ما هو بيت الأحزان؟، وأين يقع؟
، وما هي قصّته؟!. السؤال: ما يذكره بعض الخطباء على المنابر مِن أنّ للزهراء (ع) بيتاً يُسمّى بيتَ الأحزان هل هو أمرٌ صحيح؟، وإذا كان كذلك فأين يقع هذا البيت؟، وما هي حكايته؟!.
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم..
لظُلامة الزهراء(ع) خصوصيَّتُها التي تتميّزُ بها من سائرِ ظُلاماتِهِم(ع)، حيث جاءتها من جهة الذين أخرجهم الله تعالى بأبيها (ص) من ظلمات الشرك ونِيرِ العبودية ودنس الجاهليّة إلى نور التوحيد والحريّة وشرف الإسلام ، فما كان منهم إلّا أن استحبّوا العمى على الهدى، وردّوا الإحسان بالإساءة وجاروا على بضعته الطاهرة(ع) حتّى وصل بهم الحال إلى منعها من البُكاء عليه(ص) لِيَظهرَ في حياتها ما يُعرفُ "ببيت الأحزان"، والكلام عنه منعقدٌ في ثلاثة مباحث:
المبحث الأوّل: في قصة هذا البيت، حيث تعود بنا الأحداث إلى الوراء قليلاً وتحديداً إلى مرض وفاته (ص) فقد روى شيخنا الطوسيُّ بإسناده إلى ابن عبّاس قال:«لمّا حضرت رسولِ الله(ص) الوفاة بكى حتّى بَلَّت دموعُه لحيتَه، فقيل له: يا رسول الله، ما يبكيك..؟ فقال: أبكي لذريتي وما تصنع بهم شرار أمتي من بعدي، كأنّي بفاطمة ابنتي وقد ظُلمت بعدي وهي تنادي: " يا أبتاه ، يا أبتاه " فلا يعينها أحدٌ من أمتي.!. فسمعت ذلك فاطمة (ع) فبكت، فقال لها رسول الله(ص ): لا تَبكِي يا بنيّة، فقالت: لست أبكي لما يُصنع بي من بعدك، ولكن أبكي لفراقِكَ يا رسول الله. فقال لها: أبشري يا بنتَ محمد بسرعة اللّحاق بي، فإنّك أوّل من يلحق بي من أهل بيتي»[أمالي الطوسي ص188]، فكان الأمر كما قال - بأبي هو وأمّي- حيث جرى الاعتداء الآثم عليها حتّى كسروا ضلعها، وأسقطوا جنينها، وقرعوها بالسوط حتّى تورّم جسدها، فما كان منها إلّا أن بثَّت شكواها إلى أبيها(ص).
وقد روى الفريقان خروجها إلى القبر الشريف ووضعها شيئاً من ترابه الطاهر على عينيها وهي تبكي وتقول:
ما ذا على مَن شَمَّ تُربَةَ أَحمد * أَنْ لا يَشُمَّ مَدى الزّمَانِ غَوالِيَا
صُبَّتْ عَلَيَّ مصائبٌ لو أَنّها * صُبَّتْ عَلَى الأيّام عُدنَ لَيَالِيَا
قُلْ للمغيَّبِ تحتَ أطباقِ الثّرى * إنْ كنـتَ تسمعُ صرختي ونِدائيا
قد كنتُ ذات حمى بظلِّ محمّد * لا أخشى من ضَيمٍ وكانَ جماليا
فاليومَ أخضعُ للذّليل واتّقي * ضَيمي وأدفعُ ظالمي بِرِدَائِيا
فإذا بكتْ قَمَرِيَةٌ في ليلها * شَجَناً على غُصنٍ بَكيتُ صَباحِيا
فَلَأَجْعَلَنَّ الحزنَ بعدَك مُؤنِسي * ولأَجْعَلَنَّ الدمع فيك وشاحيا
[يُنظر عن البيتين الأوّليين: الشرح الكبير لابن قدامة الحنبليّ ج2 ص403، مغني المحتاج للشربينيّ الشافعيّ ج1 ص356 ،حواشي الشيروانيّ الشافعيّ ج3 ص180، تاريخ مكّة والمدينة للمكّيّ الحنفيّ ص321، وعن بقية الأبيات: المناقب لابن شهرآشوب ج1 ص208].
