هل يقدّمُ الإلحادُ فهماً للحِكمةِ مِن الظّواهرِ الكونيّةِ؟

يقولُ المُلحدونَ: إنّ الكتابَ المقدّسَ فيهِ قصصٌ وحكاياتٌ لا يمكنُ أن نقبلهَا. ويستدلّونَ بمَا جاءَ فِي هذا الكتابِ حولَ الطّوفانِ، وأنَّ ربّنَا عزَّ وجلَّ أغرقَ البشريّةَ بسببِ عدمِ إيمانهم بهِ، بينمَا نجَّى الحيواناتِ، فربّنَا قضَى على البشريّةِ كلّهَا، وحفظَ عائلةً واحدةً هيَ عائلةُ نوحٍ ومَن آمنَ بهِ، وعددهم قليلٌ. أو يقولونَ فِي قصّةِ لوط إنَّ اللهَ دمّرَ مدينةً بأكملها وقضى على كلِّ مَن كانَ فيهَا، وحتّى زوجتهُ لأنّهَا تجرّأت ونظرت إلى خلفِهَا وكانَ ذلكَ محرّمَاً عليهَا، فكانت مِنَ الغابرينَ، ومِن خلالِ ذلكَ يحاولُ هؤلاءِ أن يبيّنوا أنّ الكتابَ المُقدّس يروّجُ لأمورٍ شرّيرةٍ تُخالِفُ الأخلاقَ.

: اللجنة العلمية

مِنَ المعلومِ أنَّ الفلسفةَ الإلحاديّةَ لا تمتلِكُ التّبريرَ الفلسفيَّ الذي يجعلُهَا تحاكمُ الأديانَ أخلاقيّاً، وقَد وضّحنَا ذلكَ فِي ردودٍ سابقةٍ وكشفنَا عَن عجزِ هذهِ الفلسفةِ فِي تقديمِ رؤيةٍ أخلاقيّةٍ، ومعَ ذلكَ تحاولُ تسويقَ نفسِهَا كمهتّمٍّ ومُدافعٍ عنِ الأخلاقِ فِي قِبالِ الأديانِ، والحقيقةُ أنَّ المُلحدينَ ليسوا إلّا مُخادعينَ لا يَكترثونَ للإنسانِ ولا يَهتمّونَ بأمرهِ، والذي يُؤكّدُ ذلكَ سكوتُهُم عن كلِّ الاِنتهاكاتِ الأخلاقيّةِ التي تَرعاهَا الأنظمةُ الكُبرى مِن استعمارٍ للدّولِ وسَرقةِ خيراتهَا وإبادةِ شعوبِهَا، فيتغافلونَ عَن كلِّ ذلكَ لِيحدّثونَا عنِ اللّاأخلاقيّةِ فِي إغراقِ قومِ نوحٍ وعذابِ قومِ لوط ، فِي حالةٍ منَ التّسطيحِ والاِستخفافِ الواضحِ بالعقولِ، ومِنَ المُؤسفِ أنَّ بعضَ السُّذّجِ يصدّقونَ ذلكَ ويَنساقونَ وراءَ هذهِ الدّعايةِ المُضلّلةِ، فِي حينِ أنّ الإلحادَ وعندَ أوّلِ فرصةٍ تمكّنَ فيهَا منَ الحُكمِ إرتكبَ أبشعَ الجرائمِ في حقِّ الإنسانِ، وذلكَ فِي ما قامَت بهِ الدّولةُ الشّيوعيّةُ التي مثّلتْ أقسى نموذجٍ يَتبنّى الإلحادَ، ففِي الكتابِ الأسودِ للشّيوعيّةِ والذي صدرَ عامَ 1997م، لمجموعةٍ منَ الأكاديميّينَ بَحثوا عَن عددِ ضَحايا الأيدولوجيا الشّيوعيّةِ المُعاديةِ للدّينِ بعدَ أن أصبحتْ مَذهباً في روسيا والبلادِ المُجاورةِ كعقيدةٍ ماديّةٍ تأريخيّةٍ صُلبةٍ، وارتُكِبَتْ بِسببهَا جرائمُ فظيعةٌ فِي حقِّ البشرِ، في روسيا والصّينِ وكمبوديا وغيرها.

