إنّ وجود الله ينافي حرية الإنسان.

تقرير الشبهة: إنّ الاعتقاد بوجود الله، أو الخالق، والإله، يساوي الاعتقاد بالعبودية الّتي هي نقيض الحرية.

: اللجنة العلمية

جواب الشبهة:

قبل الدخول في الجواب علينا أن نبدأ بتحديد مفهومين، وردا في هذه الشبهة، هما:(الله) و(الحرية).

أمّا المفهوم الأول: وهو الله، ويعني به الإله المتكامل من جميع الجهات وغير محدود وله صفات هي عين ذاته، وله كمال مطلق غير مقيد، وهو الذي أوجد عالم الدنيا وكل هذه الموجودات ومنها الإنسان، ويسميه البعض الخالق، والإله، الذي يطلق عليه اسم (الله)، والذي يهمنا من هذا المفهوم، وما يتعلق به من موضوع بحثنا هو صفة المراقبة، والمحاسبة للخلق، فهذه الصفة هي الّتي أثارت جدلاً واسعاً في الموضوع، إذ لو كانت البشرية تعتقد بأنّ الإله خلق الخلق، ثم تركهم بلا حساب، ولا رقابة لما كانت هنالك من مشكلة في البين. 

المفهوم الثاني: الحرية، وهذا المفهوم، هو أهم ما في البحث، ومن حقنا أن نسأل ماذا تعني الحرية عند فلاسفة الغرب (في عصر التنوير)؟

وهل هي مطلقة وبلا قيود أم هي مقيدة؟ 

بل أساساً هل يمكن أن توجد حرية مطلقة أم هو من المحال؟

وللجواب على هذه التساؤلات علينا أن نذهب إلى كلمات فلاسفة الغرب، 

يقول: الفيلسوف الالماني (ايمانويل كانت) إنّ الحرية تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: الحرية السالبة، أو الشخصية، وهي إمكانية إتخاذ القرار دون قيود وهي حق طبيعي.

القسم الثاني: الحرية الموجبة، وهي حرية معطاة، أو إمكانية معطاة ليستطيع الإنسان ممارسة الحرية السالبة (الشخصية) وهي حق إنساني أساسي.

مثال: إذا كانت الحرية السالبة هي حرية إبداء الرأي، تكون الحرية الموجبة بمعنى إمكانية استخدام الإعلام مثلاً لممارسة هذه الحرية. 

وله أيضاً (كانت) مقطع آخر حول الحرية حيث يقول: 

لا أحد يستطيع إلزامي بطريقته كما هو يريد (كما يؤمن هو ويعتقد أنّ هذا هو الأفضل لي وللآخرين) لأصبح فرحاً وسعيداً. كل منا يستطيع البحث عن سعادته، وفرحه بطريقته الّتي يريد، وكما يبدو له هو نفسه الطريق السليم. شرط أن لا ينسى حرية الآخرين، وحقهم في الشيء ذاته.

ويقول الفيلسوف جون ستيوارت ميل :

السبب الوحيد الذي يجعل الإنسانية أو (جزءا منها) تتدخل في حرية أو تصرف أحد أعضاءها هو حماية النفس فقط، وأنّ السبب الوحيد الذي يعطي الحق لمجتمع حضاري في التدخل في إرادة عضو من أعضائه هو حماية الآخرين من أضرار ذلك التصرف.

وجاء في إعلان حقوق الإنسان لعام 1789م تعريفاً للحريّة بأنّها: (حقُّ الفرد في أن يفعل كلّ ما لا يضرُّ بالآخرين)

خلاصة القول: ومن كل هذه الاقوال، يمكننا أن ننتهي إلى أنّه لا وجود لشيء اسمه حرية مطلقة، فالحرية محدودة حتّى عندهم. 

فكلام (كانت) يبدو متناقضاً، ففي كلامه الأول عند تعريفه للحرية بمعناها السلبي قال (وهي إمكانية إتخاذ القرار دون قيود، وهي حق طبيعي)، وهذا يتناقض مع قوله: لا أحد يستطيع إلزامي بطريقته كما هو يريد (كما يؤمن هو ويعتقد أن هذا هو الأفضل لي وللآخرين) لأصبح فرحاً وسعيداً. كل منا يستطيع البحث عن سعادته وفرحه بطريقته الّتي يريد، وكما يبدو له هو نفسه الطريق السليم. شرط أن لا ينسى حرية الآخرين وحقهم في الشيء ذاته)

فإنّ قوله الاخير (شرط أن لا ينسى حرية الآخرين وحقهم في الشيء ذاته) تقييد لحرية الانسان، مع أنّه في تعريفه للحرية السالبة (الشخصية) عرفها على أنّها مطلقة.

وأمّا كلام الفيلسوف (جون ستيوارت ميل) فأوضح من أن يخفى، حيث أجاز للمجتمع المتحضر التدخل، والحد من حرية الاخرين، إذا كانت الحرية تحقق ضرراً على غيره.

إذن لا وجود للحرية المطلقة حتّى في فلسفتهم، فضلاً عن نضمهم الاجتماعية، والسياسية, والاقتصادية , فالحرية الّتي يؤمنون بها مقيدة وليست مطلقة , نعم الحرية المطلقة لها وجود في عالم الذهن حسب, وافضل تعبير استطيع أن أختصر الجدل الفلسفي في هذا المضمار هو, أن الحرية مسألة نسبية .

