الحكمة من توبة الله على النبي "صلّى الله عليه وآله"..!.

السؤال: قال تعالى: ﴿لَقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ﴾[التوبة:117].فكيف يتوبُ الله على النبيِّ (ص) وهو المعصومُ من الخطأ؟!.

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطيّبين الطاهرين ، الأخ السائل الكريم ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد.. فقبل الإجابة عن السؤال لا بدّ من بيان قصّة الآية الكريمة؛ لأنّ له مدخلاً في اتّضاح المقصود بهذه التوبة ، وقد كان المتحصّل من كلمات المفسّرين هو التالي:

1- تقع الآية محلّ السؤال في ضمن سياق متّصل بالآية التي بعدها، فلا بدّ من الجمع بين الآيتين؛ ليسهل التعرّف عن الإجابة الصحيحة، إذْ تعالج الآيتان تلك الأحداث المؤسفة التي تتعلّق بصورة مباشرة بخروج النبيّ "صلّى الله عليه وآله" إلى غزوة تبوك ، وقد قال تعالى فيهما: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [التوبة:117-118].

2- خلاصة تلك الأحداث أنّ المسلمين أصابتهم حالة من الاضطراب والتشتّت آنذاك ؛ لأنّ ظروف هذه الغزوة كانت عسيرة جدّاً واستثنائية بكلّ المقاييس ؛ ومن هنا سمّيت باسم (غزوة العُسرة) ، إذْ شدّة حرارة الجوّ اللّاهبة ، وكذلك تجشّم أعباء المسير من المدينة المنوّرة إلى بئر تبوك لمسافة تقدّر بحوالي (700 كم ) ، بالإضافة إلى استغراق الكثير من الصحابة في التفكير بجيش الروم الذي سيقاتلونه وقد بلغ تعداده (40,000 ) أربعين ألف مقاتل ؛ كلّ ذلك وغيره شكّل عوامل ضغط نفسيّ على الصحابة ، وأدّى إلى تدنّي الحالة المعنويّة لكثيرٍ منهم ، وهو ممّا أدى إلى تباين مواقفهم ما بين الخروج مع النبيّ "صلّى الله عليه وآله" وعدمه حتّى صاروا في ذلك على ثلاث فرق:

الفرقة الأولى: وهم الذين اتّبعوا النبيّ "صلّى الله عليه وآله" في خروجه للقتال وكانوا موطّنين أنفسهم على إحدى الحسنيين ، فلم يصدر منهم تقصيرٍ أو تخلّفٍ عنه "صلّى الله عليه وآله" طيلة أيّام الغزوة ، وهم مع إخلاصهم هذا شملتهم الآية محلّ البحث بتوبة الله عليهم ، وستعرف السرّ في ذلك إن شاء الله تعالى.

الفرقة الثانية: وهم جماعة من أهل الثبات والبصيرة ، لكنّهم مع ذلك تخلّفوا عن الخروج للقتال لأسباب ودواعٍ مختلفة ، فمنهم أبو ذرّ الغفاريّ الذي تخلّف عن الركب ثلاثة أيّام ؛ بسبب بعيره الأعجف الذي استعصى عليه حتّى اضطرّ إلى تركه في الطريق والالتحاق بسرايا الجيش راجلاً، ومنهم أبو خيثمة الذي كان قويّاً في بدنه فتخلّف اعتماداً على ذلك ، وكان عازماً على الالتحاق فيما بعد ، لكنّه سرعان ما ندم على تخلّفه هذا والتذاذه بأصناف الطعام والشراب البارد دون النبيّ "صلّى الله عليه وآله" وسائر المسلمين ، فالتحق بالجيوش بعد عشرة أيّام ، ومثله فعل عمر بن وهب. لكن أبرز المتخلّفين كانوا ثلاثة نفرٍ وهم : كعب بن مالك الشاعر ومرارة بن ربيع وهلال بن أميّة الرافعيّ ، فإنّ هؤلاء عرضتهم حالة من الكسل والتثاقل فلم يلتحقوا بالجيش البتّة حتّى عاد النبيّ "صلّى الله عليه وآله" من الغزوة المذكورة ، فوبّخهم الناس واستشعروا التقصير فقصدوا النبيّ "صلّى الله عليه وآله" وطلبوا منه المغفرة وأقرّوا له بذنبهم ، فلم يكلّمهم وأمر المسلمين بمقاطعتهم ، فقاطعهم الجميع حتّى زوجاتهم وعيالهم ، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وعلموا أنّ الله قد غضب عليهم بغضب رسوله "صلّى الله عليه وآله" فصعدوا على الجبال وقاطع بعضهم بعضاً ، وصاروا يطلبون من الله التوبة ويبكون ولا يأكلون ولا يشربون أيّاماً حتّى كادت تزهق أنفسهم لشدّة البكاء والندم والتضرّع ، وهؤلاء الثلاثة هم الذين نزلت فيهم الآية الثانية أعني قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا...}.

