كيف تكون مقدسة وهي أرض كرب والبلاء؟

السؤال: وصف الامام الحسين -عليه السلام - كربلاء بانها أرض كرب وبلاء ونحن نقول عنها مقدسة، أيجمع التقديس مع الكرب والبلاء؟!

: سيد صلاح الحلو

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم،

والحمد لله ربّ العالمين

وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.

ألمحُ بين منعطفات كلمات هذا السؤال، وفروج حروف هذا الكلام تعجباً يبدو بين أحنائه ويلوح بين أنحائه.

والسائلُ الكريم كأنَّه يرى أنّ الابتلاء منافٍ للتقديس، وأنّ الأذى في سبيل الله تعالى لا يوجب عظمةً ولا يُلزم احتراماً.

وهل يجتمع التقديس إلَّا مع الكرب، ويلبس ثوب العظمة غير أهل البلاء؟

ودونك ما صدحت به أفواه الأقلام من صفحات الأذى، وطفحت به كتبُ التاريخ من سطور الابتلاء الذي تعرَّض له نبيُّ الأمة وجدُّ الأئمَّة – صلى الله عليه وآله – من ضروب الابتلاء وأنواع الكربات في نفسه وعيالِهِ للجهاد في سبيل الله على أشدِّ سعي، وتبليغ رسالاته على أقوم وجه.

بل إنّ القرآن الكريم يصرّح في كريمةٍ من آياته وعظيمةٍ من سوره أنّ إبراهيم – عليه السلام – ما اتَّخذه الله تعالى إماماً إلَّا بعد الابتلاء -وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً -

وكما صنع بإبراهيم – عليه السلام – من قبل صنع بحفيده سليمان عليه السلام من بعد -قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ-

والدنيا قائمةٌ على البلاء والاختبار -الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ- للأنبياء ومن هو دونهم.

وكان أعظم النَّاس ابتلاءً، وأكثرهم كرباً الإمام الحسين – عليه السلام – ذلك البلاء الذي أورث الدين وأئمَّة الدين والمؤمنين البلاء إلى يوم الانقضاء.

قال الإمام الرضا – عليه السلام - : إن يوم الحسين أقرح جفوننا ، وأسبل دموعنا ، وأذل عزيزنا، بأرض كرب وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء، إلى يوم الانقضاء. [الأمالي للصدوق، ص190]

وأول من أطلق عليها هذا الاسم الرسول الأعظم – صلى الله عليه وآله - فعن أبي وائل شقيق أم سلمة ،أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لها بعد أن ناولها قطعةً من أرض كربلاء: "وديعة عندك هذه - فشمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- وقال : - ويح كرب وبلاء! [المعجم الكبير للطبراني: 3 / 108].

ومن حديثه – صلى الله عليه وآله – مع السيدة الزهراء – عليها السلام عن موضع قتل الإمام الحسين – عليه السلام – : موضع يقال له كربلاء ، وهي ذات كرب وبلاء علينا وعلى الأمة. [كامل الزيارات لابن قولويه، ص145].

ولا ريب أن الإنسان السويَّ حين يمرُّ على الجامعة التي تخرَّج بها فإنه يحترم ذكرياته في تلك الجامعة التي نال منها شهادته الجامعية التي شهدت له بالنَّجاح في امتحاناتها، ويقدّسها ويعظّمها.

كذلك الإمام الحسين – عليه السلام – كان تخرّجه بجامعة كربلاء على أعظم ما يكون الفوز والتخرّج، فقد أهدى منحره الشريف للذبح، وأرسل أولاده الغرَّ للقتل، وحبا أصحابه الميامين للموت، وقدَّم نساءه المصونات للسبي، وما صنع أحدٌ مثل صنيعه، ولا فاز رجلٌ مثل فوزه، وبما أن موته – عليه السلام – أحيا الإسلام، وشهادته كانت فيها حياة المسلمين، فكأنما المسلمون جميعاً فازوا بفوزه، ونجحوا بنجاحه فحقَّ على جامعة كربلاء أن تكون مقدَّسة عندهم لأن بقاءهم مسلمين إلى اليوم بفضل ذلك الذَّبح العظيم الذي كان على تلك الأرض، وبسبب ذلك البلاء الذي أعقبه النَّصر المبين والفتح العظيم.

وأما كونها مقدَّسة فيشهد لذلك الرواية الآتية عن الإمام الصادق – عليه السلام – : قال: إنّ الله - تبارك وتعالى- فضّل الأرضين والمياه بعضها على بعض، فمنها ما تفاخرت ومنها ما بغت... وإنّ أرض كربلاء وماء الفرات أوّل أرض وأوّل ماء قدّس الله تبارك وتعالى وبارك الله عليهما، فقال لها: تكلّمي بما فضّلك الله تعالى، فقد تفاخرت الأرضون والمياه بعضها على بعض.

قالت: أنا أرض الله المقدّسة المباركة، الشفاء في تربتي ومائي، ولا فخر، بل خاضعةٌ ذليلةٌ لمَن فعل بي ذلك، ولا فخر على مَن دوني، بل شكراً لله.

فأكرمها وزادها بتواضعها وشكرها لله بالحسين عليه السلام وأصحابه، ثمّ قال أبو عبد الله عليه السلام: مَن تواضع لله رفعه الله، ومَن تكبّر وضعه الله تعالى. [كامل الزيارات لابن قولويه، ص455].

فالظاهر أنها مقدَّسة من أول الأمر ثم زادها الله قدسيةً بمقتل الإمام الحسين – عليه السلام – بل وفي بعض الروايات انه استشهد فيها قبل الإمام الحسين – عليه السلام – مائتا نبي، ومائتا وصي مع اتباعهم.

فالوجه في قداستها مضافاً أنَّها أرضٌ ملكوتية خلقها الله تعالى قبل أن يخلق الكعبة - التي دحى الله تعالى الأرض من تحتها – بآلاف الأعوام، ثم سترجع بعد فناء الأرض إلى حقيقتها روضةً من رياض الجنَّة.

فعن الإمام السجاد عليه السلام، أنّه قال: اتّخذ الله أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً، قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتّخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام، وأنّه إذا زلزل الله تبارك وتعالى الأرض وسيّرها، رُفعت كما هي بتربتها، نورانية صافية، فجُعلت في أفضل روضة من رياض الجنة، وأفضل مسكن في الجنة، لا يسكنها إلّا النبيون والمرسلون ـ أو قال: أُولو العزم من الرسل ـ وأنّها لتزهر بين رياض الجنة كما يزهر الكوكب الدرّي بين الكواكب لأهل الأرض، يغشى نورها إبصار أهل الجنة جميعاً، وهي تنادي: أنا أرض الله المقدّسة الطيبة المباركة، التي تضمّنت سيد الشهداء، وسيد شباب الجنة. [المزار للمفيد، ص23].