مَا هُو تَفسِيرِ التَّصَرُّفِ الدِّينِيّ؟

يَقولُ المُلحِدُون.َ: لَيستْ هُنالِكَ حَضارةٌ مَعرُوفةٌ لمْ تَكُنْ فيها نُسخةٌ مِنَ الطُّقوسِ المُستهلكةِ لِلوقتِ والصَّحَّةِ، والمُثيرةِ لِلعداوةِ والتَّخيُّلاتِ المُخالِفةِ لِلواقِعِ.  ويَقُولونَ: رُبَّما أَهملَ بَعضُ المُثقَّفِينَ الدِّينَ، ولكنِ الجَميعَ تَربَّى في حَضارةٍ دِينيَّةٍ، غَيرً أَنًّ لا يَدُلَّ على أَنَّ الدِّينَ قِيمةٌ حَقِيقيَّةٌ، ومِنْ هُنا فإِنَّ بَعضَ المُثقَّفِينَ، عَليهِم في وَقتٍ ما أَنْ يَتَّخِذوا قَراراً بتَركِ الدِّينِ؛ ذلكَ أنَّ سَبَبً التَّديُّنِ هو جَهلُ الإِنسَانِ وليسَ عِلمُهُ. ويَتَساءَلُ رِيتشاردُ دُون كِنز هُنا قائلِاً: ما هو تَفسيرُ التَّصرُّفِ الدِّينِيّ؟ لمَاذا يَصومُ الإِنسانُ ويَسجِدُ ويَركَعُ ويَضرِبُ نفسَهُ بالسَّوطِ، ويُومِئُ برأسِهِ بِشكلٍ جُنونيّ أَمامً حائِطٍ، أَو يَتطوَّعُ في الحُروبِ الدِّينيَّةِ، أَو في حالاتٍ أُخرى يَنغمِسُ في تَصرُّفاتٍ مُكلِفةٍ قد تًستَهلِكُ مَوارِدَهُ المُهمَّة لِحياتِهِ وفي أَسوءِ الحالاتِ تُنهِيها؟

: اللجنة العلمية

 • أَوَّلاً: الطُّقُوسُ عُنوانُ أَوسعُ مِنَ الأَديانِ، فهُناكَ طُقُوسٌ لها عِلاقةٌ بالأَعرافِ الثَّقافيَّةِ والتَّقاليدِ المُجتًمعيَّةِ، والحَدِيثُ عَنِ الطُّقُوسِ بِوَصفِها حالةً خاصَّةً بالأَديانِ مُجانِباً لِلحقيقةِ والمَوضُوعيَّةِ، فكُلُّ الحَضاراتِ ٱحْتفَظتْ لِنفسِها بطُقُوسٍ سًواء كانَ مَصدرُها دِينِيَّاً أَو كانَ قِيمَةً مُجتَمعيَّةً، حتَّى الحَضارةِ الحديثةِ لها طُقُوسُها الخاصَّةُ حتَّى في أَرقى الدُّولِ الأُورِبِّيَّةِ، فلوِ ٱفْتَرضْنا وُجودَ طُقُوسٍ لها حالةٌ سَلبيَّةٌ على مُستوى الصَّحَّةِ أَوِ الوقتِ، يَجِبُ إِدانَتُها بوَصفِها ضَرراً لا بوَصفِها طُقُوساً؛ لأَنًّ الإِنسَانَ مَهمَا تَحضَّرَ لا يُمكِنُهُ التَّخلِّيَ عن بَعضِ الأَفعالِ ذاتِ الدًّلالاتِ الرًّمزيَّةِ.

 • ثانِياً: الإِسلامُ دِينٌ يَقومُ على رُؤيَةٍ مَعرفيَّةٍ شامِلةٍ تَهتمُّ بالإِنسانِ في كُلِّ جَوانِبِهِ الرُّوحيَّةِ والمَاديَّةِ، والعِباداتُ مِن صَلاةٍ وزَكاةٍ وحَجٍّ وصِيامٍ تَستَهدِفُ مُعالجةَ إِشكالاتٍ مُعنويَّةٍ يُعاني مِنها الإِنسَانُ، وبالتَّالي هِي جُزءٌ مِنَ الإِسهامَاتِ الرٌّوحيَّةِ الَّتي يُقدِّمُها الإِسلامُ لِبناءِ إِنسانٍ مُتحضِّرٍ رُوحيَّاً قبلَ أَنْ يَكونَ مُتحضِّراً مَادِيَّاً، وعليهِ فإِنَّ التَّعبِيرَ عًنها بكلمةِ طُقُوسٍ يَستهدِفُ تَفريغَ هذهِ العِباداتِ مِن مُحتَوياتِها الطَّبيعيَّةِ. 