الفرقة الثالثة: جماعة من الكسالى المذبذبين الذين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء..! ، وهم جماعة خرجوا للقتال ، لكنّهم كانوا يتردّدون بين المتابعة وبين العودة إلى ديارهم ، بل صمّم بعضهم على الرجوع [انظر تفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ:ج6،ص245] ، وطالب بعضٌ آخرُ منهم النبيَّ "صلّى الله عليه وآله" بإيجاد حلٍّ لمشكلة العطش وشحّة المياه التي لا تُحتمل ، وكان في طليعة المطالبين الخليفة الأوّل أبو بكر..! ، فما كان من النبيّ "صلّى الله عليه وآله" إلّا أن يدعو ربَّه سبحانه وتعالى ، وما أسرع ما أغاثه بسحابة كأنّها أفواه القرب كما في رواية عمر بن الخطّاب..!. [انظر مجمع الزوائد للهيثميّ:ج6،ص194 ، السنن الكبرى للبيهقيّ:ج9،ص357 ، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوريّ:ج1،ص159] ؛ فلمّا شاهدوا تلك المعجزة على يده "صلّى الله عليه وآله" ندموا على ما كان منهم من التذبذب وشعروا بالتقصير وضعف الإيمان إذْ كادوا يَضلّون ويزيغون عن الحقّ ، وهؤلاء هم الفريق الذي قال تعالى عنهم في الآية الأولى: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ}.

فإذا عرفت ذلك فاعلم أخي العزيز أنّ ذكر النبيّ "صلّى الله عليه وآله" لا من جهة أنّ له ذنباً فتاب الله عليه فيه ؛ فإنّه معصوم من الزلل في القول والفكر والعمل بلا إشكال ، وعصمته من الثوابت التي لا تقبل النقض بأيّ حال من الأحوال ، وهو لم يقصّر في الخروج إلى هذه الغزوة طرفة عين ، وهكذا الحال في شأن الفرقة الأولى التي تقدّم ذكرها فإنّها لم تقصّر في شيء من ذلك كما عرفت ، وإنّما المشكلة والتقصير كان لدى الفرقتين الثانية والثالثة ، ؛ ولذا فقد ذكر المفسرون سببين لورود ذكره "صلّى الله عليه وآله" في الآية محلّ البحث:

أحدهما: أنّ ذلك هو من باب الاستفتاح والبركة وإظهار منزلته "صلّى الله عليه وآله" عند ربّه وأنّه بسبب وجوده الأقدس قد تاب الله عليهم ، قال الطبرسيّ: (( إنّما ذكر النبيّ "صلّى الله عليه وآله" استفتاحاً باسمه ؛ ولأنّه سبب توبتهم ، وإلّا فمن المعلوم أنّه لم يكن منه ما أوجب التوبة ، وروي عن الرضا "عليه السلام": أنّه قرأ : " لقد تاب الله بالنبيّ على المهاجرين والأنصار الَّذين اتّبعوه في الخروج معه إلى تبوك.))[مجمع البيان للطبرسيّ:ج5،ص138]. أقول: قول الطبرسيّ: (وروي عن الرضا "عليه السلام" أنّه قرأ ...) يريد به أنّه "عليه السلام" قد قرأ الآية بمعناها وتأويلها لا بنّصها الموجود في القرآن الكريم كما هو واضح. والذي يشهد لهذا المعنى هو أنّ توبة أيّ مسلم مشروطة بتوسّط النبيّ الأكرم "صلّى الله عليه وآله" بينه وبين الله عزّ وجلّ، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}[النساء:64].

والسبب الآخر: هو أنّ مجيء التوبة عامّة وشاملة للجميع بما في ذلك النبيّ "صلّى الله عليه وآله" وهو المعصوم الذي لا ذنب له فيما صدر منهم ؛ إنّما هو رعاية لمشاعر هؤلاء المذنبين التائبين، وحفظ ماء وجوههم في وسط الأمّة ، والإبقاء على كرامتهم. قال العلّامة الطباطبائيّ: (( ولعلَّ الغرض الأصليّ بيان توبة الله سبحانه لأولئك الثلاثة المخلّفين ، وقد ضمّ إليها ذكر توبته تعالى للمهاجرين والأنصار حتّى للنبيّ "صلى الله عليه وآله وسلّم" لتطيب قلوبهم بخلطهم بغيرهم وزوال تميّزهم من سائر الناس وعَفوِ أثر ذلك عنهم حتّى يعود الجميع على نعت واحد وهو أنّ الله تاب عليهم برحمته فهم فيه سواء من غير أن يرتفع بعضهم عن بعض أو ينخفض بعضهم عن بعض.)) [تفسير الميزان:ج9،ص400] ، هذا ما وفّقنا الله لتحريره في المقام .. ، ودمتم سالمين.