النَّصارى وما وَردَ منَ الآيتَينِ (29-30) في سُورةِ التَّوبةِ. 

Yousef Ghaleb/: السَّلامُ علَيكم ورَحمةُ اللهِ وبرَكاتُه. ..... إخوَتي الأعزَّاءُ، في بَعضِ مُحاورَاتِي مع النَّصارى دائِماً يَضعُونَ الآياتِ (29-30) مِن سُورةِ التَّوبةِ للطَّعنِ في نَزاهةِ الإسْلامِ..... أُرِيدُ ردّاً مُفحِماً لها؟ وجَزاكُم اللهُ خَيراً.

: اللجنة العلمية

     الأخُ يُوسفُ المحتَرمُ.. السَّلامُ علَيكم ورَحمةُ اللهِ وبرَكاتُه. 

     بالنِّسبةِ للآيةِ (29) مِن سُورةِ التَّوبةِ، وهي قَولُه تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) فهِي تُشِيرُ إلى مَطلَبَينِ: 

     الأولُ: مُقاتَلةُ أهلِ الكِتَابِ حتى يَدفعُوا الجِزيةَ.

     الثَّاني: دَفعُ الجِزيةِ. 

     أما المَطلَبُ الأولُ فقد يَتصوَّرُ البَعضُ أنَّ هذا الأمرَ بالقِتالِ هو مُطلَقٌ، أي سَواءٌ قَاتلَ أهلُ الكِتَابِ المُسلِمينَ أم لم يُقاتِلُوهم، والحَالُ هو ليس كذلِك، فمِن طَبِيعةِ الشَّرِيعةِ أنَّه يَردُ فيْها اللِّسانُ المُطلَقُ ثم يَردُ التَّقيِيدُ، أو يَردُ العامُّ ثم يأتِي المُخصِّصُ، أو يَردُ المُجمَلُ ثم يأتِي المُبيِّنُ، أو يَردُ المُتشَابهُ ثم يأتِي المُحكَمُ، وهذِه عُلومٌ قُرآنِيةٌ يَنبغِي على كلِّ دَارسٍ للقُرآنِ الكَريمِ الإحَاطةُ بها وسَبرُ مَفاهِيمِها حتى يُحِيطَ بأحكَامِ القُرآنِ الكَريمِ وآياتِه بِشكْلٍ جَيِّدٍ، ولا يَحقُّ له الإجتِزاءُ بآياتٍ دُونَ أخرَى، وقد عَابَ القُرآنُ الكَريمُ كلَّ مَن يَقتطِعُ مَقاطِعَ أو أجزَاءً منَ القُرآنِ دُونَ بَعضٍ ويُريدُ أنْ يُحاكِمَ الإسْلامَ مِن خِلَالِها.

     قال تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْءَانَ عِضِينَ} الحجر: 91، والمُرادُ بـ (عضِين) أي جَعلُوه أجزاءً وأعضَاءً فآمنُوا ببَعضٍ وكَفرُوا ببَعضٍ.

     ومِن هنا نَقُول عندَ العَودةِ إلى بَقِيةِ الآياتِ في القُرآنِ الكَريمِ تَجدُ أنَّ اللهَ سُبحانَه قد شرَّعَ القِتالَ في حَالةِ الدِّفاعِ فقط وليس مُطلَقاً، وصِناعةُ الإطلَاقِ والتَّقيِيدِ تَقتضِي حَملَ مُطلَقاتِ القُرآنِ على مُقيَّداتِه. فانْظُر معَنا إلى هذِه الآياتِ الكَريمةِ:

    1- يَقُول تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) البقرة: 190. فهُنا في هذِه الآيةِ تَجدُ بَياناً صَرِيحاً جداً بأنَّ مَشرُوعِيةَ القِتالِ هي لمَن يُقاتِلُك ويُرِيدُ الإعتِداءَ عليْك لا مُطلَقاً، وفي شَطرِها الثَّاني (ولا تَعتدُوا) تَجدُ ظُهوراً مُعتدّاً به في النَّهيِ عن مُقاتَلةِ مَن لا يُقاتِلُك واعْتبِرْه اعْتِداءً مُحرَّماً.

