هلِ السّلطةُ السّياسيّةُ وكيلةٌ على إيمانِ النّاسِ؟

يقولُ العِلمانيونَ: إنَّ التّعايشَ السّلميَّ بينَ الأديانِ ممكنٌ فقط فِي ظلِّ نظامٍ يفصلُ بينَ الدّينِ والسّياسةِ وإنَّ فرصةَ الوجودِ غيرِ المشروطِ لأيِّ دينٍ تحتَ مظلّةِ دينِ آخرَ ضعيفةٌ جدّاً، وربّمَا نستثنِي مِن ذلكَ تاريخَ دخولِ البوذيّةِ لليابانِ وتعايشَهَا السّلميَّ معَ ديانةِ الشّينتو الأصليّةِ.

: اللجنة العلمية

يَحملُ هذا الكلامُ قدراً كبيراً منَ الوجاهةِ؛ وذلكَ لأنَّ الواقعَ التّاريخيَّ لأصحابِ الأديانِ والمذاهبِ شاهدٌ على وجودِ تَبايناتٍ كبيرةٍ فيمَا بينهُم، كمَا أنَّ التّجاربَ التّاريخيّةَ تؤكّدُ أنَّ مَن كانَت لهُ الغَلبَةُ سياسيّاً وإجتماعيّاً يمارسُ إقصاءاً على الأديانِ والمذاهبِ الأخرى. وحروبُ الثّلاثينَ عاماً بينَ الكسليكِ والبروتستانتِ في القارّةِ الأوربيّةِ خيرُ شاهدٍ على ذلكَ. أمّا على مستوى المذاهبِ الإسلاميّةِ فهناكَ شواهدُ كثيرةٌ تؤكّدُ هيمنةَ بعضِهَا على البعضِ الآخرِ وحرمانهَا مِن أبسطِ حقوقِهَا في التّعبيرِ عَن نفسهَا، فمثلاً المعتزلةُ عندمَا أصبحَت مذهباً للسّلطةِ السّياسيّةِ في عهدِ المأمونِ والمعتصِم العباسيِّ عملَتْ على محاربةِ المذاهبِ الأخرى إلى درجةِ القتلِ والتّشريدِ، وعندمَا تبنّى المتوكّلُ العباسيُّ مذهبَ أهلِ الحديثِ اِنقلبَ على المعتزلةِ وصنعَ بهِم مَا كانُوا يصنعونَهُ فِي أهلِ الحديثِ، والتّاريخُ الإسلاميُّ شاهدٌ على الكثيرِ مِن هذهِ النّماذجِ؛ بلِ الواقعُ المعاصرُ زاخرٌ بمثلِ هذهِ النّماذجِ؛ فمثلاً الأقليّاتُ الشّيعيّةُ فِي بعضِ البلدانِ تحرَمُ مِن أبسطِ الحقوقِ فِي حينِ يفتَحُ المجالُ أمامَ المذهبِ الذي تتبنّاهُ السّلطةُ الحاكمةُ، إلّا أنَّ كلَّ ذلكَ لا يمنعُ مِن وجودِ بعضِ النّماذجِ التي عاشَ فيهَا الجميعُ بحريّةٍ وأمانٍ فِي ظلِّ الدّولةِ الإسلاميّةِ، كمَا هوَ الحالُ فِي الدّولةِ الفاطميّةِ التي فتحتِ البابَ أمامَ كلِّ المذاهبِ الإسلاميّةِ. 

هذهِ الصّورةُ المُظلمةُ للواقعِ السّياسيِّ في البلادِ الإسلاميّةِ دفعتِ البعضَ إلى تبنِّي النّظمِ العلمانيّةِ التي تُبعدُ الدّينَ عنِ السّلطةِ الحاكمةِ وتَستبدلهَا بالمواطنةِ كمعيارٍ للحقوقِ والواجباتِ بينَ الجميعِ، إلّا أنَّ هذا الخطابَ لا يقفُ عندَ هذا الحدِّ وإنّمَا يتحوّلُ هوَ أيضاً إلى نظامٍ شموليٍّ يعملُ على محاربةِ الدّينِ منَ الأساسِ، والتّجاربُ العلمانيّةُ فِي المنطقةِ الإسلاميّةِ لم تقدِّم صورةً مشرقةً للحريّاتِ بل على العكسِ مِن ذلكَ عملَتْ على محاربةِ الإسلامِ ومحوِ الهويّةِ المجتمعيّةِ، مثلَ التّجربةِ التّركيّةِ على يدِ أتاتورك والتّجربةِ التّونسيّةِ على يدِ بورقيبة وغيرهَا منَ النّماذجِ التي جعلتْ محاربةَ الدّينِ هدفاً للسّلطةِ الحاكمةِ، الأمرُ الذي يؤكّدُ أنَّ الإشكاليةَ ليسَت في الإسلامِ وإنّمَا فِي الإنسانِ المسلمِ الذي إعتادَ على الإقصاءِ، فالإسلامُ في المبدأِ العامِّ لا يجيزُ كبتَ الحريّاتِ بَل يؤكّدُ على ضرورةِ فتحِ المجالِ للعيشِ الكريمِ أمامَ كلِّ الأقليّاتِ، قالَ تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ). وقالَ تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا ۗ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ). وبالتّالِي لا وجودَ لسلطةٍ سياسيّةٍ في الإسلامِ لهَا حقُّ الوكالةِ على إيمانِ النّاسِ، وكلُّ سلطةٍ تدّعِي هذهِ المرتبةَ باسمِ الإسلامِ هيَ سلطةٌ شموليّةٌ لا علاقةَ لهَا بالإسلامِ مِن قريبٍ أو بعيدٍ، فالخوارجُ الذين حاربُوا الإمامَ عليّاً (عليهِ السّلامُ) بعدَ أن انتهتِ الحربُ قالَ في حقهِم: (إخوانُنَا بغَوا علينَا لا نمنعهُم مساجدنَا).