ اللهَ فِي إشكاليَّةٍ، فمُحمَّدٌ هُنَا يُضَحِّي بإلهِهِ مِنْ أجلِ أنْ يُنقِذَ نفسَهُ مِنَ الإحرَاجِ! كَيف؟ إنَّ هَذهِ الآيةَ صوَّرتِ اللهَ بأنَّهُ يتعاملُ بمبدأِ التَّجربةِ والخَطأِ..). 

وهذَا مُنتَهَى السَّذاجَةِ فِي التَّفكيرِ وفِي فَهمِ دَلالاتِ اللُّغَةِ، مُضافَاً إلى أنَّهُ تحامُلٌ وتَحريفٌ وإخراجٌ للكلامِ عَنْ سِياقِهِ الطَّبيعيِّ، فقَدْ كَشفَتِ الآيَةُ عَنْ فَلسفَةِ الإتيانِ بالآياتِ وبيَّنتِ الحِكمةَ مِنهَا، ومتَى مَا تَرتَفِعُ الحِكمَةُ ترتَفِعُ الضَّرورَةُ المُوجِبَةُ لإرسالِ الآياتِ، وإليكَ الآيةُ بتمامِهَا، قالَ تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ۚ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) فقد علَّلتِ الآيةُ بشكلٍ واضحٍ ومباشرٍ الحِكمةَ من إرسالِ الآياتِ وهيَ قولُهُ تَعالى: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) وبالتَّالِي فالهَدفُ مِنْ إرسالِ الآياتِ هُوَ التَّخويفُ حتَّى يتمَّ الاِنصياعُ للحقِّ، وإذا كانَ بالإمكانِ الوُصُولُ لهَذا الهَدفِ مِنْ غَيرِ إرسالِ الآياتِ لا يَكونُ هُناكَ مُبَرِّرٌ لإرسالِهَا، وإذَا أرسَلَ اللهُ الآياتِ لقَومٍ ثُمَّ كَذّبُوا بِهَا لأوجَبَ عليهِمُ العَذابَ فِي الدُّنيا قَبلَ الآخرَةِ، وبالتَّالِي فالهَدفُ الأساسيُّ هوَ هِدايةُ النّاسِ وهذهِ الهِدايَةُ تَتحقّقُ ضِمنَ تدرُّجٍ طَبيعيٍّ أوَّلُهُ الإرشادُ والدَّعوى بالَّتِي هِيَ أحسَنُ، أمَّا التَّخويفُ بالآياتِ فهُوَ آخِرُ العِلاجِ كمَا يُقالُ فِي المَثلِ: آخِرُ العِلاجِ الكَيُّ بالنَّارِ، وعِندمَا يَكونُ هُناكَ إصرارٌ على الكُفرِ وعِنادٌ مِنَ الجَميعِ أو الأكثريَّةِ يُجرِي اللهُ لهمُ المَعاجِزَ الّتِي تُناسِبُ بيئتَهُمْ فمَثلاً قَومُ صَالحٍ الَّذينَ أشارَتْ إليهِمُ الآيةُ كانَتْ مُعجزتُهُمْ هِيَ إخراجُ النّاقةِ من الجَبلِ باعتِبارِ أنَّهُمْ كانُوا يَهتمُّونَ بالرَّعِيِّ والاِبِلِ، وبعدَ ذلكَ ليسَ أمامَهُمْ إلَّا الإيمانُ والتَّصديقُ أو العَذابُ والهَلاكُ، وعليهِ فمِنَ الطَّبيعيِّ أنْ لا يَبدأ الأمرُ بأرسالِ الآياتِ لأنَّ التَّكذيبَ بِهَا يَعنِي الهَلاكَ، وقَدْ أخبَرَنَا اللهُ فِي كِتابِهِ كَيفَ عَانَى الأنبياءُ مَعَ أقوامِهِمْ وكَيفَ كَانُوا يَحرُصونَ عَلى هِدايَتِهِمْ حَتَّى مَكثَ بَعضُهُمْ فِي قَومِهِ ألفَ سنَةٍ إلَّا خَمسِينَ عامَاً كنَبيِّ اللهِ نُوحٍ ومعَ ذلكَ يُصرُّونَ على الكُفرِ فيَحِقُّ عليهِمْ عَذابُ اللهِ، قالَ تَعالى: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) (27 نوح). فَرَحمةُ اللهِ على العِبادِ تَقتضي أنْ تُستَنفذَ معَهُم كلُّ السُّبلِ المُمكِنةِ لِهِدايتِهم، والّذينَ يُصِرُّونَ على هذِهِ الآيَاتِ إنَّمَا يُصِرُّونَ عليهَا مِنْ واقِعِ جَهلِهِم بالمَصيرِ الَّذِي يَستَتبِعُ ذلكَ، ولِذَا اللهُ أخبرَهُمْ بِسُننِ مَنْ كانَ قبلَهُمْ فكُلُّ مَنْ أتتهُمُ الآياتُ كذّبوا بِهَا وكانَ مَصيرُهمُ الهَلاكُ، ولِذَا الرَّحمَةُ تَقتَضِي الصَّبرَ عَليهِمْ حَتَّى يَهتَدُوا كَمَا حَصَلَ مَعَ النَّبيِّ مُحمَّدٍ (صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ)، فلو كانَ اللهُ إستجابَ لهُم منَ اليومِ الأوّلِ واظهرَ لهُمُ المُعجزةَ الّتي طَلَبوها ثمَّ لم يُؤمنوا لكانَ مصيرُ قريشٍ كَمصيرٍ عادٍ وثمودَ وغيرِهم مِنَ الأقوامِ الّتي هلَكتْ، بالتّالي اللهُ يُخبِرُنا في كِتابهِ بانَّ الأوّلينَ الّذينَ أرسلَ لهمُ الآياتِ كَذَّبوا بها ولذلكَ لا يبادِرُ بإرسالِها حتّى لا تُكَذّبوا بها فيُصيبكُم ما أصابَهم. ولا عِلاقةَ للأمرِ بالتَّجربةِ ولا علاقةَ لها بعلمِ اللهِ بالغيبِ وإنَّما الكلامُ هوَ تعليمُ الإنسانِ الحِكمةَ من هذهِ الآياتِ. 