فما أؤمن به حرية، يؤمن به غيري عبودية، وما يؤمن به غيري من الحرية، أراه عبودية قبيحة ومستهجنه. 

إذا اتضح ذلك، وأنّه لا وجود للحرية المطلقة إلاّ في عالم الذهن، عندها نعود الى السؤال المطروح وهو: (هل الاعتقاد بوجود الله يناقض الحرية؟)، 

الجواب: كلا يقينا، لأننا يحق لنا أن نسأل: ما هو وجه العبودية؟ وأين يتناقض الاعتقاد بالله تعالى مع الاعتقاد بالحرية؟

فيه إحتمالات:

الإحتمال الأول: إنّ مجرد افتراض الإله يعاكس الحرية.

الإحتمال الثاني: إنّ المنافاة تأتي بسبب وجود الجنبة الرقابية دون العقابية له على العباد.

الاحتمال الثالث: إنّ المنافاة تنشأ من جهة الثواب والمكافأة للعباد يوم القيامة.

الإحتمال الرابع: إنّ المنافات تأت من الجنبة الحسابية العقابية له.

الاحتمال الخامس: إن المنافات تأتي من جهة الاحكام الدينية التي جاء بها رسل الاله.

وكل هذه المحتملات باطلة. 

أما الأول: فلأن مجرد افتراض الإله لا يقيد الحرية , لأنّه افتراض محض لا علاقة له بسلوك الانسان دنيا ودين، كافتراض اجتماع النقيضين 

وأمّا الإحتمال الثاني: فإنّ الجنبة الرقابية، لا تحدّ من حرية الانسان إلى درجة العبودية، بل حالها حال مراقبة الأقمار الصناعية وشبكات المخابرات العالمية.

وأمّا الإحتمال الثالث: فبطلانه من أوضح الواضحات، إذ أي تضييق للحرية حينما يريد الرب مجازات الإنسان وإكرامه، والإحسان إليه يوم القيامة.

وأمّا الإحتمال الرابع: فهو لا يصلح لوحده أن يكون سبب للإعتقاد بذلك، أي أنّهم عليهم أن يعمموا ذلك على كل جهة تمارس الجنبة العقابية على الناس، وعليهم أن يحكموا ببطلان قانون العقوبات، وليس لاحد أن يفرّق بين الحساب والعقاب الإلهيّ، وبين الحساب والعقاب الذي يكون بحكم القانون والمحاكم الجزائية.

على هذا فإن كان السبب في التناقض هو هذا الإحتمال، فعليهم أن يقولوا بمنافات كل القوانين الّتي فيها عقوبة على الناس بما فيها العقوبة الإلهيّة.

وأمّا الإحتمال الخامس: إنّ المنافات من جهة الأحكام الشرعية الّتي جاء بها الرسل والانبياء.

فجوابه: إنّ الشرائع الّتي جاء بها النبيون من ربهم، تمثّل قوانين لحياة الناس في الدنيا, وله علاقة في حياتهم الاخروية , وهي على أقل التقادير، تماثل نظيراتها من القوانين الدولية والوضعية الاخرى , فان كانت أحكام الله تعالى التشريعية تمثل عبودية، فلتكن القوانين المدنية والجزائية كذلك.

هذا على أنّ القانون الإلهيّ يتمتع بخصلتين تفقدها كل القوانين الوضعية. 

مميزات القانون:

إنّ أهم ميزة على الإطلاق لكل قانون يراد له الخلود، هو أن يتمتع مشرّعه بخصلتين.

الخصلة الأولى: أن يكون المشرَّع خارج دائرة النفع والضرر بذلك القانون. 

الخصلة الثانية: أن يكون المشرَّع عالماً بكل تفاصيل، وأمزجة، وميول المشرَّع له.

وهاتان الخصلتان غير متوفرتين في أي تشريع على الاطلاق، باستثناء التشريع السماوي الذي جاء به الانبياء.

لأننا نقطع بأن من صاغ التشريع الذي جاء به الرسل هو الله تعالى، وهو العالم المطلق بمصالح العباد , والغني , وإن ظهرت لهم أنّها على خلاف حريتهم  تماماً، كما يظهر للطفل الذي يمنعه أبواه من أن يتقرب من السم والنار والمتفجرات، وغيرها من المخاطر التي يريد الطفل جاهداً أن تكون بمتناول يده، ويذرف الدموع من أجل تحصيلها.

أو كالذي يمنع الأعمى من السقوط في حفرة، تقع على طريقه الذي يسير فيه، فهل المنع في الصورتين ضد الحرية ام معها؟

الخلاصة: وفي الختام استطيع القول وبكل ثقة، أنّه لا يمكن لاحد أن يدّعي الحرية الكاملة للإنسان, والسبب في ذلك يعود إلى نفس الإنسان, إذ أنّ هنالك شيء في كيان الإنسان إسمه العقل, وهو يحكم تصرفات الإنسان ويمنعه من تصرف, ويدفعه لأخر, فإنّ نفس الإنسان حتّى لو عاش لوحده في هذا الكون ليس حراً مطلقاً؛ لأنّ هنالك حاكم عليه إسمه العقل, فمن أراد أن يعتقد بالحرية المطلقة عليه أن يخلع عقلة ويتمتع بها كيف يشاء.