وقد روى الصدوق عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: «البكاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد (ص)، وعلي بن الحسين (ع)، فأمّا آدم فبكى على الجنّة حتّى صار في خَدّيه أمثال الأودية، وأمّا يعقوب فبكى على يوسف حتّى ذهب بصره، وحتّى قيل له: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ}[يوسف: 85]، وأما يُوسفُ فبكى على يعقوبَ حتّى تأذّى به أهل السجن فقالوا: إمّا أن تبكي الليل وتسكت بالنهار، وإمّا أن تبكي النهار وتسكت بالليل ، فصالحهم على واحدٍ منهما . وأما فاطمة ( ع ) فبكت على رسول الله ( ص ) حتى تأذى بها أهل المدينة ، فقالوا لها : قد آذيتنا بكثرة بكائك ، وكانت تخرج إلى المقابر مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف ، وأما علي بن الحسين (ع) فبكى على الحسين (ع) عشرين سنة أو أربعين سنة [التردّد من الراوي]، ما وُضع بين يديه طعام إلّا بكى حتّى قال له مولى له: جعلت فداك، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال:{ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[يوسف:59]، إنّي لم أذكرْ مصرع بني فاطمةَ إلّا خنقتني لذلك عَبرَةٌ.» [الخصال ص272، وسائل الشيعة ج3ص281]
وفي هذا الخبر جملةٌ من الأمور المهمّة ذات العلاقة ببيت الأحزان منها ما يلي:
أوّلاً: أنّ في قوله (ع): «وكانت تخرج إلى المقابر مقابر الشهداء» دفعٌ لما قد يتوهّمه البعض من أنّ خروجها إلى المقابر يعني الخروج إلى قبر النبيّ(ص) فأكّد (ع) بأنّها مقابر الشهداء التي تقع في البقيع، وإلّا فإنّ من المعلوم لدى جميع المسلمين أنّ قبره (ص) في بيته الذي هو ملاصق لبيت فاطمة (ع) وكلا البيتين مطلّان على المسجد النبوي ممّا يعني أنّ وصولها (ع) إلى قبره الشريف لا يستدعي خروجها كما لا يخفى!.
ثانياً: أنّ قوله(ع): «حتّى تأذّى بها أهل المدينة» صريح في سبب بناء " بيت الأحزان "، ويا له من سبب عجيب..!، فقد ذكر العلّامة المجلسيُّ روايةً عن السيّدة الجليلة فضّة خادمة الزهراء (ع) تحكي فيها حالة مولاتها بعد أبيها (ص) وبشكلٍ تفصيليٍّ إلى أن تقول: «.... واجتمع شيوخُ أهل المدينة [أي كبار الصحابة] وأقبلوا إلى أمير المؤمنين فقالوا لهُ: يا أبا الحَسن إنَّ فاطمةَ تبكي الّليل والنهار فلا أحدٌ مِنّا يتهنّأُ بالنوم في الّليل على فُرُشنا، ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معايشنا، وإنّا نُخبرك أن تسألها إمّا أن تبكي ليلاً أو نهاراً !، فأقبل أمير المؤمنين "ع" حتّى دخل على فاطمة وهي لا تفيق من البكاء ولا ينفع فيها العزاء، فلمّا رأته سكنتْ هُنيئة له، فقال لها سيّد الأوصياء: يا بنت رسول الله.. إنَّ شُيوخ المدينة يسألوني أن أسألكِ إمَّا أن تبكينَ أباكِ ليلاً وإمَّا نهاراً. فقالت الصدّيقة الكُبرى: يا أبا الحَسن ما أقلَّ مَكثي بينهم ، وما أقربَ مَغيبي من بين أظهُرهم! فو اللهِ لا أسكت ليلاً ولا نهاراً أو ألحقَ بأبي رسول الله. فقال لها عليٌّ "عليه السلام": افعلي يا بنت رسول الله ما بدا لكِ. ثمَّ إنّه بنى لها بيتاً في البقيع نازحاً عن المدينة يُسمَّى "بيتَ الأحزان" ، وكانت إذا أصبحت "صلوات الله وسلامه عليها" قدَّمت الحسن والحُسين أَمامها، وخرجت إلى البقيع باكية، فلا تزال بين القُبور باكيةً، فإذا جاء الّليل أقبل أمير المؤمنين إليها وساقها بين يديه إلى منزلها..»[بحار الأنوار ج43 ص177].
ثالثاً: في ذِكر نبي الله يعقوب(ع) في الحديث مفارقةٌ خفيّة غير تلك المنصوص عليها فيه، فبالرغم من كونه يلتقي مع مولاتنا فاطمة(ع) في عِدادهما من البكّائيين الخمسة، إلّا أنّ بينهما مناسبة أخرى وهي أنّ نبي الله يعقوب(ع) كان هو الآخر لديه بيت يُدعى ببيت الأحزان هدمه صلاح الدّين الأيّوبيّ!، قال المقريزيُّ: ( ... فبنى الفرنج في مدّة اشتغال السلطان حصناً على مخاضة بيت الأحزان، وهو بيت يعقوب (ع)، وبينه وبين دمشق نحو يوم ، ومنه إلى طبرية وصفد نصف يوم.... - إلى أن قال - : ثمّ اهتمّ السلطان بأمر بيت الأحزان وكتب إلى الفرنج يأمرهم بهدمه فأبوا.... فكتب حينئذٍ إلى التركمان والأجناد يستدعيهم... ونزل على حصن بيت الأحزان ... وأخرب الحصن حتّى سوّى به الأرض!.)[ ينظر: السلوك لمعرفة دول الملوك ج1 ص66 – 69/حوادث سنة 574 و475 هجريّة، وأيضاً جاء ذكر هذا البيت في المناقب لابن شهرآشوب ج1 ص41].
وبالعود إلى بيت الأحزان الفاطميّ فقد ذكر غير واحد من علماء العامّة أنّه معروف ومشهور لدى المسلمين، فمن هؤلاء:
1- أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكنانيّ الأندلسيّ البلنسيّ السائح الرحال المتوفى سنة ( 614 ه ) فقد قال في كتابه "رحلة ابن جبير " فيما يتعلق بذكر المشاهد المكرمة التي في بقيع الغرقد: ( ويلي هذه القبة العباسيَّة بيت ينسب لفاطمة بنت الرسول (ص)، ويعرف ببيت الحزن ، يقال إنه الذي أَوَتْ إليه والتزمت فيه الحزن على موت أبيها المصطفى ص )[رحلة ابن جبير ص155].
2- نور الدين علي بن القاضيّ عفيف الدين عبد الله بن أحمد بن علي بن عيسى الحسنيّ المعروف بالسمهوديِّ الشافعيّ مفتي المدينة المنورة ومؤرّخها ونزيلها المتوفى سنة 911 ه في كتابه ( وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى ) عند بيانه للمشاهد المشرّفة المعروفة في المدينة المنوّرة فقال: ( ومنها : مشهد سيدنا إبراهيم بن سيدنا رسول الله (ص) ، وقبره على نعت قبر الحسن والعباس، وهو ملصق إلى جدار المشهد القبليّ ، وفي هذا الجدار شباك ، قال المَجْدُ [أي مجد الدين الفيروز آباديّ صاحب القاموس المحيط] " وموضع تربته يُعرف ببيت الحزن ، يقال: إنّه البيت الذي أَوَتْ إليه فاطمة رضي الله عنها [ع] ، والتزمت الحزن فيه بعد وفاة أبيها سيد المرسلين (ص) - ثمّ علّق السمهوديُّ قائلاً -: والمشهور ببيت الحزن إنّما هو الموضع المعروف بمسجد فاطمة في قبلة مشهد الحسن والعباس...)[وفاء الوفاء ج3 ص101].