 • الثَّقافَةُ لا تَعني المَعلوماتُ المُجرَّدةُ الًّتي لا تُؤثِّرُ على السُّلوكِ الحَضَاري للإِنسَانِ، وإِنَّما الثَّقافةُ تُمثِّلُ الرُّؤيةَ المُنعكِسةَ مِنَ القِيَمِ الَّتي يَحملُها الإِنسانُ، فالأَمرُ المُؤثِّرُ على طَبيعةِ الثَّقافةِ إِيجَاباً أَو سَلباً هو مُحتَوى القِيَمِ الَّتي يَتبنَّاها المُثقَّفُ، فلو هَيمَنَتْ عليهِ القِيَمُ المَاديَّةُ سَتكونُ ثَقافتُهُ ماديَّةً قائِمةً على الأَنانِيَّةِ والمَطامِعِ الشًّخصِيَّةِ، ومِن هُنا كانتِ القِيَمُ الأَخلاقيَّةُ هي الَّتي تُمثِّلُ الرَّكيزةً الأُولى لِلحَضارةِ الأَخلاقيًّةِ، والدِّينُ ضِمنَ هذا الوَصفِ يُمثِّلُ الأَساسَ الطَّبيعيَّ لِهذهِ القِيَمِ الَّتي تُحقِّقُ أَسمَى غاياتِ الإِنسانيَّةَ، فإِهمَالُ المُثقَّفِ لِلدِّينِ في واقعِ الأَمرِ يُعَدُّ إِهمَالاً لِمَصدرِ القِيَمِ الأَخلاقيَّةِ. وبِذلكَ نَكتَشِفُ الإِنحَرافَ في هذهِ المَقُولةِ (ومِن هُنا فإنَّ بَعضَ المُثقَّفِينَ عَليهِم في وَقتٍ ما أَنْ يَتَّخِذوا قَراراً بِتركِ الدِّينِ).

 • قولُهُ: (ذلكَ أَنَّ سَبَبَ التًّديُّنِ هو جَهلُ الإنسانِ وليسَ عِلمُهُ) وهِي مِنَ العِباراتِ الّتي يُردِّدُها المُلحِدونَ مِن غَيرِ كَلَلٍ أَو مَلَلٍ، وإِذا سَألنا عنْ نَوعِ الجَهلِ الَّذي دَفَعَهُم للإِيمانِ باللهِ، سَيَرصُدونَ لنا عَشَرًاتِ النَّماذِج مِن إِنجازاتِ العُلُومِ الطَّبيعيَّةِ الًّتي لمْ تكُن مَعروفةَ مِن قبلُ، إِلًّا أَنًّ المُغالَطةَ تَكمنُ في أَنَّ كَلَّ ذلكَ لا علاقةَ لهُ بمَوضُوعِ الإِيمانِ باللهِ، فالسُّؤالُ الَّذي يَقودُ الإِنسانَ للإِيمانِ ليسَ هو السُّؤالُ الَّذي يَبحثُ عن طَبائعِ الأَشياءِ كما يَظُنُّ هَؤلاءِ؛ لأَنَّ الشَّيءَ الطَّبِيعيَّ يُمكنُ إِحضارَهُ إِلى المُختَبرِ وتَحلِيلَهُ وتَفكِيكَهُ ومَعرِفةَ أَجزائِهِ ونِظامِهِ الدَّاخليّ، إِلَّا أَنًّ كُلَّ ذلكَ لا يُغني عًنِ السُّؤالِ مِن أَينَ أَتى هذا الشَّيءُ؟ ومَنِ الًّذي أَوجدَهُ؟ أَو كما يُعبِّرُ السِّير بِيتر مداور - الحائِزُ على جائِزةِ نُوبل - في كِتابِهِ نَصيحةٌ لِعالِمٍ مُبتدِئٍ بقولِهِ: (لا شَيءَ يُفقِدُ الثِّقةَ في العَالِمِ قَدَرً تَصريحُهُ بأَنَّ العِلمَ يُعلًمُ أَو سيُعلَمُ قَريباً الإِجابةُ عنْ كلِّ الأَسئِلةِ الًّتي تًستحِقُّ أَن تُسأَلً، وأَنَّ الأَسئِلةَ الّتي لا تُوجَدُ لها إِجابةٌ عِلميَّةٌ لا تَستحِقُّ أَنْ تُسأَلَ وتُعتَبرُ عِلمٌ كَذِبٌ، ولا يًسألُها إِلًّا الحَمقَى، ولا يُحاولُ الإِجابةَ عنْها إِلَّا السُّذَّجُ، ويُضِيفُ: لا شَكّد أًنًّ لِلعلمِ حُدوداً لا يَستطيعُ تًجاوُزها، فالعلمُ لا يَستطيعُ الإِجابةُ عَنِ الأَسئِلةِ البَديهيَّةِ الّتي يَطرحُها علينا أَطفالُنا: كيفَ بدأ هذا الوُجودُ؟ كيفَ جِئنا هُنا؟ ما الغَرَضَ مِن حَياتِنا؟ وغَيرِها كَثيرٌ، إِنًّ هذهِ الأًسئِلةَ ليسً لها إِجابةٌ إِلًّا عِندَ الفلاِسفةِ ورِجالِ الدِّينِ).

 • التًّساؤُلُ الّذي طرحَهُ على لِسانِ ريتشر دوكنز عن العِباداتِ وما يُصاحِبُها مِن حركاتٍ، يُؤكِّدُ على الخطأِ المَنهَجيّ الًّذي يَعتمِدُهُ الإِلحادُ، فإِنْ كانَ يَسألُ عن تَفسيرٍ لِهذهِ العِباداتِ بالشَّكلِ الًّذي نُفسِّرُ بهِ مَثلا:ً (غَلَيانُ الماءِ إِذا تَعرَّضَ لِدرجاتِ حرارةٍ معيَّنةٍ)، مِنَ الطًّبيعيّ أَنْ لا يَجِدَ لها تَفسِيراً، ونُحنُ في المُقابِلِ لا نَدًّعي لها تَفسِيراً كما نُفسِّرُ الظَّواهِرَ الطّبيعيَّةَ، إِلَّا أَنّظ هذهِ مُصَادَرَةٌ لِكثيرٍ مِنَ الظَّواهِرِ الإِنسانيَّةِ، فمَثلاً مِن يُقبِّلُ يَدـ أُمِّهِ أَو يُهدِي إِلَيها وردةً لا يُمكِنُ تَفسِيرُها عِلميَّاً، وفي نَفسِ الوَقتِ لا يُمكِنُ أَنْ نَقولَ: إِنَّها تَصرُّفاتٌ بلا مَعنىً، الأَمرُ الًّذي يَجعلُنا نَبحثُ عنْ تَفسِيراتٍ لِلظواهرِ الإِنسانيَّةِ غَيرِ التَّفسِيراتِ المُختَبريَّةِ الجامِدةِ، وعليهِ، فإِنًّ هُناكَ جَوانباً مَعنويَّةً مُضافاً للِجَوانبِ الماديَّةِ لها مَظاهرُ إِنسانيَّةٌ، فالحُبُّ والجَمالُ وكُلُّ الكمالاتِ المَعنويَّةِ لا يُمكِنُ مُصَادَرَتُهُ؛ لِكونِها لا تَخضَعُ لِلتًّفسِيراتِ المُختَبريَّةِ، وهكذا العِباداتُ الّتي تُشكِّلُ مَظهًراً إِراديًّاً لِلإِنسَانِ يَجبُ فَهمُها ضِمنَ الغاياتِ والأَهدافِ، ولا يُمكِنُ تَقييمُها كَحركاتٍ مُنفصِلةٍ عنْ هَدفِها النِّهائِيّ.