دلالات ومعاني لقب (الصدّيقة) الثابت للزهراء (ع)
السؤال: روي عن الإمام الكاظم (ع) قوله: «إِنَّ فَاطِمَةَ (ع) صِدِّيقَةٌ شَهِيدَةٌ» فهل من فكرةٍ عن معنى كونها صدّيقة؟ وعلى ماذا يدلُّ ذلك؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الخبر المذكور قد رواه ثقة الإسلام الكلينيُّ بإسنادٍ صحيحٍ إلى علي بن جعفر عن أخيه الإمام الكاظم (ع) قال: « إِنَّ فَاطِمَةَ (ع) صِدِّيقَةٌ شَهِيدَةٌ ، وإِنَّ بَنَاتِ الأَنْبِيَاءِ لَا يَطْمَثْنَ »[الكافي ج1 ص458].
وقد اشتمل الحديث على ذكر لقب الصدّيقة لها (ع) وسيأتي بيانه، ثمّ ذكر كونها (شهيدة) ممّا يعني صحّة ما نعتقده في حادثة الاعتداء عليها وإسقاط جنينها، ثمّ اختُتِم بذكر مشاركتها لبنات الأنبياء في عدم الطمث ممّا يدُلُّ على كونها (ع) طاهرةً مطهّرةً في أصل تكوينها كما صرّحت بذلك الأخبار.
وللوقوف على ما سألتم حوله نذكر هنا نقاطاً:
النقطة الأولى: تتعلّق بالعوامل المشتركة بين جميع أسماء وألقاب وكُنى المعصومين (ع)، فقد سبق لمركزنا بيان ذلك في جوابٍ منشورٍ تحت عنوان: (معنى لقب ابن الخيرتين وسرُّ إطلاقه على الإمام زين العابدين "ع") حيث ذكرنا هناك ثلاثة عوامل مشتركة تتميّز بها أسماؤهم وألقابهم وكُناهم عن سائر ألقاب وأسماء الخلائق، فهي أسماء وألقابٌ منصوصةٌ شرعاً، وموضوعة لحكمة وغاية، كما أنّ لها مناشئ انتزاع حقيقيّة؛ ولذا تكون دائماً كاشفة عن كمالهم التّام (ع)، وهذا ما سيتّضح من لقب الصدّيقة وإطلاقه على مولاتنا فاطمة الزهراء (ع).
النقطة الثانية: وهي ترتبط بما يتميّز به لقب (الصدّيق أو الصدّيقة)، من حيث الوضع وأصل اللغة فإنّ له عدّة ميّزات، منها:
1- أنّ هذا اللفظ موضوعٌ أصلاً للدلالة على منتهى صِيَغِ المبالغة المأخوذة من الصدق؛ إذ ليس بعد صفة الصدّيق صفة أعلى يمكن أن يوصف بها الإنسان في صدقه وتصديقه. هذا، وقد عرّفوا الصدق بأنّه: (التماميّة والصحّة من الخلاف والكون على حقّ)[ينظر: التحقيق في كلمات القرآن الكريم للمصطفويّ ج6 ص215]، وبمعنى أوضح: الصدق هو المطابقة لمتن الحقيقة والواقع.
2- دوام الصفة، فلا يوصف بوزن (فِعِّيل) في الصفات إلّا مَن كثر أو دام منه الوصف في جميع الأوقات حتّى صار عادةً له، وقد مثّلوا لذلك بكلمة (سِكّيت) أي دائم السكوت. [ينظر: المزهر للسيوطي ج2ص145، أدب الكاتب لابن قتيبة ص330]؛ لذا قال بعض الأعلام: (الصدّيق لشدّة اعتياده للصدق طيلة حياته فقد صار لا يملك القدرة على الكذب!)[يلاحظ: تفسير الأمثل ج9 ص457]
3-أنّ من خصوصيّات لفظ (الصدّيق أو الصدّيقة) عموميته وشموليّته، بحيث يكون الموصوف به صادقاً في كلّ شيء يتعلّق به الصدق، وفي جميع أحواله وظروفه من السرّاء والضرّاء؛ ولذلك نجده عند الاستعمال في الكلام لا يكون إلّا مطلقاً، فهو لا يقبل التقييد أو التخصيص في موردٍ معيّنٍ، فلا يقال - مثلاً -: (فلان صدّيق الوعد) بخلافه في (صادق أو صدوق)، فهما يقبلان التخصيص أو التقيّيد سواء عن طريق الإضافة، كما قال تعالى في صفة النبيّ إسماعيل (ع): {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا}[مريم:54].. أو عن طريق التعدية بحرف الجرّ، كما لو قلنا - مثلاً -: " فلان صادق – أو صدوق - في كلامه "..، فتدبّر جيّداً.
