شرح حديث في غلبة نور فاطمة نور الهلال
عن الرّضا (عليهِ السلام) قالَ: « كانَت فاطمةُ سيّدةَ نساءِ العالمين (ع)، إذا طلعَ هلالُ شهرِ رمضان يغلبُ نورُها الهلالَ ويخفى، فإذا غابَت عنه ظهر »، بحارُ الأنوار، ج43، ص56، فضائلُ الأشهرِ الثلاثة ص99، العوالمُ، ج11، ص78، ماذا نستفيدُ مِن هذهِ الروايةِ الشريفةِ منَ الجهةِ المعرفيّةِ الولائيّة؟
عن الرّضا (عليهِ السلام) قالَ: « كانَت فاطمةُ سيّدةَ نساءِ العالمين (ع)، إذا طلعَ هلالُ شهرِ رمضان يغلبُ نورُها الهلالَ ويخفى، فإذا غابَت عنه ظهر »، بحارُ الأنوار، ج43، ص56، فضائلُ الأشهرِ الثلاثة ص99، العوالمُ، ج11، ص78، ماذا نستفيدُ مِن هذهِ الروايةِ الشريفةِ منَ الجهةِ المعرفيّةِ الولائيّة؟
الجواب :
السلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه،
الحديثُ رواهُ الشيخُ الصدوقُ في [فضائلِ الأشهرِ الثلاثة ص108- 109 ح84] بإسنادِه عن الحسنِ بنِ عليٍّ الخزّاز، قالَ: « دخلتُ على أبي الحسنِ عليٍّ بنِ موسى الرّضا (عليهِ السلام) آخرَ جُمعةٍ مِن شعبان وعندَه نفرٌ مِن أصحابِه... ثمّ قالَ (عليهِ السلام): معاشرَ شيعتي إذا طلعَ هلالُ شهرِ رمضان فلا تشيروا إليهِ بالأصابعِ، ولكن استقبلوا القبلةَ، وارفعوا أيديكم إلى السّماءِ، وخاطبوا الهلالَ، وقولوا: (ربُّنا وربّكَ اللهُ ربُّ العالمين، اللهمَّ اجعلهُ علينا هلالاً مُباركاً، ووفِّقنا لصيامِ شهرِ رمضان، وسلِّمنا فيه، وتسلّمنا منه في يُسرٍ وعافيةٍ، واستعملناه فيه بطاعتِك، إنّك على كلِّ شيءٍ قدير)، فما مِن عبدٍ فعلَ ذلكَ إلّا كتبَه اللهُ تباركَ وتعالى في جُملةِ المرحومين، وأثبتَه في ديوانِ المَغفورين، ولقد كانَت فاطمةُ سيّدةَ نساءِ العالمين (عليها السلام) تقولُ ذلكَ سنةً، فإذا طلعَ هلالُ شهرِ رمضان كانَ نورُها يغلبُ الهلالَ فيخفى، فإذا غابَت عنه ظهر »، ونقلَه عنه العلّامةُ المجلسيّ في [بحارِ الأنوار ج43 ص56]، وغيرُه.
أقولُ: وهذا الحديثُ الشريفُ يشتملُ على بعضِ آدابِ الاستهلال، كعدمِ الإشارةِ إلى الهلالِ بالأصابع، واستحبابِ استقبالِ القبلة، ورفعِ اليدِ إلى السّماء، ومُخاطبةِ الهلال، والدّعاءِ بتلكَ الكلمات، ولهذهِ الآدابِ ثوابٌ وهوَ أنّ اللهَ يكتبُ العاملَ بها في جُملةِ المرحومينَ وفي ديوانِ المغفورين.
ويستفادُ مِن ذيلِ الحديثِ ممّا يرتبطُ بسيّدةِ نساءِ العالمين (صلواتُ اللهِ عليها) أمورٌ كثيرةٌ، نذكرُ منها:
الأمرُ الأوّل: قوله (عليه السلام): « ولقد كانَت فاطمةُ سيّدةَ نساءِ العالمين (عليها السلام) تقولُ ذلكَ سنّة » يحتملُ فيهِ وجوه:
أحدُها: أنّ السيّدةَ الزهراءَ (سلامُ اللهِ عليها) تقولُ: إنّ ذلكَ الفعلَ والقولَ منَ السنّةِ الشريفة. يعني أنّها (عليها السلام) تخبرُ وتحكي عن كونِ الفعلِ والقولِ عند الاستهلالِ منَ السنّة، وعليهِ يكونُ « ذلكَ » مُبتدأً و « سنّة » خبرَها، والجملةُ « ذلكَ سُنّة » مقولُ القولِ منصوبٌ على المفعوليّة.