وعليهِ فإنَّ الخِطابَ الإلحاديَّ غيرُ مؤهّلٍ لمحاكمةِ الأديانِ أخلاقيّاً، وما يُثيرهُ مِن شبهاتٍ حولَ مَا وقعَ لبعضِ الأممِ السّابقةِ لا يمكنُ أن يُفهمَ ضِمنَ المِعياريّةِ الأخلاقيّةِ، فهيَ وقائعٌ شبيهةٌ بحالِ الزّلازلِ والبَراكينِ والفَيضاناتِ والأعاصيرِ التي مَا زالتْ تحدثُ وتتسبّبُ فِي هلاكِ آلافٍ منَ البشرِ، والفرقُ بينَ المؤمنِ والملحدِ فِي تقييمِ هذهِ الظّواهرِ هوَ أنَّ المؤمنَ لا ينظرُ لهَا بعيداً عَن وجودِ إرادةٍ إلهيّةٍ لهَا حِكمةٌ مِن كلِّ ذلكَ ومهمّةُ الإنسانِ هيَ فهمُ هذهِ الحِكمةِ، وذلكَ إنطلاقاً مِن أنَّ كلَّ مَا يحدثُ في الكونِ لا يكونُ عَبثيّاً. أمّا المنظورُ الإلحاديُّ لهذهِ الظّواهرِ قائمٌ على عبثيّةِ الكونِ وغَضبِ الطّبيعةِ كمَا يسمّونهُ في كثيرٍ منَ البرامجِ الوثائقيّةِ، فالمشكلةُ لا يمكنُ تَلخيصهَا فيمَا حَدثَ لقومِ نوحٍ وإنّمَا فيمَا يحدثُ اليومَ مِن كوارثَ طبيعيّةٍ، فالأجدرُ هوَ مناقشةُ مَا يحدثُ اليومَ مِن ظواهرَ وليسَ مناقشةُ ما حدثَ فِي الأزمانِ الغابرةِ، فهلِ الإلحادُ قادرٌ على تقديمِ تصوُّرٍ أخلاقيٍّ لهذهِ الكوارثِ؟ وإن كانَ غيرَ قادرٍ فلماذا يُحاكِمُ المؤمنينَ أخلاقيّاً عندمَا يتحدّثونَ عَن نفسِ هذهِ الحوادثِ ولكن في أزمانٍ ماضيةٍ؟ 

وبكلمةٍ مختصرةٍ نقولُ: إنّ هلاكَ الإنسانِ ببعضِ الظّواهرِ الطّبيعيّةِ حقيقةٌ لم تكتشفهَا الأديانُ وإنَّمَا واقعٌ يشهَدُهُ الإنسانُ بشكلٍ يوميٍّ، وتحوُّلُ البشريّةِ إلى الإلحادِ لا يوقفُ هذهِ الظّواهرَ، والإنسانُ فِي قبالِ هذهِ الظّواهرِ أمامَ خيارينِ، الأوّلُ: أن يعتقدَ أنَّ الكونَ قائمٌ على نُظمٍ وقوانينَ دقيقةٍ تقفُ خلفهَا حِكمةٌ وإرادةٌ إلهيّةٌ، وبذلكَ يبنِي الإنسانُ فهمَهُ ومعرفتَهُ اِستناداً على هذا الوعي، فيؤمنُ بوجودِ إلهٍ خلقَ الكونَ والإنسانَ لهدفٍ معيّنٍ، وبالتّالي لا يقعُ شيءٌ فِي الدّنيا إلّا مِن أجلِ خدمةِ الهدفِ الأساسِ الذي خُلِقَ الإنسانُ مِن أجلهِ، وعليهِ تصبحُ الظّواهرُ الكونيّةُ ضِمنَ هذهِ الفلسفةِ الشّاملةِ رسائلَ تنبيهيّةً للإنسانِ ليُصحِّحَ مسارَهُ الذي خُلقَ مِن أجلهِ، أو أيِّ حِكمةٍ أخرى، المهمُّ أنّهَا ليست عَبثيّةً. أمّا الخَيارُ الثّاني: فهوَ الاِعتقادُ بأنَّ الكونَ حالةٌ عبثيّةٌ وفوضى عارمةٌ لا تقفُ خلفَها حِكمةٌ ولا تمضِي لتحقيقِ هدفٍ، والإنسانُ أمامَ هذا المشهدِ تَنتابهُ حَيرةٌ وحالةٌ منَ اللّاوعي فيشعرُ معهَا بالقلقِ والاِضطرابِ، فهوَ لا يعلمُ مِن أينَ أتى؟ ولماذا أتى؟ وإلى أينَ يمضِي؟ وليستْ لهُ معرفةٌ بحقيقةِ الكونِ وسرِّ وجودهِ ولا يفهمُ ما يقعُ فيهِ مِن ظواهرَ وأحداثٍ، فقَد وجِدَ الإنسانُ ورُمِيَ بهِ في هذا الوجودِ كأيِّ حيوانٍ أو جمادٍ لا يفهمُ ماذا يحدثُ لهُ.

وإذا كانَ الإلحادُ قد اختارَ الخيارَ الثّانِيَ فكيفَ يحقُّ لهُ بعدَ ذلكَ الاِعتراضُ على تفسيراتِ المؤمنينَ للظّواهرِ الكونيّةِ؟

وفِي الختامِ نقولُ: أنَّ العقلاءَ لا يستنكرونَ وقوعَ العذابِ على مَن يستحقُّهُ، ومثلمَا أنَّ هناكَ بعضَ الذنوبِ عقابُهَا فرديٌّ، هناكَ ذنوبٌ عقابُهَا جماعيٌّ، قالَ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (97 النساء). وما وقعَ على الأممِ السّابقةِ مِن عذابٍ يُعدُّ نتيجةً طبيعيّةً لأفعالِهم، بعدَ أن تمَّ تَحذيرُهم وتَنبيهُهم بمخاطرِ مَا يفعلونَ، قالَ تعالى: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا) (الكهف:59). وبالتّالي هلاكُ البعضِ كانَ مِن أجلِ الحفاظِ على المسيرةِ التّكامليّةِ للبشرِ.