والحاصل: أنّ الإنسان يسمّى صادقاً إذا صدق في كلامه أو فعله مثلاً، وصدوقاً إذا كان كثير الصدق في خصوص ذلك المورد، ولكن لا يقال صدّيقاً إلّا إذا كان شديد الصدق، وكان صدقه مطلقاً وفي كلّ شيء، وكلّ وقت، وعلى كلّ حال.
النقطة الثالثة: في بيان معنى الصدّيق والصدّيقة في الاصطلاح الشرعي، فقد ذكر العلماء عدّة تعريفات له يستفاد من كلّ تعريف ميزة وخصوصيّة مهمّة تكشف عن شيءٍ من أسرار هذا اللقب المقدّس، فمن ذلك:
1- قال العلّامة الطبرسيُّ: (اللغة: الصدّيق: هو كثير التصديق بالحقّ حتّى يصير علماً فيه)[ مجمع البيان ج6ص425]، والمستفاد من قوله: (حتّى يصير علماً فيه) أحد وجهين لا أولويّة لأحدهما على الآخر:
أمّا الوجه الأوّل: أن يكون مراده هو: "صيرورة لقب الصدّيق بمنزلة اسم العلم في الدلالة على صاحبه بحيث يشتهر به بين الناس"، ويكون كسائر القابهم (ع) في الدلالة عليهم؛ مثل ألقاب الباقر والصادق والجواد، وغيرها فإنّ كلّ لقبٍ منها أصبح اسم علمٍ على صاحبه، فكذا الحال هنا فإذا قلتَ: (قالت الصدّيقة الطاهرة: كذا وكذا)، فلابدّ أنّ المتبادر إلى ذهن السامع شخص مولاتنا فاطمة الزهراء (ع) دون غيرها بلا إشكال.
وأمّا الوجه الآخر: فأن يكون المراد هو: "صيرورة الشخص الصدّيق بنفسه علماً شامخاً ورمزاً شاخصاً بين الناس بسبب تصديقه بالحقّ"، كما هو المعروف عن حال مولانا "الصدّيق الأكبر" علي بن أبي طالب (ع) فإنّه غير خفيٍّ على أحدٍ شهرة تصديقه بالله ورسوله (ص)؛ ولذا أطلق الشارع المقدّس هذا اللقب عليه.
ولكن الملاحظ أنّ التعريف المذكور ذو دائرةٍ ضيّقةٍ حيث تناول جهة واحدة من الجهات الدلاليّة للقب، ألا وهي جهة التصديق فقط دونما جهة الصدق.
2- وقال صاحب التقريب: (الصدّيق: هو الملازم للصدق في أقواله وأعماله، أو هو المداوم على التصديق بما يوجبه الحقّ) [تقريب القرآن إلى الأذهان ج1ص503]، وهذا التعريف وإن كان أوسع نطاقاً من سابقه، لتناوله الصدق في الأقوال والأعمال، إلّا أنّه لم يتناول تمام موارد الصدق والتصديق الخمسة التي ذكرها العلماء، والتي باجتماعها كلّها معاً يصير الإنسان صدّيقاً، أمّا لو انتفى منها مورد واحد فلا يُعدّ كذلك.
3- وعرّف الشيخ ناصر مكارم الشيرازيُّ الصدّيق بأنّه: (الشخص الصادق جدّاً، والمصدّق بآيات الله سبحانه، والمذعن للحقّ والحقيقة) [الأمثل ج9ص473]، وهذا هو التعريف الأشمل والأعمّ من سابقيه، فالصدّيق شخص شديد الصدق مطلقاً في القول والعمل وفي كلّ شيء، كما تقدّم في المعنى اللغويّ من أنّ اللفظ موضوعٌ للدلالة على المبالغة الشديدة والعموم والشمول، كما أنّ الصدّيق مصدّقٌ بكلّ ما جاء من عند الله تعالى مطلقاً، وهو على أعلى درجات الإذعان والانقياد والتسليم لربّه في جميع الأحوال والظروف والمناسبات.