وثانيها: أنَّ السيّدةَ الزهراءَ (عليها السلام) تقولُ ذلكَ الدعاءَ مِن بابِ السنّة. يعني أنّها (عليها السلام) تقرأ ذلكَ الدعاءَ عملاً بالسنّةِ، وعليه يكونُ كلٌّ مِن « ذلكَ » و« سنّة » منصوباً على المفعوليّة.
وثالثها: أنّ السيّدةَ الزهراءَ (عليها السلام) كانَت تقولُ ذلك الدعاءَ في سَنَةٍ، يعني أنّها (عليها السلام) قرأت الدعاءَ في إحدى السنوات، وعليهِ يكونُ « سنةً » منصوباً بنزعِ الخافِض، أي: في سنةٍ.
والوجهانِ الأوّلانِ أرجحُ مِن هذا الوجهِ الأخير.
الأمرُ الثاني: إنّ الأساليبَ التي استعملَها الأئمّةُ المعصومونَ (سلامُ اللهِ عليهم) في بيانِ الأحكامِ الشرعيّةِ متنوّعةٌ، فتارةً نجدُ الإمامَ (عليهِ السلام) يبيّنُ الحُكمَ الشرعيّ فقط، وأخرى ينقلُ الحُكمَ عن معصومٍ سابقٍ عليه كالنبيّ أو الأميرِ أو غيرِهما (صلواتُ اللهِ عليهم)، وثالثةً يبيّنُ الحُكمَ ثمّ يستشهدُ عليه بكلامِ معصومٍ سابقٍ أو فعله.
وهذا التنوّعُ الأسلوبيُّ له أسبابُه البلاغيّةُ ونكاتُه الفنيّة، وليسَت اعتباطيّةً؛ إذ المعصومُ (عليهِ السلام) يوزنُ كلَّ كلمةٍ بل كلَّ حرفٍ مِن حروفِ كلامِه، فلا يزيدُ ولا ينقصُ إلّا لنُكتةٍ ما.
وإذا رجَعنا لهذا الحديثِ الذي رواهُ الشيخُ الصّدوق، نجدُ أنّ الحاضرينَ في مجلسِ الإمامِ (عليهِ السلام) هم فقهاءُ الأصحابِ وكبارُ العُلماء، والخطابُ مُوجّهٌ لهم في ذلكَ المجلس، يقولُ الراوي: « حدّثنا الحسنُ بنُ عليّ الخزّاز، قالَ: دخلتُ على أبي الحسنِ عليٍّ بنِ موسى الرضا (عليهِ السلام) آخرَ جُمعةٍ من شعبان، وعندَه نفرٌ مِن أصحابه، منهم: عبدُ السلامِ بنُ صالح، وصفوانُ بنُ يحيى، وأحمدُ بنُ محمّد بنِ أبي نصر، ومحمّدٌ بنُ إسماعيل، ومحمّدٌ بنُ سنان، وخادماه ياسر ونادر وغيرُهما »، فالراوي هو الحسنُ بنُ عليٍّ الخزّاز وهوَ مِن وجوهِ هذه الطائفةِ وكبارِها، وعبدُ السلامِ بنُ صالح هو الهرويُّ مِن حواري الإمامِ وخاصّتِه، وصفوانُ بنُ يحيى البجليّ كانَت له عن الرضا (عليهِ السلام) منزلةٌ شريفةٌ، وهوَ مِن كبارِ الفقهاء، وأحمدُ بنُ محمّد بن أبي نصرٍ البزنطيّ كانَ عظيمَ المنزلةِ عندَ الرّضا والجواد (عليهما السلام)، مِن كبارِ الفقهاء، ومحمّدٌ بنُ إسماعيل بن بزيع كانَ مِن صالحي هذهِ الطائفةِ وثقاتِهم وفقهائِهم، ومحمّدٌ بنُ سنان منَ الشخصيّاتِ المعروفة.ففي ذلكَ المجلسِ ستُّ شخصيّاتٍ كبيرةٍ وجليلة، تعدُّ في الرعيلِ الأوّلِ بينَ أصحابِ الرّضا (عليهِ السلام)، وقد طرحَ الفقيهُ الجليلُ محمّدٌ بنُ إسماعيلَ بنِ بزيع في ذلكَ المجلسِ مسائلَ على الإمام، يقولُ الرّاوي الحسنُ الخزّاز: « فقالَ (عليهِ السلام): معاشرَ شيعتي، هذا آخرُ يومٍ مِن شعبان، مَن صامَه احتساباً غُفرَ له، فقالَ له محمّدٌ بنُ إسماعيل: يا ابنَ رسولِ الله، فما تصنعُ بالخبرِ الذي رُويَ في النهي عن استقبالِ رمضان بيومٍ أو يومين؟ فقالَ (عليهِ السلام): يا ابنَ إسماعيل، إنّ رمضانَ اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ (عزّ وجلّ)... »، فنلاحظُ أنّ المجلسَ كانَ مجلساً تعليميّاً لنُخبةِ العُلماءِ وكبارِ الطائفة، طرحَ ابنُ بزيع روايةً ظاهرُها التعارضُ معَ ما قالهُ الإمامُ (عليهِ السلام)، وطلبَ منَ الإمامِ أن يُعلّمَه كيفيّةَ مُعالجةِ هذا التنافي الحاصل. في ذلكَ المجلسِ النخبويّ ذكرَ الإمامُ (عليهِ السلام) آدابَ الاستهلالِ، وعطفَ عليها مُستشهداً: « ولقد كانَت فاطمة... »، فاستشهدَ (عليهِ السلام) على بيانِ الحُكمِ الشرعيّ بقولِ أو فعلِ جدّتِه الصدّيقةِ الكُبرى (سلامُ الله عليها)، أي برهنَ على الحُكمِ الشرعيّ بالسيّدةِ الزهراءِ (عليها السلام)؛ لتعليمِ الأصحابِ ذلك، ولبيانِ مكانةِ جدّتِه (عليها السلام) وموقعيّتِها في الدين، ولغيرِ ذلك.
فاستشهادُ الإمامِ على الحُكمِ الشرعيّ بالسيّدةِ الزهراءِ (عليها السلام) يشيرُ إلى عصمتِها وولايتِها التشريعيّة؛ إذ إنّ اللهَ تعالى أعطاها صلاحيّاتٍ في عالمِ التشريع، ولهذا كانَ قولُها وفعلُها وتقريرُها حُجّةً، وهذا بيانٌ لمقامِها وموقعيّتِها في الدين.
الأمرُ الثالث: الحديثُ يُستفادُ منه استحبابُ الاستهلالِ وشمولُ هذهِ الآداب للنساءِ أيضاً، ولا تختصُّ بالرجالِ؛ إذ السيّدةُ الزهراءُ (عليها السلام) والتي هيَ سيّدةُ نساءِ العالمين فعلَت ذلكَ، ولعلَّ هذا أحدُ أسبابِ ذكرِ الإمامِ (عليهِ السلام) هذه الألقابَ لها (عليها السلام)، أعني لقبَ سيّدةِ نساءِ العالمين.
الأمرُ الرّابع: الرواياتُ الواردةُ في آدابِ الاستهلالِ عديدةٌ، وفيها أدعيةٌ متنوّعةٌ، مرويّةٌ عن المعصومينَ (عليهم السلام)، وفي خصوصِ حديثِنا استشهدَ الإمامُ (عليهِ السلام) بخصوصِ السيّدةِ الزهراءِ (عليها السلام) دونَ غيرِها، كأبيها وبعلِها وأولادِها (عليهم السلام)، والدعاءُ لم يُروَ بهذا اللفظِ في شيءٍ منَ الرواياتِ الأخرى، وكأنّه مِن خصائصِها (عليها السلام)، ولهذا ما استشهدَ الإمامُ الرّضا (عليهِ السلام) بغيرِها منَ المعصومين؛ لأنّ الدعاءَ دعاؤها، وهذهِ السنّةُ سُنّتُها هيِ (عليها السلام)، وهذا مِن مظاهرِ ولايتِها التشريعيّة.
الأمرُ الخامس: قولهُ (عليهِ السلام): « فإذا طلعَ هلالُ شهرِ رمضان كانَ نورُها يغلبُ الهلالَ فيخفى، فإذا غابَت عنهُ ظهر »، هكذا وردَ في المطبوعةِ المُحقّقةِ مِن كتابِ فضائلِ الشهورِ الثلاثةِ للصّدوق، وفي بحارِ الأنوار: « فكانَ نورُها يغلبُ الهلالَ ويخفى ».
ومعنى هذه الفقرةِ: أنّ السيّدةَ الزهراءَ (عليها السلام) عندَما كانَت تستهلّ هلالَ شهرِ رمضان، كانَ نورُها يغلبُ على نورِ الهلال، فيخفى الهلالُ على الناسِ ولا يرونَه، فإذا غابَت (عليها السلام) بأن دخلَت دارَها وحُجرتَها وحُجبَت عن الهلال، كانَ الهلالُ يظهرُ فيراهُ الناس.
الأمرُ السادس: انخسافُ نورِ الهلالِ بنورِ الصدّيقةِ الكُبرى (سلامُ اللهِ عليها)، يعني أنّ نورَها (عليها السلام) كنورِ أبيها (صلّى اللهُ عليهِ وآله) يغلبُ كلَّ نورٍ ـ وفيه نورُ الشمسِ والقمر ـ كما وردَ في رواياتِ الفريقين، ولذلكَ ليسَ له (صلّى اللهُ عليهِ وآله) ظلٌّ إذا مشى في الضوء، وقد وردَت هذه الخصيصةُ للأئمّةِ (عليهم السلام)، وهوَ مُنسجمٌ تماماً معَ ما وردَ عنهم (عليهم السلام) مِن أنّهم طينةٌ واحدةٌ ونورٌ واحد.
الأمرُ السابع: نورانيّةُ الصدّيقةِ الكُبرى (عليها السلام) لها تأثيرٌ خاصّ على أهلِ السماوات، كما لها تأثيرٌ خاصٌّ وقتَ الغروب.. ففي روايةٍ نبويّة: « سُمّيَت الزهراءَ لأنّ نورَها زهرَت بهِ السماوات »، وفي روايةٍ صادقيّة: «لأنّها تزهرُ لأميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) في النهارِ ثلاثَ مرّات... فإذا كانَ آخرُ النهارِ وغربَت الشمسُ احمرَّ وجهُ فاطمة (عليها السلام)، فأشرقَ وجهُها بالحُمرةِ فرحاً وشُكراً للهِ (عزّ وجلّ)، فكانَ تدخلُ حُمرةُ وجهِها حُجراتِ القومِ وتحمرُّ حيطانُهم، فيعجبونَ مِن ذلك.. »، وفي روايةٍ كاظميّة: « كانَت فاطمةُ كوكباً درّيّاً مِن نساءِ العالمين »، وفي روايةٍ عسكريّة: « كانَ وجهُها يزهرُ لأميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) مِن أوّلِ النهارِ كالشمسِ الضاحية، وعندَ الزوالِ كالقمرِ المُنير، وعندَ الغروبِ ـ غروبِ الشمس ـ كالكوكبِ الدريّ »، وفي روايةٍ صادقيّة: « لأنّها كانَت إذا قامَت في مِحرابها زهرَ نورُها لأهلِ السماءِ كما يزهرُ نورُ الكواكبِ لأهلِ الأرض »، وقد رُويَ عن عائشةَ بنتِ أبي بكر أنّها قالت: « كُنّا نخيطُ، ونغزلُ، وننظمُ الإبرةَ بالليلِ في ضوءِ وجهِ فاطمة » [أخبارُ الدول ص87]، وفي روايةٍ أخرى: « كنتُ أسلكُ الخيطَ في سمّ الخياطِ في الليلةِ المُظلمةِ مِن نورِ وجهِ فاطمة » [نخبةُ اللآلي ص85].
الأمرُ الثامن: إنّ خسفَ نورِ فاطمةَ (عليها السلام) لنورِ القمر ـ وكذلكَ التأثيرُ التكوينيُّ على حيطانِ المدينةِ وعلى أهلِ السماء، كما في الرواياتِ المُتقدّمةِ في الأمرِ السابع ـ يشيرُ إلى ولايتِها على الكون، فبمُجرّدِ بروزِها (سلامُ اللهِ عليها) لجُرمٍ سماويّ ينخسفُ لأجلِها ويتغيّرُ نظامُ الكون، وهذا شيءٌ مِن مظاهرِ ولايتِها (عليها السلام). هذهِ ولايةٌ تكوينيّة، وقد أشَرنا في بعضِ الأمورِ المُتقدّمةِ إلى استفادةِ ولايتِها التشريعيّةِ منَ الحديث.
الأمرُ التاسع: استشهادُ الإمامِ الرّضا (عليهِ السلام) بالحادثةِ إشارةٌ خفيّةٌ لإلفاتِ الناسِ إلى هذا الطريقِ الإلهيّ النورانيّ، كأنّه يريدُ أن يقول: جدّتي فاطمة (عليها السلام) هيَ الفيصلُ إذا اشتبهَت السبلُ عليكم، كما أنّ الهلالَ هوَ الفيصلُ إذا اشتبهَت الشهور.
وفي الحديثِ أشياءُ أخرى يمكنُ استنباطُها واستكشافُها، فإنّ أحاديثَ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) بحورٌ منَ العلمِ والمعرفة، نسألُ اللهَ التوفيقَ والتسديد.
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
اترك تعليق