هل الخلفاء تقدّموا على جميع الأمّة بسبب إنفاقهم في سبيل الله؟

السؤال: من مناقب عثمان وأبي بكر وعمر أنّهم تبرّعوا بكلّ مالهم أو شطره للرسول كما هو ثابت عند أهل السنة، ولم تثبت هذه الميزة لأحد من بني هاشم وغيرهم؟ وهذا من أعظم أدلّة تقديمهم على سائر الأمّة..

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

لمناقشة هذا الادّعاء لا بدّ من بحثٍ تاريخيّ يتتبّع ما نُسِبَ إلى هؤلاء الصحابة من إنفاقٍ في سبيل الله تعالى، وهو ممّا يستدعي بحثاً مطوّلاً لا يناسب المقام، كما أنّ هذه العناوين قد بُحثت مفصّلاً في كثير من الكتب العقديّة، ولذا سوف نكتفي ببعض الإشارات مع ذكر بعض المراجع لمن يحبّ التفصيل.

أوّلاً: ليس في القرآن الكريم ما يدلّ صراحة على إنفاق أبي بكر وعمر وعثمان في سبيل الله تعالى، وما جاء من روايات في هذا الشأن، لا تصمد أمام النقد والتمحيص، وسنشير إلى ذلك في أثناء الإجابة.

ثانياً: لو سلّمنا جدلاً بهذا الإنفاق المزعوم، فإنّه لا يصلح دليلاً على تقدّمهم على سائر الأمّة، فالإنفاق فضيلة من بين عشرات الفضائل الأخرى، فهناك الإيمان والتقوى والعلم والشجاعة والجهاد وغيرها من الكمالات، والله سبحانه وحده هو العالم بمَن نال الدرجة الرفيعة في جميع الفضائل والكمالات، ولو كان الإنفاق وحده علّة تامّة للأفضليّة، لوجب المصير إلى أفضليّة أمّ المؤمنين السيّدة خديجة (ع)، زوجة النبيّ (ص)، فقد أنفقت جميع أموالها بإخلاص لتأييد دين الله تعالى، وهذا ما لا يلتزمون به.

ومن هنا كان النصّ والتعيين الإلهيّ هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة مَنْ يستحقّ الإمامة والقيادة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وكثيرةٌ هي النصوص التي فضّل الله تعالى بها (أهل البيت عليهم السلام) على جميع الخلق بعد رسوله (صلّى الله عليه وآله)، فنصّبهم أئمّة وعيّنهم قادة، وأوجب على الأمّة طاعتهم، ولم يرضَ عمل عامل منهم، إلّا بمودّتهم، وذكرهم والصلاة عليهم بمَن فيهم الخلفاء.

ثالثاً: لم يُعرف عن عمر بن الخطاب أنه ممن أنفق أمواله في سبيل الله تعالى في زمان رسول الله (ص)، فحينئذٍ ما الداعي لإقحامه بين أبي بكر وعثمان؟!

وكذلك لم يُعرف عن أبي بكر ولا عن عائلته أنّهم من أثرياء قريش، ولا من وجهائها، إذْ والده كان يعمل أجيراً عند أحد الأثرياء، وأبو بكر كان خياطاً أو معلماً، فمن أين له المال، كي ينفقها في سبيل الله تعالى؟!!؟

رابعاً: معيار الإنفاق في سبيل الله تعالى هو الإخلاص والتقوى، وليس الكثرة في المقدار أو في الإنفاق، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾، وقد خلّد الله سبحانه إنفاق أهل بيت النبوّة عندما أطعموا المسكين واليتيم والأسير، فقال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) [الإنسان: 8 – 12] وكذلك تصدّق أمير المؤمنين (ع) بخاتمه في الصلاة، فأنزل الله تعالى آية الولاية: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) [المائدة: 55].

وعلى ذلك لا يمكن التأكّد بأنّ الله تعالى تقبّل إنفاق الخلفاء إلّا إذا دلّت آية على ذلك، وهنا لا بدّ من مراجعة الآيات التي استدلّ بها القوم على إنفاق أبي بكر وعثمان.

أ‌- ما استدلّ به على إنفاق أبي بكر: قال تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لاِحَد عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَة تُجْزَى) [الليل: 17 – 19].

قالوا: إنّ الآية نزلت في أبي بكر، وهي دليل على فضله وكرامته عند الله تعالى بسبب تقواه وإنفاق ماله في سبيل الله.

نقول: إنّ الآية المذكورة فيها ثلاثة أقوال:

القول الأوّل: إنّها عامّة لجميع مَنِ اتّصف بالصفة المذكورة. [فتح القدير للشوكانيّ: 5 / 552].

القول الثاني: إنّها نزلت في قصّة أبي الدحداح. [لاحظ: تفسير الثعلبيّ: 29 / 460، زاد المسير لابن الجوزيّ: 8 / 263، وغيرها]

القول الثالث: إنّ المراد بالآية أبو بكر، وهذا القول لأغلب مفسّري أبناء العامّة.

وعليه: فلا إجماع في أنّ المراد من الآية أبو بكر بن أبي قحافة.

مضافاً إلى أنّ روايات الشيعة الإماميّة قد خلت من نزولها في أبي بكر، وعليه: فلا يصحّ إلزامهم والاحتجاج عليهم بنزولها فيه. هذا أوّلاً.

وثانياً: جميع الروايات الواردة في كتب أهل السنّة التي تدّعي أنّ المراد بالآية أبو بكر، إنّما هي روايات ضعيفة.

الرواية الأولى: قال ابن إسحاق: وحدّثني محمّد بن عبد الله بن أبي عتيق، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن بعض أهله، قال: قال أبو قحافة لأبي بكر: يا بني، إنّي أراك ‌تعتق ‌رقابا ‌ضعافا؛ فلو أنّك إذا ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر: يا أبت، إنّي إنّما أريد ما أريد لله عزّ وجلّ.

قال: فيُتحدّث أنّه ما نزل هؤلاء الآيات إلّا فيه، وفيما قال له أبوه: {فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى} [الليل: 5، 6] .. إلى قوله تعالى: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، ولسوف يرضى} [سيرة ابن هشام: 1 / 178]

ورواها أحمد وابنه في الفضائل: 1 / 95، وابن ابي الدنيا في مكارم الأخلاق، ص125، وغيرهما هكذا، من دون تسمية بعض أهله، وخالفهم الحاكم في المستدرك: 4 / 688، فرواه من طريق ابن اسحاق وسمّى بعض أهله عبد الله بن الزبير، والمحفوظ من دون تسمية بعض أهله. فهذا الطريق ضعيف، وقد أخطأ مَن صحّحه أو حسّنه. ومن العجب أنّ من حسّن هذا الطريق كان ملتفتاً إلى أنّ الطريق المحفوظ في هذا الخبر هو عن بعض أهله! وليس عن عبد الله بن الزبير كما في طريق الحاكم!

أضف إلى ذلك أنّ في متن الحديث إدراجاً واضحاً من قبل بعض رواته، في خصوص عبارة الراوي: (قال: فيُتحدّث أنّه ما نزل هؤلاء الآيات إلّا فيه) !!

وأخرجه الطبريّ في تفسيره بسنده إلى مصعب بن ثابت، عن عامر بن عبد الله عن أبيه، قال: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصدّيق: (وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى). [تفسير الطبري: 24 / 479].

ومصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، ضعيف، وكثير الغلط، فلذا تكون رواية محمّد بن عبد الله بن أبي عتيق، الأولى، التي هي محفوظة عند نقّاد الحديث - والتي رواها من دون تسمية بعض أهله - هي أحسن حالاً من رواية مصعب، وعليه: فالصحيح هو جهالة الطريق.

الرواية الثانية: أخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {وسيجنبها الأتقى} قَالَ: هُوَ أَبُو بكر الصّديق. [الدر المنثور: 8 / 538]

وهذه الرواية ضعيفة للإرسال.

وأما رواية سعيد عن قتادة، ورواية عروة بن الزبير، وغيرها، فهي مراسيل لا تقوم بها حجّة.

وعليه، فالروايات التي تذكر نزول الآية في أبي بكر كلّها ضعيفة.

ب‌- ما استدل به على إنفاق عثمان بن عفان: وهي قوله تعالى: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 262] فقد قالوا بأنها نزلت في عثمان بن عفان لتجهيزه جيش العسرة، حتّى قال فيه رسول الله: ما ضرّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم، اللهمّ لا تنسَ هذا اليوم لعثمان.

وهذا الرواية لا تنسجم مع الواقع التاريخيّ لغزوة تبوك؛ وذلك لأنّ الآية من سورة البقرة التي نزلت في السنة الأولى من الهجرة، بينما غزوة تبوك وقعت في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة، فكيف تكون هذه الآية نازلة في حقّ عثمان لِـما أنفقه في غزوة تبوك؟!

ومن ثمّ لم يكن في تبوك عسرة ماليّة، ويبدو أنّ القوم رتّبوا ذلك على كلمة العسرة التي جاءت في قوله تعالى: (لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النبيّ وَالُمهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثمّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة 117]، فرتّبوا عليها إنفاق وفضائل لبعض الصحابة ما أنزل الله بها من سلطان.

أمّا فيما يتعلق بالرواية التي تقول بأنّ عثمان جهّز جيش العسرة، فإنّها رواية مردودة، ولا يمكن قبوها والأدلّة متضافرة على بطلانها، وقد تعرّض لها العلّامة الأمينيّ (رحمه الله) في كتاب [الغدير ج9 ص328-331]، وبيَّن طرفاً من تناقضاتها، وأكّد عدم صحّة أسانيدها، ونحن نكتفي هنا بنقل بعضه.

يقول العلّامة الأمينيّ: (نعم، ذكروا له (صلى الله عليه وآله) دعوات عديدة لعثمان عند تجهيزه جيش العسرة، ولعلّ المتهالك في حبّ عثمان ينحته موجباً لتلكم الدعوات، والباحث جدّ خبير بأنّه لا يعدو شيئاً منها وهن في الإسناد لضعف في رجاله أو إرسال فيه، على اضطراب الروايات في كيفيّة التجهيز وكميّة ما أنفقته يده فيه، اضطراباً لا يعدوه الحكم بالبطلان في جميعها: قال ابن هشام في السيرة: أنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها. حدّثني مَن أثق به أنّ عثمان بن عفان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار. إلى آخر ما يأتي من حديثه. وأخذ الطبري الجملة الأولى من قول ابن هشام وترك حديثه. وعند الكلبيّ مرسلاً كما في أسباب النزول للواحديّ جهّز بألف بعير بأقتابها وأحلاسها. وعند قتادة مرسلاً: حمل على ألف بعير وسبعين فرساً. وعند البلاذريّ بإسناد ضعيف مرسل: جهّزهم بسبعين ألفاً. وعند الطبرانيّ بإسنادٍ ضعيف: مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها ومائتا أوقية من الذهب. وعند أبي يعلى بسندٍ ضعيف: جاء بسبعمائة أوقية ذهب. وعند ابن عدي بسند واهٍ ضعيف جداً: جاء بعشرة آلاف دينار. وعند أبي نعيم بإسنادين باطلين: جاء بألف دينار. وعند أحمد وأبي نعيم بإسناد معلول: ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها. وعند ابن عساكر مرسلاً: جهّز ثلث ذلك الجيش مؤنتهم. وعند ابن الأثير ما ذكره الطبري وزاد عليه: قيل كانت ثلاثمائة بعير وألف دينار. وعند عماد الدين العامريّ دعوى مجرّدة: أنفق ألف دينار، وحمل على تسعمائة وخمسين بعيراً وخمسين فرساً. وعند الحلبيّ صاحب السيرة قولاً بلا دليل: جهّز عشرة آلاف دينار غير الإبل والخيل وهي تسعمائة بعير ومائة فرس والزاد وما يتعلق بذلك حتّى ما تربط به الأسقية. وعند بعضٍ كما في السيرة الحلبيّة: أعطى ثلاث مائة بعير بأحلاسها وأقتابها وخمسين فرساً. وفي روايةٍ عند الحلبيّ: جاء بعشرة آلاف دينار إلى رسول الله فصبّت بين يديه. فقال: لعلّ هذه العشرة آلاف غير الذي جهّز بها العشرة آلاف إنسان.

فترى كلّ واحد يكل ويزن ما أنفقه الرجل في جيش العسرة بكيلة مروءته وميزان كرامته، وما تستدعيه سعة صدره، ورحب ذات يده.

على أنّ هناك أناساً آخرين شاركوا مَنْ جهّز الجيش وأربوا، فلا أدري ما الموجب لاختصاص عثمان بتلكم الأدعية دونهم؟ فمن أولئك المجهّزين العبّاس بن عبد المطّلب، فإنّه حمل مالاً يُقال إنّه تسعون ألفاً، وقال (صلى الله عليه وآله): » العباس عمّ نبيكم أجود قريش كفّاً، وأحناه عليها ».

على أنّ طبع الحال يستدعي أن يكون هناك منفقون آخرون؛ لأنّ عدد الجيش كان ثلاثين ألفاً وعشرة آلاف فرس واثنا عشر ألف بعير عند كثير من المؤرّخين، وعند أبي زرعة: كانوا سبعين ألفاً، وفي رواية: أربعين ألفاً، وما ذكروه من النفقات لعثمان وغيره لا تفي بتجهيز هذا الجيش اللجب، فلماذا حرم أولئك كلّهم من الدعاء وحظي به عثمان فحسب؟ أنا أنبئك لماذا، وجد عثمان بعد ما خُذِل وقُتِل أنصاراً ينحتون له الفضائل، وتصرّمت أيام أولئك من غير نصير مفتعل....).

ثمّ يستطرد العلّامة الأمينيّ مطوّلاً في تفنيد هذا الخبر، ولمن أراد الوقوف على ذلك يمكنه الرجوع إلى كتاب الغدير، كما يمكن الرجوع إلى كتاب الصحيح من سيرة النبي الأعظم للمحقّق جعفر مرتضى العامليّ، ففيه الكثير والكثير من الأدلّة التي تفنّد هذا الخبر.

والذي يغني عن كلّ هذا البحث هو قوله تعالى: (أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ) [المجادلة: 13]، فقد كان الله أوجب على الصحابة تقديم صدقة إذا أرادوا مناجاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) [المجادلة: 12]، فأحجم جميع الصحابة بما فيهم الخلفاء ولم يقدم على مناجاة الرسول (ص) إلّا عليّ بن أبي طالب (ع) بعد تصدّقه.