النقطة الرابعة والأخيرة: فيما يستفاد من إطلاق لقب (الصدّيقة) على مولاتنا الزهراء (ع)، وهو عدّة أمور منها:
الأمر الأوّل: أنّ هذا اللقب هو أحد تسعة أسماء للزهراء (ع) حظيت بمقام العنديّة الإلهيّة، وهو أشرف المقامات على الإطلاق، فقد روى الصدوق بإسناده عن يونس بن ظبيان، قال: « قال أبو عبد الله الصادق "ع": لفاطمة "ع" تسعة أسماء عند الله عزّ وجلّ: "فاطمة ، والصدّيقة ، والمباركة ، والطاهرة ، والزكيّة ، والرضيّة ، والمرضيّة ، والمحدّثة ، والزهراء" ...الخبر»[علل الشرايع ج1ص178، الأمالي ص688، الخصال ص414]، فإذا كان للاسم هذه الشرافة عند الله فهذا يعني بالضرورة أنّ للزهراء (ع) شرافةً ومقاماً أعظم وارفع من الذي لأسمائها..
وفي ذلك يقول الشيخ الوحيد الخراساني: (الاسم علامة المسمّى، أسماؤنا أسماء أرضيّة، وهناك أسماء سماويّة، لكنّ ما يحيّر العقول أنّ: (لفاطمة تسعة أسماء عند الله)، أي أنّ أسماء فاطمة ليست أرضيَّةً ولا سماويَّة! بل هي أسماء في مقام العنديّة الإلهيّة، ولا يُتَصوّر مقام أعلى من مقام العنديّة الإلهية، (عنديّة الله) فإنّها عنديّة العزيز المقتدر: {عِنْدَ مَليكٍ مُقْتَدِر}، فكلّ الموجودات من السماء والعرش والكرسيّ واللوح والقلم تتلاشى أمام مقام العنديّة الإلهيّة، ومَن كان هذا شأن اسمهما كيف ستكون حقيقة ذاتها؟!). [فاطمة ع حلقة الوصل بين الرسالة والإمامة ص258].
الأمر الثاني: أنّ عنديّة الأسماء التسعة المذكورة تعني أنّ الله تعالى هو الذي اصطفاها واختارها وجعلها للزهراء (ع)، وهذا بدوره يكشف عن اصطفائه واختياره تعالى لها (ع) من باب أولى؛ لأنّ الاسم علامة المسمّى.
الأمر الثالث: أنّ الزهراء (ع) لم تكن صدّيقة فقط، بل كانت الصدّيقة الكبرى، فقد روى الصدوق بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: «قال النبيّ (ص): إنّ الله تبارك وتعالى اصطفاني واختارني وجعلني رسولاً، وأنزل عليَّ سيّد الكتب، فقلت: إلهي وسيدي، إنّك أرسلت موسى إلى فرعون، فسألك أن تجعل معه أخاه هارون وزيراً، تشدّ به عضده، وتصدّق به قوله، وإنّي أسألك يا سيدي وإلهي أن تجعل لي من أهلي وزيراً، تشدّ به عضدي. فجعل الله لي عليّاً وزيراً وأخاً، وجعل الشجاعة في قلبه، وألبسه الهيبة على عدوّه، وهو أوّل من آمن بي وصدّقني، وأول من وَحَّد الله معي، وإنّي سألت ذلك ربّي عزّ وجلّ فأعطانيه، فهو سيّد الأوصياء، اللّحوق به سعادة، والموت في طاعته شهادة، واسمه في التوراة مقرون إلى اسمي، وزوجته الصدّيقة الكبرى ابنتي، وابناه سيدا شباب أهل الجنّة ابناي، وهو وهما والأئمّة بعدهم حجج الله على خلقه بعد النبيّين، وهم أبواب العلم في أمتي، من تبعهم نجا من النار، ومن اقتدى بهم هُدي إلى صراط مستقيم، لم يهب الله عزّ وجلّ محبّتهم لعبد إلّا أدخله الله الجنّة» [أمالي الصدوق ص73، ينابيع المودّة ج1ص197].
وهذا أمرٌ يدلّ على أنّ مرتبة الزهراء (ع) عند الله تعالى هي أسمى وأعلى من مراتب سائر الأنبياء والمرسلين باستثناء أبيها رسول الله (ص)، وهذه خصوصيّة يطول الكلام فيها.
ختاماً هذا ما وفّقنا الله تعالى إليه من الجواب.. والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق