هل يتساءل الناس بينهم يوم القيامة ؟، أم أنّهم لا يتساءلون ؟!.
السؤال: عند وصفه يوم القيامة جاء في القرآن: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}[المؤمنون:101] فعبّر عن الناس بأنّهم {لَا يَتَسَاءَلُونَ}، ولكننا نجده في آية أخرى وعن يوم القيامة نفسه يقول:{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}[الصافّات:27]، ويقول أيضاً:{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ}[القلم:30]، فكيف ذلك؟!، أَلَا يعني هذا تناقضَ القرآن مع نفسه وبشكل سافر؟!
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل الإجابة عن ذلك لابدّ من التنبيه على أنّ علماء المسلمين بمختلف مذاهبهم وبلا استثناءٍ قد أجمعوا على أنّ من ضرورات الدين الإسلامي الاعتقاد بسلامة القرآن الكريم الموجود بين الدفّتين من التنافي بين آياته وخلوّه تماماً من التناقض بين إخباراته أو أحكامه. ولهم في ذلك بحوث ضمنيّة تارة ومستقلّة أخرى ومناظرات كثيرة، مضافاً إلى تصدّي الأئمّة الأطهار (ع) وأصحابهم الكرام للذبّ عن عصمة القرآن الكريم من جميع ذلك.[ينظر الكتب التالية: الاحتجاج ج1ص370، شبهات مسيحيّة حول القرآن الكريم، تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين].
فإذا عرفت ذلك فإنّ ما توهّمه السائل من التناقض بين الآيات المذكورة سببه عدم الاطّلاع على تفاسير المسلمين، وإلّا فلا أساس له على الإطلاق؛ وذلك لوجود أكثر من موردٍ للاختلاف بين تلك الآيات، على أنّ هذه الشبهة قديمة ترجع إلى عصر الصحابة كما سيتّضح. هذا، وقد سلك علماء المسلمين مسلكين أساسيّين في دفعها:
المسلك الأوّل: وهو يرتكز على نفي اتحاد الظرفيّة بين كلّ من الموقفين الورادين في مجموع الآيات - أعني: إثبات التساؤل تارةً ونفيه أخرى – فنحن لدينا سياقات من الكلام وقعت ضمنها الآيات محل البحث، والملاحظ فيها: أنّ قوله تعالى:{فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} يقع ضمن سياق الآيات (99 - 101) والتي تتحدّث عن حال الناس بعد وقوع النفخ في الصّور بشكل عامّ، وذلك قبل دخولهم الجنّة أو النار. في حين يأتي قوله تعالى:{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} في سلسلة الآيات (19 – 33) من سورة الصافّات لِيتحدّث عن حال المجرمين والكفّار بعد حشرهم إلى النار. وكذلك قوله عزّ وجلّ: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} المندرج ضمن سياق الآيات (40 - 50) من السورة نفسها. فإنّه يستعرض حال أهل الجنّة في الجنّة. فإذا اتضح لك ذلك فقد ذكر علماء التفسير في هذا المسلك توجيهين لنفي التناقض المتوَهَّم:
التوجيه الأوّل: ما ذكره بعض مفسّري المذهب من أنّ السياق الأوّل ينفي التساؤل في ظرف الحساب والقضاء الإلهي بشكله العام الذي يبدأ بالنفخ في الصُّور وينتهي بنهاية حساب الخلائق، بخلاف ما في السياق الثاني ونظائره فإنّه حكايةٌ لتساؤل أهل الجنّة بعد دخولهم إليها وتنعّمهم بما فيها من الثواب، وكذلك تساؤل أهل النار فيما بينهم بعد إلقائهم فيها وتلقّيهم العذاب.[يلاحظ: تفسير الميزان ج15ص69، الأمثل ج10 ص517].
التوجيه الثاني: ما رواه العامّة بإسنادهم عن سعيد بن جبير قال:« جاء رجل فقال: يا ابن عباس إنّي أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ فقد وقع ذلك في صدري..؟ فقال ابن عباس: أتكذيب..؟!، فقال: ما تكذيب ولكن اختلاف..!، قال: فهَلُمَّ ما وقع في نفسك. قال له الرجل: أسمعُ اللهَ عزّ وجلّ يقول:{فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} وقال في آية أخرى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}...، قال ابن عباس: قوله:{فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} فهذا في النفخة الأولى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}[الزمر:68] فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثمّ إذا كان في النفخة الأخرى قاموا فاقبل بعضهم على بعض يتساءلون»[المعرفة والتاريخ ج1ص527، صحيح البخاريّ ج6 ص35، وأيضاً ينظر عن هذا التوجيه: تفسير الرازيّ ج23ص122]. ومن هنا يتّضح لك أنّ الشبهة قديمة جدّاً.
المسلك الثاني: وهو يقوم على التفرقة بين معاني التساؤل المذكور في كلّ واحدٍ من السياقين، فبالعود إلى لغة العرب واستعمالات
القرآن الكريم لمفرداتها يظهر لنا بوضوح أنّ لمفردة التساؤل معاني عديدة ذكرها أهل الاختصاص[يراجع: التحقيق في كلمات القرآن الكريم ج5ص8]، والذي يعنينا من بين تلك المعاني ثلاثة:
1- أن يأتي التساؤل بمعنى الاستفهام والاستخبار الذي هو طلب الفهم والعلم بما كان مجهولاً عند السائل، فتساءل تعني: استفهم واستخبر، تقول: (فلان يتساءل عن سبب قدومك)، أي يستفهم ويطلب إخباره عن سبب القدوم.
2- أن يستعمل التساؤل بمعنى التوبيخ والملامة والعتاب والإنكار، ومنه قوله تعالى حكاية عن موسى(عليه السلام):{قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}[الكهف:74].
3- أن يطلق التساؤل ويراد منه المناشدة بالله، وهو ما يعرف في الفقه الإسلامي بيمين المناشدة أي المساءلة وهي: (اليمين التي تقرن بالطلب أو السؤال لحث المطلوب أو المسؤول على فعل شيء أو ترك آخر، كقولك " أسألك بالله أن تفعل كذا، أو تترك كذا ")[يراجع: معجم ألفاظ الفقه الجعفريّ ص460]. وقد جرت العادة عند الناس إلى يومنا هذا بأنّ يستعطف أحدهم غيره بالرحم كقول النضر بن الحارث لرسول الله(صلّى الله عليه وآله) بعدما أسره المسلمون يوم بدر: (يا محمد أسألك بالرحم بيني وبينك إِلّا أجريتني كرجلٍ من قريش، إن قتلتهم قتلتني، وإن فاديتهم فاديتني، وإن أطلقتهم أطلقتني...)[يلاحظ: أنساب الأشراف ج9ص21مجمع البيان ج4ص460]، وإلى هذا المعنى من التساؤل أشار قوله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النساء:1، وينظر عنها: مجمع البيان ج3ص8]. وللمفسّرين في هذا المسلك توجيهان أيضاً:
التوجيه الأوّل: أن يكون التساؤل المنفي في آيات سورة المؤمنون هو: أن لا يسأل بعضهم بعضاً سؤال استخبار واستفهام عن الحال؛ وذلك لتشاغلهم وذهولهم عن بعضهم البعض بالأهوال العجيبة ليوم القيامة. أمّا ما في سورة الصافّات من التساؤل فيُراد منه: أن يسأل بعضهم بعضاً سؤال تلاوم وتوبيخ، بشهادة قوله تعالى:{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ}[القلم:30]، وقد وقع هذا النوع من التلاوم والتوبيخ كثيراً في القرآن الكريم كما في الآيات: (31-33) من سورة سبأ، وغيرها.[يلاحظ: التبيان ج4ص350، مجمع البيان ج4ص219، تفسير الرازيّ ج23ص122].
التوجيه الثاني: أن يكون المراد من التساؤل المثبت في آيات سورة الصافّات هو عين ما تقدّم من تساؤل أهل الجنّة فيما بينهم بعد دخولها، والملامة بين أهل النار وهم في النار.
أمّا التساؤل المنفيُّ في قوله تعالى: {وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} فهو تساؤل الأرحام واستعطاف بعضهم البعض بالرحم، فبعد أنّ نفى القرآن علاقة الأنساب في الآخرة، فرّع على ذلك نفيَ وقوعِ التساؤل بها أيضاً؛ لإدراك الناس عدم جدوى ذلك، وعلمهم بأنّ جميع الأسباب الدنيويّة والأنساب قد تقطّعت هناك، ولم يعُد لها تأثير كالذي كان لها في الدنيا، فلا ينجي من العلائق في الآخرة إلّا علاقة القرب من الله تعالى بالعمل الصالح والتقوى.[يلاحظ: تفسير الميزان ج15ص69، الأمثل ج10 ص517، تفسير القرطبيّ ج8ص347]. قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزخرف:67]، وبهذا المعنى جاء في الحديث الذي رواه الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة عن النبيّ(ص) قال« إنّ الله عزّ وجلّ يقول يوم القيامة: أمرتكم فضيَّعتم ما عهدت إليكم فيه ورفعتم أنسابكم، فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم! أين المتقون ؟! أين المتقون ؟!،{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} »[المستدرك ج2ص464]. فتحصّل من كلّ ما تقدّم عدم وجود التنافي والتناقض بين الآيات المذكورة. هذا ما وفّقنا الله تعالى لتحريره في المقام .. فله الحمد أوّلاً وآخراً.ّ
اترك تعليق