3- الرحّالة اللواء إبراهيم رفعت باشا في كتابه مرآة الحرمين حيث قال: ( وهناك قبّة تسمّى قبّة الحزن، يقال: إنّها في البيت الذي كانت آوت إليه فاطمة بنت النبيّ والتزمت الحزن فيه بعد وفاة ابيها رسول الله "صلّى الله عليه[وآله] وسلّم".[مرآة الحرمين ج1 ص226]، والملاحظ أنّ الطبعة الأولى لهذا الكتاب كانت سنة 1344 هجريّة، وهي السنة نفسها التي هُدّمت فيها جميع قبور البقيع وبيت الأحزان؛ ولذا كان مليئاً بالصور الشمسيّة لتلك المشاهد ومنها قبور أئمّة البقيع (ع)، فليراجع.
المبحث الثاني: ما سألتم عنه بخصوص موقع بيت الأحزان فلك أن تعرف أنّ مشهد أئمّة البقيع (ع) الذي هدمته الحركة الوهابيّة يقع في أعلى نقطة من مقبرة البقيع على يمين الداخل إليها، ولا يزال قسم من جداره الشرقي موجوداً إلى يومنا هذا تراه عندما تقف أمام القبور. وموضع بيت الأحزان يقع تحديداً خلف هذا الجدار من المشهد الشريف من جهة الشرق.[يراجع: جواهر التاريخ للشيخ الكورانيّ ج1 ص134]
المبحث الثالث: حول مصير هذا البيت.
الذي يظهر من المصادر التاريخيّة أنّه هُدم مرتين على أيدي الوهابيَّة أسوة بهدم سائر القبور والمشاهد المشرّفة في البقيع، فالمعروف أنّ الحركة الوهابيّة حين هاجمت المدينة المنوّرة عام 1220 هجريّة قامت بهدم جميع الأبنية والقبب التي على القبور والمشاهد المشرّفة هناك، كما ذكر ذلك المؤرّخ الوهّابيّ عثمان بن عبد الله بن بشر النجديُّ الحنبليُّ مؤرّخ الحركة الوهابيَّة الأوّل.[ينظر: كتابه المَجدُ في تاريخ نَجد ج1ص288 – أحداث سنة1220هـ]. كان هذا هو الهجوم الأوّل لهم، ولكنّ سرعان ما سقطت دولتهم على يد العثمانيين الذين فرضوا سيطرتهم هناك وأعادوا بناء تلك المعالم عام 1222 هجريّة.
وفي عام 1343 هجريّة استعاد الوهّابيون عافيتهم بدعمٍ بريطانيٍّ مباشرٍ فعاثوا في بلاد الحرمين الفساد وهدموا المعالم والآثار الإسلاميَّة في مكّة وجدّة، ثمّ كان الهجوم الثاني لهم على المدينة المنورة عام 1344 هجريّة، فتكرّر هدمهم للقبور والمشاهد المشرّفة فيها بشكلٍ أوسع، وكان من بينها قبور أئمّة البقيع (ع) وشملت جريمتهم بيت الأحزان فهدموه أسوة بها لقربه منها كما عرفت.[للمزيد عن تفاصل الجريمة ينظر: بحوث في الملل والنحل للسبحانيّ ج4ص622، ولمحات اجتماعية د. علي الورديّ الجزء السادس وملحقه]، والأسباب واضحة فإنّ بيت الأحزان وثيقة أركيلوجيّة ومعلم أثري يعتلي شامخاً كشاهدٍ على الجريمة الصارخة التي ارتكبت بحقّ الزهراء (ع) وفيه إدانة واضحة لِمَن اعتدى عليها، فكان لابدّ من هدمه أسوة بغيره من الأدلّة عسى أن تنمحي معه آثار تلك الجريمة!. هذا ما وفّقنا الله تعالى لبيانه، والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق