كيف نردُّ على بعض ادّعاءات القصديّة؟

السؤال: كيف نردّ على بعض القصديّة جماعة سبيط النيليّ في نقدهم لعلم الأصول، ومن ذلك قول بعضهم: "الشيعة الذين يعتمدون في أحكامهم الفقهيّة على ما يسمّى [بأصول الفقه] انحرفوا جميعاً عن خطِّ أهل البيت عليهم السلام، منذ الشيخ ابن العكبريّ الملقّب بالمفيد مروراً بالطوسيّ والحلّيّ وغيره وحتّى يومنا هذا، دأبهم هو تقليد أصوليّ العامّة في جميع [ابتكاراتهم] و[ابداعاتهم] وتجديداتهم الفقهيّة والأصوليّة، ثمّ تزيينها بلغة كلامٍ اعتباطيّ يخفي تحايلها على معاني ومضامين نصوص القرآن وكلام أهل البيت عليهم السلام، بداية من تقسيم الأحاديث الى أقسامها المعروفة [ صحيح وحسن وضعيف] وإدخال بدعة ما يسمّى بعلم الرجال، مروراً بمباحث الحجّيّة المؤسّسة على نظريّات أرسطو المنطقيّة حول الذهن وآليّات التفكير، الذهن الذي يتوهّمون بجهلهم للقرآن والروايات أنّه العقل، وأسّسوا فيها الحجّيّة على مقولات ذهنيّة مجرّدة لا علاقة لها بحجّيّة الحقّ وفق المفهوم القرآنيّ والروائيّ"

: الشيخ معتصم السيد احمد

الإجابة:

في بادئ الأمر لا بُدَّ أنْ يُعلم أنّ هذا الكلام هو مجرّد خطاب شعبويّ لا يرتقي الى مستوى مناهضة ما يسمّى بعلم الأصول، فالهجوم الشرس والتعدّي على مقام الآخرين لا يصلح في ميادين العلم والعلماء، وكان الأجدى به أنْ يُقدّم مقاربته الخاصّة لكلّ مسألة من مسائل علم الأصول وعرضها بشكل علميّ ومحايد، ومن ثمّ نقدها بكلّ وسائل النقد الممكنة، من دون تجنّي أو مزايدة، فما ذكره من أسماء هم أرباب التشيّع وقادته الذين أسهموا بشكل كبير في ترسيخ خطّ أهل البيت والحفاظ عليه، فالذي يتناول جهودهم بهذا التسفيه كيف يحسب نفسه على شيعة أهل البيت الذين أنصفوا حتّى خصومهم، فمن يا ترى يمثّل هذا؟

وبالتأكيد ليس كلّ ما قاله هؤلاء العلماء هو الحقّ الذي لا يدانيه شكّ، ولم يدّعِ أحد في حقّهم مقام العصمة، فلا خوف على الأمّة من أمثالهم حتّى يتمّ التحذير منهم، وإنّما الخوف عليها من الجاهل الذي يحتكر الحقّ ويجعل من فهمه القاصر مقياساً للحقّ والباطل، فيخرج من يشاء ويدخل من يشاء إلى التشيّع، وهذا لعمري مقام لا يناله إلّا إمام معصوم.

ثمّ من يقول: إنّ علم الأصول هو تقليد للسنّة؟ وفي أيّ مسألة يا ترى من مسائل الأصول السنّيّة اتّفق معهم الشيعة؟ وفي أيّ مبحث من المباحث استشهدوا بقولهم وكلماتهم؟

وإذا سلّمنا ما ورد في سؤاله، فهل العلم والمعرفة والبحث عن الحقّ والصواب حكراً لجماعة معيّنة؟ أو أنّ الحكمة هي ضالّة المؤمن أينما وجدها أخذها؟ فليس المهمّ من أين أتيت بهذه الفكرة، وإنّما المهمّ ما الدليل على هذه الفكرة؟

ثمّ يقول: (ثمّ تزيينها بلغة كلام اعتباطيّ يخفي تحايلها على معاني ومضامين نصوص القرآن وكلام أهل البيت عليهم السلام)؟

ويلاحظ عليه هنا أنّه ممّنْ يُطلق الكلام على عواهنه، إذِ استعمل في هذا الموضع كلمة الاعتباط، ليتّهم علماء الإماميّة بقلّة التبصّر وقلّة الرويّة والعشوائيّة فيما يطرحونه؛ مع أنّ الأمر بعكس ما قاله، إذْ إنّ جهود علماء الإماميّة - في مباحث اللّغة ومباحث العلاقة بين اللّفظ والمعنى والدالّ والمدلول وكون العلاقة بينهما اصطلاحيّة أم قصديّة - يشهد بها القاصي والداني ممّن يقدّر العلم والعلماء مع شيءٍ من الإنصافٍ، فلو كان صاحب السؤال يمتلك ذرّة من الإنصاف لَـمَا نطق بهذا الكلام، ولو كان من أهل العلم لعرف أنّ هذه المسائل يجب أن تطرح على طاولة البحث العلميّ، وليس في ساحة الصراعات والمهاترات، إذْ حينها سيعرف أنّ ما قام به علماء الأصول من نقاش لكلّ هذه الموضوعات كان يجري بعلميّة متناهية وبحياديّة متسامية، فبعضهم رجّح التواضع، والآخر رجّح نظرية الخلق، وكلّ ذلك لا يؤثّر في مستوى التفاهم العرفيّ الذي قام عليه التخاطب بين الناس.

وأمّا قوله (.. بداية من تقسيم الأحاديث الى أقسامها المعروفة وإدخال بدعة ما يسمّى بعلم الرجال)

فقد كشف عن مدى جهله بهذا العلم، إذْ يؤخذ عليه وعلى غيره ممّنْ يناهضون الاجتهاد ويعارضون أصول الفقه من أصحاب بعض الاتّجاهات المنحرفة، ممّن يكتبون في وسائل التواصل الاجتماعيّ، أنّهم من الذين ليس لهم إلمام ومعرفة بعلم الأصول، فكلّ ما يقدّموه هو مجرّد اعتراضات خاوية، ويكفي هنا أنْ نسأله في أيّ كتاب أصوليّ يمكن أن نجد مبحث علم الرجال؟ إذْ إنّ علم الرجال هو علم قائم بذاته ولا علاقة له بعلم الأصول، وكلّ ما يتمّ بحثه في علم الأصول هو مبحث حجّيّة خبر الواحد، وهذا المبحث لا ربط له بتضعيف الرواة، أو توثيقهم.

وأمّا قوله (مرورا بمباحث الحجّيّة المؤسّسة على نظريّات أرسطو المنطقيّة حول الذهن وآليّات التفكير)، فكان الأجدر به عوضاً عن هذا الكلام المرسل أنْ يُعيّن لنا مسألة بعينها من مسائل الأصول في باب الحجّة، ثمّ يثبت ارتباطها بالمنطق الأرسطيّ، وبعد ذلك يكشف لنا عن الخطأ في هذه القاعدة، هذا هو التسلسل الطبيعيّ لنقد الأفكار، أمّا مجرّد القول: إنّها مؤسّسة على المنطق الأرسطيّ فلا يعدُّ كافياً لنقدها وتضعيفها.

ثمّ ما المشكلة لو استندت على قاعدة منطقيّة؟ فهل ارتكاز الفكرة على المنطق الأرسطيّ يدلّ على أنّها غير صحيحة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فمن قال بذلك وما مقامه في العلم؟!

وأمّا قوله (الذهن الذي يتوهّمون بجهلهم للقرآن والروايات أنّه العقل)، أين هو التوهّم، وفي أيّ مورد يمكن أن نجده، أم هو مجرّد كلام والسلام؟

إذا سلّمنا أنّ الأصوليّين متوهّمين في شأن العقل، فما العقل عندهم؟ وهل من الأساس يعترف هؤلاء بوجود العقل، وأنّ العقل هو مدار التكليف؟ أو ينظرون له كما ينظر الحشويّة والسلفيّة وأصحاب المدارس الظاهريّة؟

ثمّ إذا كان كلّ فهمهم للقرآن والروايات عن جهل، فمن هم يا ترى الذين يفهمون القرآن والروايات بعلم؟ أيشير إلى نفسه بطرف خفيّ؟!

وكذلك قوله: (وأسّسوا فيها الحجّيّة على مقولات ذهنيّة مجرّدة لا علاقة لها بحجّيّة الحقّ وفق المفهوم القرآنيّ والروائيّ).

فهو كلام إنشائيّ لا يستند على شاهد أو مثال، إذْ كيف أسّسوا الحجّة على مقولات ذهنيّة؟ وما المسائل المبحوثة في باب الحجّة، حتّى نعرف إن كانت ذهنيّة أم لا؟ ثمّ ما المقصود من الذهنيّ؟ فهل القول بحجّيّة خبر الواحد مثلاً قضيّة ذهنيّة؟

ومن ثمّ ما الذي يقصده بقوله: "حجّيّة الحقّ وفق المفهوم القرآنيّ والروائيّ"؟، وكيف يمكن الوصول إلى هذا المفهوم القرآنيّ والروائيّ، أبالعقل أم بشيء آخر؟ والظاهر أنّه يشير إلى نفسه، فهو وحده من يفهم القرآن والسنّة، وكل من يخالفه في هذا الفهم يعـدُّ ضالّاً مضلّ ومفارقاً لخطّ أهل البيت؟!