ماهي أفضل طريقة لجعل البشر يلتزمون بمفاهيم وقيم تمنع الفوضى؟ هل هو القانون أو الدين؟

الجواب:

إذا كانت الغاية من الدين هي تربية الانسان وتهذيب سلوكه أخلاقيّاً، فإنّ الغاية من القانون مازالت موضوع نقاش وخلاف بين فلاسفة القانون، فالبعض يعتقد أنّ الغاية من القانون هو تحقيق العدالة، إلّا أنّ البعض الاخر يشكّك في هذه الغاية ويستند على حقائق واقعيّة تؤكد بأنّ القانون كان ولا يزال أداة لتسلّط الحاكمين على المحكومين، والأقوياء على الضعفاء، سواء على مستوى القانون الدوليّ أو القانون الوطنيّ، الأمر الذي فتح الباب واسعاً للنقاش والاختلاف بين المذاهب القانونية، وبخاصّة بين المذهب الوضعيّ والمذهب الطبيعيّ، بل اتّسع البحث بين فلاسفة القانون ليشمل ضرورة القانون من الأساس، وهل يمكن الاستغناء عن القانون أو لا يمكن؟

وقد تباينت - بالفعل - الأفكار حول ضرورة القانون بين مَن يراه ضرورة، وبين مَن لا يرى تلك الضرورة، أو يراه شرّ لابدّ منه، وسبب هذا التباين يعود إلى نظرة كلّ جماعة إلى طبيعة الإنسان ذاته، وهل هو شرير بذاته ومَن ثمّ تأتي البيئة والظروف المحيطة من دين وقانون وسلطة لترويضه وتربيته، أم هو خير بذاته والبيئة هي التي تفسده؟

ومن فلاسفة القانون الذين أيدوا نظريّة الإنسان البدائيّ الذي كان يعيش في أمن وسلام ودون حاجة إلى القانون: (سنيكا/ SENECA)، و(روسو)، و(أوفيد/ OVID)، حيث تصوّر هؤلاء أنّ ماضي الإنسان السحيق عاش على طبيعته وفطرته، ولم يتأثّر بعوامل البيئة الفاسدة، فقد كتب أوفيد قائلاً: (في البدء كان العصر الذهبيّ عندما كان الإنسان جديداً لم يعرف الحكم بل العقل السليم، وكان بالفطرة ينهج نحو الخير، لم يعرف رهبة العقاب ولا الخوف، كانت كلماته بسيطة ونفسه صادقة، وكان القانون المدوّن غير لازم لعدم وجود مضطهدين، كان قانون الإنسان مكتوباً في صدره ...).

وقال سينيكا: (في المجتمع البدائيّ عاش الناس معاً بسلام وسعادة، وكان كلّ شيء مملوكاً لهم على الشيوع، ولم تكن لهم ملكيّة فرديّة، ويمكننا الاستدلال على أنّ العبوديّة لم تكن موجودة، وكذلك الحكومة المستبدة، وكان الناس على أحسن ما يرام؛ لأنّ الناس اتّبعوا الطبيعيّة بشكل حتميّ، وكان حكامهم هم أكثرهم حكمة ... بمرور الزمن اختفت البراءة البدائيّة، وأصبح الناس جشعين ... ومزق الجشع المجتمع السعيد إرباً إرباً، وحلّ الطغيان محلّ مملكة الحكماء، واضطرّ الناس إلى خلق القوانين التي تقيّد حكامهم).

ومن الفلاسفة الذين نحو هذا المنحى (كارل ماركس)، الذي اعتبر القانون مجرّد نظام قمعيّ للحفاظ على امتياز طبقة الملّاك، وأنّ الثورة ستؤدّي إلى قيام مجتمع لا طبقيّ، وستُلغى الدولة والقانون؛ لأنّه لن يكون هناك حاجة لدعم نظام قمعيّ.

وفي مقابل التوجّه الرافض للقانون، هناك توجّه آخر ينطلق من كون الإنسان بذاته شرير لابدّ من حكمه وترويضه بواسطة القانون والقوّة، ومن رواد هذه الاتجاه (بودان)، و(هيوم)، و(ميكيافيللي)، و(هوبز)، و(سانت أوغستين)، و(توما الإكويني).

فمثلاً نجد (هوبز) وصف حياة الإنسان البدائيّ: بأنّها كانت فظّة وقذرة وفي حالةٍ من الحروب المستمرة.

وقال (بودان): إنّ حالة الإنسان الأصليّة هي حالة الفوضى والعنف والقوّة.

ويرى (هيوم): أنّ المجتمع البشريّ لن يكون له وجود بدون القانون والحكومة والقمع.

وأما (ميكيافيللي) - صاحب كتاب (الأمير) -: فقد نصح الأمراء بحنث العهود عندما تتعارض مع مصالحهم الخاصّة، وذلك لأنّ الناس رديئون بطبعهم ولا يحفظون الوفاء.

أما (أوغستين): فكان ينظر إلى القانون باعتباره ضرورة لكبح عيوب الناس المتولّدة عن الخطيئة قرونا عديدة.

وانطلاقاً من هذا التباين الكبير حول أهميّة القانون بين فلاسفة القانون والسياسة والاجتماع يتّضح: أنّ الجانب الغائب وغير الملتفت إليه في هذه النظريّات هو جانب الإنسان الروحيّ والأخلاقيّ، فالإنسان ليس ذا جانب غريزيّ وماديّ فقط حتّى يكون القانون لوحده كافياً لضبطه سلوكيّاً، فمهما كان القانون قويّاً فإنّه لا يكبح جماح الإنسان الذي تحرّكه الغريزة والشهوات، وتسيطر عليه النظرة الماديّة للحياة، فإذا لم يتم الارتقاء بالإنسان روحيّاً، وتوجيهه نحو أهداف معنويّة ترتكز على فلسفة وجوده في الحياة، فمن دون ذلك من المستحيل توقّع حياة إنسانيّة هادئة على هذا الكوكب، وما نشهده في عالمنا المعاصر خير دليل على ذلك، فمع وجود الأنظمة والقوانين الوطنيّة والدوليّة ما زال الظلم والتعدّي والفوضى والحروب هي العنوان المهيمن على المشهد الإنسانيّ.

وفي المحصلة: ليس هناك تعارض وتنافي بين الدين والقانون، وإنّما بينهما تكامل بحيث لا يستغني أحدهما عن الآخر، فإذا كان الدين يؤسّس في داخل الإنسان محكمة الضمير والوجودان والأخلاق، فإنّ القانون يؤسّس في خارج الإنسان المحكمة التي تردع من التمرّد على محكمة الضمير.

كما أنّ الدين في الأساس يقوم على إرشاد الإنسان نحو القيم والمبادئ والمثل، بينما يعتمد القانون في الأساس على تلك القيم لسنّ التشريعات ووضع القوانين التفصيليّة.