ما هو الرد على اتهام الشيعة بعبادة رب بلا صفات؟

السؤال: في كتاب نهج البلاغة ورد ما يلي: ( وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ،... ) الذي لا صفة لا وجود له..! ، ربُّ الشِّيعةِ عَدَميٌّ .. العَدَميَّة المُعطِّلَة أحفاد المُعتزلةِ الجَهَمِيَّةِ الكفرةِ يعبدون ربّاً لا صفاتَ له ، يعني هم يعبدون الطبيعة ..!.)).

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب :

بسم الله الرحمن الرحيم

الكلام المذكور في السؤال يشتمل على جنبتين ، إحداهما: الأسلوب اللا أخلاقي الذي تهجّم به ناظمه على الشيعة حتّى اشتمل على التكفير والشتيمة لهم، ولسنا نَرُدّ عليه بأكثر ممّا أَدَّبَ به أمير المؤمنين "عليه السلام" شيعتَه بقوله: ((...دَع شَاتِمَكَ مُهَاناً ، تُرْضِ الرَّحمنَ ، وتُسخِطِ الشيطانَ ، وتُعاقبْ عدُوَّكَ .!. فَوَ الّذِي فَلَقَ الحبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ ما أَرضَى المُؤْمِنُ رَبَّهُ بِمثِلِ الحِلْمِ ، ولا أَسْخَطَ الشَّيطَانَ بِمثلِ الصَّمْتِ ، ولا عوقِبَ الأَحمَقُ بِمثِلِ السُّكُوتِ عنه..!.))[جامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي:ج14،ص236].

والأخرى: الموضوع الذي تناوله هذا المتكلّم ، يَنُمُّ عن جهله المركّب وخلطه الأوراق من جهة، ويكشف عن عدمِ إيمانه من الجهة الأخرى ، وسنثبت لك ذلك كلّه بالطرق العلميّة والدلائل القطعيّة فإنّها الحكم بيننا ، وبها يتّضح الحقّ اتّضاح الشمس في رائعة النهار ، إن شاء الله تعالى، وذلك من خلال بيان الأمور التالية:

الأمر الأوّل: أنّ ما قام به المتكلّم المذكور من اقتطاع لبعض كلمات أمير المؤمنين "عليه السلام" الواردة في نهج البلاغة من دون أنّ يُتبِعها بتتمّتها التي توضّحُ المراد منها إنّما هو خيانة للأمانة العلميّة والشرعية ؛ فإنّه "عليه السلام" قال:((.... وكَمَالُ الإِخْلَاصِ لَه نَفْيُ الصِّفَاتِ عنْه، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ، وشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّه غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ اللَّه سُبْحَانَه فَقَدْ قَرَنَه، ومَنْ قَرَنَه فَقَدْ ثَنَّاه...))[نهج البلاغة تحقيق صبحي صالح: ص39 الخطبة رقم1] وسيأتي بيان معناه بإذنه تعالى.

الأمر الثاني: أنّ عقيدة الشيعة صريحة في أنّ صفاته تعالى الثبوتيّة الذاتيّة -كالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر ونحوها - هي عين ذاته. [انظر نهج الحقّ وكشف الصدق للعلّامة الحلّيّ:ص64، وعقائد الإماميّة للشيخ المظفّر:ص37]، أي أنّ الإله الموجود في الواقع الخارجيّ هو الإله الجامع بذاته لكلّ صفات الكمال، فهو حيٌّ بذاته لا بحياة زائدة على ذاته تكون غيره، وهو عالم بذاته لا بعلم زائد عليه يكون غيره، وهكذا في الصفات الذاتيّة الثبوتيّة الأخرى فإنّها متّحدة في الواقع الخارجيّ مع الذات وفيما بينها كصفات.

أمّا من حيث وجود معاني ومفاهيم هذه الصفات في أذهاننا ، فمن الواضح أنّ الذي نفهمه من كلمة الذات هو غير الذي نفهمه من كلمة العلم أو كلمة القدرة ، كما أنّ المفهوم من كلمة الحياة هو غير المفهوم من كلمة السمع أو البصر ، وهكذا في بقيّة الصفات فإنّ الذهن يفهم من كلّ واحدة منها معنىً غير المعنى الذي يفهمه من الذات أو من الصفة الأخرى.

ودليل الشيعة على عينيّة الصفات سواء للذات أم فيما بينها كصفات هو العقل والنقل ، وبيانهما كالتالي:

1- الدليل العقليّ: ويكفي دليل واحد ، فنقول: إنّ أيّ شيء إذا نُسب إلى شيء آخر: فإمّا أن يكون هو هو ، أو يكون غيره ، ولا يعقل ثبوتهما معاً بأن يكون هو هو، وهو غيره ؛ لأنّه اجتماع للنقيضين ، ولا سلبهما معاً بأن لا يكون هو هو، ولا هو غيره ؛ لأنّه ارتفاع للنقيضين ، وعليه فإنّ الصفات الإلهيّة: إمّا هي عين الذات ، أو هي غيرها ، فإن كانت هي غير الذات فحينئذٍ:

أ- إمّا أن تكون هذه الصفاتُ قديمةً قِدَمَ الذات ، فيلزم منه تعدّد القدماء. وهذا هو الشرك بعينه كما لا يخفى.

ب- أو تكون الصفات حادثة ولاحقة للذات الإلهيّة فيما بعد ، بمعنى أنّ الذات الإلهيّة المقدّسة كانت بلا صفات، ثمّ حدثت لها وطرأت عليها هذه الصفات فيما بعد. وهذا هو الكفر بعينه ؛ فإنّه جلّت عظمته لم يكن ميّتاً ثمّ صار حيّاً ، ولا جاهلاً ثمّ أصبح عالماً ، ولا عاجزاً ثم ّ تجدّدت له القدرة (تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيرا). وعليه: فلأنّ القول بالزيادة مستلزم إمّا للشرك أو الكفر، فقد تعيّن القول بالعينيّة ، وثبتت عقيدةُ الشيعة ، وهو المطلوب.[وللمزيد من الأدلّة العقليّة والنقليّة انظر الرابط التالي: https://alrasd.net/arabic/4808].

2- وأمّا الأدلّة النقليّة: فكثيرة إذْ منها مثلاً عنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: ((سَمِعتُ أَبَا عبْدِ اللَّه "عليه السلام" يَقُولُ: لَمْ يَزَلِ اللَّهُ عزَّ وجَلَّ رَبَّنَا والْعلْمُ ذَاتُه ولَا مَعلُومَ والسَّمْع ذَاتُه ولَا مَسْمُوع والْبَصَرُ ذَاتُه ولَا مُبْصَرَ والْقُدْرَةُ ذَاتُه ولَا مَقْدُورَ....الخبر))[الكافي لثقة الإسلام الكلينيّ:ج1،ص107] ، والمعنى "كان اللهُ ربَّنا حالة كون العلم ذاته في الأزل" ، وهكذا في بقيّة كلامه "عليه السلام".

ومنها كلام أمير المؤمنين "عليه السلام" المذكور آنفاً ، فإنّ قوله: (وكَمَالُ الإِخْلَاصِ لَه نَفْيُ الصِّفَاتِ عنْه) أراد به نفي الصفات الزائدة على الذات ، وبذلك تَثبُت العينيّة ، والدليل على أنّه أراد ذلك هو ما بتره السائل من تعليل الإمام "عليه السلام" لوجوب نفي الصفات عنه تعالى بقوله: (لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ ، وشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّه غَيْرُ الصِّفَةِ) فإنّ الصفة لا تكون غير الموصوف إلّا إذا كانت زائدة عليه ولم تكن عينه..!. وأيضاً بدليل ذِكرِه "عليه السلام" للوازم الفاسدة عند القول بزيادة الصفات على الذات، إذْ قال: (فَمَنْ وَصَفَ اللَّه سُبْحَانَه فَقَدْ قَرَنَه ، ومَنْ قَرَنَه فَقَدْ ثَنَّاه ...) ، أي أنّ مَن وصفه تعالى بصفة زائدة على الذات وهي غير الذات، فقد جعل له قريناً وشريكاً ثانياً، فيكون ذلك شِركاً كما تقدّم بيانه.

ومن الأدلة النقليّة قوله "عليه السلام":((...وَلاَ يُوصَفُ بِشَيء مِنَ الأجْزَاءِ ، وَلاَ بِالجَوَارِحِ وَالأعضَاءِ ، وَلاَ بِعرَض مِنَ الأعرَاضِ ، وَلاَ بِالْغَيْرِيَّةِ وَالأَبْعاضِ))[نهج البلاغة:ص274 الخطبة رقم186] فإنّ قوله: {وَلاَ بِعرَض مِنَ الأعرَاضِ ، ولا بالغيريّة والأبعاض} صريح في نفي حدوث وعروض الصفات على الذات وفي نفي الغيريّة ؛ وإلّا كان تعالى مركّباً من أبعاض هي:(الذات + الصفات)، فيكون ممكناً وليس واجب الوجود ؛ لأنّ كلّ مركّبٍ مفتقرٌ في وجوده إلى وجود أجزائه قبل ذلك ، وهذا هو حال الممكنات ، وأمّا الله فهو غنيّ لا يفتقر ؛ ولذا قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [التوحيد:1]، فإنّ الأحديّة هي البساطة أي عدم التركيب[انظر الإلهيّات للسبحانيّ:ص373].

فإذا عرفت جميع ذلك فإنّ إنكار السائل على الإمام "عليه السلام" واتّهامه له مع شيعته بعبادة ربٍّ عدميّ ، إنّما حصل بسبب سوء فهمه لمراده "عليه السلام" ، وكان الواجب عليه أن يسأل عن معناه قبل إنكاره ؛ وإلّا فقد تواتر عنهم "عليهم السلام" أنّ أحاديثهم لا يحتملها إلّا المؤمن ولا ينكرها إلّا عديم الإيمان ؛ قال الباقر "عليه السلام":((قال رسول الله"صلّى الله عليه وآله": إِنَّ حَدِيثَ آلِ مُحَمَّدٍ صَعبٌ مُسْتَصْعبٌ لَا يُؤْمِنُ بِه إِلَّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أَوْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ أَوْ عبْدٌ امْتَحَنَ اللَّه قَلْبَه لِلإِيمَانِ ، فَمَا وَرَدَ علَيْكُمْ مِنْ حَدِيثِ آلِ مُحَمَّدٍ "صّلَّى اللهُ علَيهِ وَآلِهِ" فَلَانَتْ لَه قُلُوبُكُمْ وعرَفْتُمُوه فَاقْبَلُوه ، ومَا اشْمَأَزَّتْ مِنْه قُلُوبُكُمْ وأَنْكَرْتُمُوه فَرُدُّوه إِلَى اللَّه وإِلَى الرَّسُولِ وإِلَى الْعالِمِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وإِنَّمَا الْهَالِكُ أَنْ يُحَدِّثَ أَحَدُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْه لَا يَحْتَمِلُه فَيَقُولَ: واللَّه مَا كَانَ هَذَا واللَّه مَا كَانَ هَذَا ، والإِنْكَارُ هُوَ الْكُفْرُ))[الكافي لثقة الإسلام الكلينيّ:ج1،ص401 ، وللوقوف على دعوى التواتر انظر روضة المتّقين في شرح من لا يحضره الفقيه للمجلسيّ:ج1،ص95 ، وكذلك مختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان الحلّيّ:ص123 وما بعدها].

الأمر الثالث والأخير: في بيان الجهل المركّب في قوله: {الذي لا صفة له لا وجود له ، وأنّ ربَّ الشيعة عدميٌّ} ، فإنّه لا يَمُتُّ بأيّ صلة لعقيدة الشيعة، سواء كانوا يقولون – والعياذ بالله – بزيادة الصفات على الذات أم بعينيّتها لها، وذلك لأنّ الصفات:

أ- إن كانت زائدة على موصوفها فإنّه لا يلزم من نفيها انعدام ذلك الموصوف ، فمثلاً: لو أنّ رجلاً يتّصف بأنه "طويل ، أبيض البشرة ، متزوّج ، عالم ، شاعر ، كاتب ، قرشيّ ومكّي...إلخ من الصفات التي تخطر في ذهنك"، فقمنا بتجريده من العلم وبياض البشرة ..إلخ تلك الصفات، فإنّه حينئذٍ لا يصير عدماً ؛ وذلك لبقاء ذاته محفوظة ببقاء ذاتيّاته (الحيوانيّة والناطقيّة) ؛ أي أنّ ما سلبناه عنه إنّما هو الأعراض العارضة على الذات ، ولم نسلب الذاتيّات حتّى يصير عدماً ، والفرق واضح بين ما هو عرضيّ وما هو ذاتيّ لكلّ من درس المنطق والفلسفة ، وعليه فدعوى أنّ "من لا صفة له لا وجود له" هي ضرب من الجهل المركب..!.

ب- أمّا لو كانت الصفات هي عين الذات فإنّ نفيها حينئذٍ يستلزم نفي الذات بكلّ تأكيد، ولكن ما علاقة الشيعة بذلك..؟! ؛ فقد عرفت أنّهم يقولون بعينيّة الصفات للذات، وإثبات الصفات هو إثبات للذات؛ لأنّها عينها..!. وعليه فدعوى أنّنا نعبد ربّاً عدميّاً ناجمة عن جهل مركّب بعقيدتنا..، فنعوذ بالله من سبات العقول ، وزيغ القلوب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.