يقولُ: ثمّ توجَّهَ النبيُّ إلى التّهديدِ والوَعيدِ بما حدثَ للأممِ السّابقةِ لكنَّ ردَّ قريشٍ كانَ مُقنعاً.. (وإذ قالوا اللّهمَ إن كانَ هذا هوَ الحقُّ من عندكَ فأمطِرْ علينا حِجارةً من السّماءِ أو ائتنا بعذابٍ أليم) (الأنفال: 32) ثم أردفَ ذلكَ بالقولِ إنَّ الرّسولَ حتّى يتفادى هذا التّحديَّ جاءَ بقوله: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (33).

 وقبلَ التَّعليقِ على ما جاءَ لابدَّ منَ التّأكيدِ على التَّناقُضِ الّذي وقعَ فيهِ، فقَدْ قالَ فِي أوَّلِ الكَلامِ أنَّ قُرَيشَاً كانَتْ حريصَةً على التَّأكُّدِ مِنْ كَونِهِ رَسولاً ولا تَجدُ مَانِعَاً إذَا أثبتَ لَهُمْ ذَلكَ، وهذا قولهُ: (ورُغمَ إلحاحِ قُريشٍ الَّتِي لَمْ تَكُنْ تَكرَهُ أنْ يَكونَ مِنهَا نَبيَّاً يَأتيهِ الخَبرُ مِنَ السَّماءِ) ثُمَّ يأتِي هُنَا ويَستَشِهُدُ بالآيَةِ الَّتِي تَكشِفُ عَنْ عِنَادِهِمْ وتَصلُّبِهِمْ فِي رَفضِ الحَقِّ، وبالتَّالِي لَمْ يَكُنْ إظهَارُ المَعاجِزِ هِيَ مُشكلَةُ المُنكِرِينَ وإنَّمَا مُشكلَتُهُمْ رَفضُ الحَقِّ وعَدَمُ التَّسليمِ بِهِ لِكَونِهِ لَا يَنسَجِمُ مَعَ مَصالِحِهِمْ الذَّاتيَّةِ. والأمْرُ الآخَرُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ لا تَكشِفُ عَنْ رَأيٍّ عَامٍّ وتَيَّارٍ عَريضٍ كَانَ يَتَبنَّى هذِهِ المَقولَةَ وإنَّمَا جَماعَةٌ مَحدودَةٌ كمَا جاءَ فِي سَببِ النُّزولِ مِنْ أنَّ مَجموعَةً مِنْ قُريشٍ أخَذَهَا الحَسدُ على المَنزِلةِ الَّتِي نالَهَا الرَّسُولُ بالرِّسَالَةِ، كمَا رُويَ فِي الأثَرِ عَنْ يَزيدَ بنِ رومانَ ومُحمَّدٍ بنِ قيسٍ قالا" قالَتْ قُرَيشٌ بعضُها لبَعضٍ: محمَّدٌ أكرَمَهُ اللهُ مِنْ بَينِنَا (اللهُمَّ إنْ كانَ هذَا هُوَ الحَقُّ مِنْ عِندِكَ فأمطِرْ علينَا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أو اِئتِنَا بِعذابٍ أليمٍ) فلمَّا أمسَوا نَدِمُوا على مَا قَالُوا، فقالُوا: غُفرانَكَ اللَّهُمَ! فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: (ومَا كانَ اللهُ ليعذِّبْهُمْ وأنتَ فيهِمْ ومَا كَانَ اللهُ مُعذِّبَهُمْ وهُمْ يَستَغفِرُونَ)، وبالتَّالِي الأمرُ لَا عَلاقَةَ لَهُ بالسِّينَاريُو الَّذِي رَسمَهُ وأرَادَ أنْ يُصَوِّرَ فيهِ أنَّ قُريشَاً جاءَتْ وهِيَ مُجتَمِعَةٌ إلى الرَّسولِ لكَيْ تَطلُبَ مِنْهُ أنْ يُنزِلَ عليهِم عذَابَاً مِنَ السَّماءِ، وإنَّمَا هِيَ حَادثَةٌ ضِمنَ ظُروفٍ مُعيَّنَةٍ لجَماعَةٍ مَحدُودَةٍ وتَراجَعُوا عمَّا قالُوا ليسَ إلَّا، وبِهَذا يتبخَّرُ كُلُّ مَا قالَهُ حَولَ مَوضُوعِ الاِستغفارِ.