    2- يَقُول تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) الحج: 39، وهنا أيضاً الآيةُ صَرِيحةٌ جداً في أنَّ الإذْنَ بالقِتالِ هو لحَالةِ المَظلُومِيةِ وأذيَّةِ الطَّرفِ المُقابلِ لا مُطلَقاً، وعندَما تُراجِعُ تَفاسِيرَ المُسلِمينَ تَجدُ أنَّ أصحَابَ رسُولِ اللهِ (ص) طَلبُوا الإذْنَ بالقِتالِ لمَا رَأوهُ مِن أذى قُريشٍ وعُدوَانِها.

     3- يَقُول تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الممتحنة: 8.

     وهذِه الآيةُ صَرِيحةٌ جداً في مُعامَلةِ غَيرِ المُحارِبينَ للمُسلِمينَ بالحُسنَى والجِوارِ الطَّيِّبِ، بل يُوجدُ حثٌّ صَرِيحٌ على هذا الأمرِ.

    4- يَقُول تعالى: (لا إكرَاهَ في الدِّينِ) البقرة:256.

     وهذِه الآيةُ الكَرِيمةُ تَنسِفُ دَعاوَى كلِّ مَن يَقُول بأنَّ الإسْلامَ يَدعُو لدُخُولِ النَّاسِ فيْه بالإكرَاهِ والقُوَّةِ.

     ومِن مُجمَلِ ما تَقدَّمَ نُخرِجُ بنَتِيجةٍ وَاضِحةٍ أنَّ الآيةَ (29) مِن سُورةِ التَّوبةِ هي لَيستْ على إطلَاقِها، بل مُقيَّدةٌ بحَالةِ الدِّفاعِ عن المَظلُومِيةِ ودَفعِ خَطرِ المُعتدِينَ، كما أوضَحتْه الآياتُ الصَّرِيحةُ المُتقدِّمةُ.

     أما المَطلَبُ الثَّاني منَ الآيةِ وهو: (دفعُ الجِزيةِ)، فنَقُول: لقد شرَّعَ الإسْلامُ دَفعَ الجِزيةِ على غَيرِ المُسلِمينَ كما شرَّعَ دَفعَ الزَّكاةِ والخُمسِ على المُسلِمينَ، حتى تَتمكَّنَ الدَّولةُ مِن تَوفِيرِ الحِمايَةِ لمَن يَكُونُونَ تَحتَ رِعايَتِها، وهذا الأمرُ يُشبِهُ تَماماً الضَّرِيبةَ التي يَدفَعُها المُواطِنُونَ في زَمانِنا هذا لحُكومَاتِهم مِن أجلِ حِمايَتِهم وتَوفِيرِ الخِدمَاتِ لهم. 

     أما الآيةُ الأُخرَى، وهي قَولُه تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (30)}.

     فهي تُشِيرُ إلى قَضِيةٍ تَارِيخيةٍ مُشتَركةٍ بَينَ المُشرِكينَ وأهلِ الكِتَابِ، (يُضَاهِئُونَ) أي يُشابِهُونَ، (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ) وهم المُشرِكُونَ، فالمُشرِكُونَ قَالُوا مِن قَبلُ: إنَّ المَلائِكةَ هم بَناتُ اللهِ. كما يَدلُّ عليْه قَولُه تعالى في سُورةِ الأنعَامِ: {وخَرقُوا له بَنِينَ وبَناتٍ (100)}، واليومُ تَقُول اليَهُودُ والنَّصارَى: عُزَيرٌ ابنُ اللهِ، والمَسِيحُ ابنُ اللهِ، وهو تَنبِيهٌ لضَلالةِ أهلِ الكِتَابِ حينَ تَكُون عَقِيدتُهم نَفسَ عَقِيدةِ المُشرِكينَ.

     وقَولُه تعالى (قَاتَلَهُمُ اللهُ) مَعنَاه لعَنَهم اللهُ، أي أبعَدَهم مِن رَحمَتِه لما يَقُومُونَ به مِن تَحرِيفٍ للحَقائقِ بعدَ وُضُوحِها عندَهم وبعدَ بَيانِ الحقِّ لهم: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) آل عمران: 59.

     فكما تَرى أخِي الكَريمُ أنَّ هاتَينِ الآيتَينِ تَدُلَّانِ على مَعانٍ وَاضِحةٍ وعَظِيمةٍ يَنبغِي التَّمعُّنُ فيهِما جيِّداً، بعدَ مُلاحَظةِ بَقيَّةِ الآياتِ الكَرِيمةِ، ولا يَنبغِي الإقتِصارُ على آياتٍ دُونَ غَيرِها. 

     ودُمتُم سَالِمينَ.