أسباب دفن أبي الفضل العبّاس (ع) في مرقد مستقلّ

. السؤال: ما هو السبب وراء عدم دفن أبي الفضل العباس "ع" مع الأنصار؟

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

بالعود إلى كلمات الباحثين في متعلّق السؤال نجد هنالك الكثير من الأطروحات التي ذكرت في مقام التعليل، والملاحظ أنّ معظم ما ذكروه يمكن عدّه عوامل يعضّد بعضها بعضاً فاجتمعت كأجزاء العلّة لتقف وراء دفن مولانا أبي الفضل العبّاس (ع) وحيداً منفرداً ومتميّزاً عن سائر شهداء واقعة الطفّ (ع)، وخلاصة ما يمكن إيراده في مقام الجواب عن سؤالكم هو بيان مسألتين:

المسألة الأولى: من الواضح أنّ عملية دفن مولانا أبي الفضل العباس (ع) في قبرٍ منفرد لم تكن وليدة الصدفة، ولا كانت مفروضة قهراً على أهل البيت (ع)، بحيث لو أرادوا غيرها لما أمكن لهم ذلك، بل كانت عمليّةً مقصودةً ومرادةً لهم (ع)، حيث أسهم في تحقيقها إمامان معصومان: أحدهما: الإمام الحسين (ع) من خلال تركه الجثمان الطاهر لأخيه أبي الفضل (ع) في موضع شهادته وعدم نقله إلى المخيّم لأسبابٍ سيأتي بيانها لاحقاً -إن شاء الله تعالى-

والآخر: أنَّ الإمام زين العابدين (ع) حينما عاد لدفن الأجساد؛ فقد كان بإمكانه نقل الجسد الطاهر إلى مقبرة الشهداء - ولو من خلال الاستعانة بمَن حضر معه من بني أسد -، لكنّه مع ذلك لم يفعل كما سيتّضح بل شقّ له قبراً مفرداً وقام بدفنه فيه.

المسألة الثانية: وهي ترتبط ببيان تلك العوامل والتي خلاصتها ثلاثة:

العامل الأوّل: وهو يختصّ بعدم قيام سيّد الشهداء الحسين (ع) بحمل جثمان أبي الفضل العباس (ع) إلى المخيّم، وتركه بدلاً عن ذلك في موضع شهادته، فمن المعروف أنّ للعبّاس منزلةً خاصّةً عند أخيه أبي عبد الله الحسين (ع)، فكان من الطبيعي أنّ تؤثّر فيه شهادته أثراً بالغاً، خصوصاً وأنّها كانت مأساويّةً بكلّ المقاييس حيث قٌطعت يداه الشريفتان، وأتته السهام كرشق المطر فأصابت عدّة مواضع من جسده الشريف لمَّا جعل من نفسه دريئةً دون قِربة الماء، ثمّ ضربة العمود التي أصابت رأسه الشريف؛ لذا عبّر الحسين (ع) عن الأثر الذي تركته تلك الشهادة فيه بقوله: « الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي »[بحار الأنوار ج45ص42].

قال السيّد المقرّم عن وقوف الإمام الحسين (ع) عند مصرعه: (لم يبقَ الحسين بعد أبي الفضل إلّا هيكلاً شاخصاً معرّى من لوازم الحياة ... إلى أن قال: ورجع الحسين على المخيّم حزيناً باكياً يكفكف دموعه بكُمِّه)!! [مقتل الحسين للمقرّم ص269].

فإذا كان هذا حال الحسين (ع) فكيف تراه يكون حال العيال ولا سيّما العقيلة زينب (ع) فيما لو رأت كافلها وحاميها وهو على تلك الحال؟!

إنّ من أبرز العوامل الداعية إلى عدم حمل الجسد الطاهر إلى المخيّم هو رعاية مشاعر عقائل النبوّة وحرائر الرسالة ولو إلى أجلٍ قريبٍ؛ لأنّ الآمال كانت معقودة على بقاء أبي الفضل حامياً لهنّ وسدّاً منيعاً دون وصول الأعداء إلى الحسين (ع) [ينظر: الخصائص العباسيّة ص94].

وقد ذكر آية الله الشيخ باقر شريف القرشيّ (قدّس سرّه) أنّ السيّدة زينب (ع) قد عانت " آلام الاحتضار " بمجرّد سماعها بشهادة العبّاس (ع) [ينظر العباس بن علي (ع) رائد الكرامة والفداء ص212]، فكيف بها لو رأته وهو على ذلك الحال والمنظر الفظيع؟!.

العامل الثاني: من خلال ما تقدّم في العامل الأوّل يتّضح العامل الثاني، وهو أنّ جسد أبي الفضل العباس (ع) كان في حالة لا تسمح بحمله من مكانٍ إلى آخر، كما أنّ في حمله مشقّةً كبيرةً سواء على الإمام الحسين (ع) بعد ملاحظة أنّ المسافة بين المخيّم وموضع مصرعه كانت طويلة، وأنّ الحسين (ع) كان حينذاك وحيداً فريداً منهدم الركن. أم على الإمام زين العابدين (ع) فإنّ طول المسافة مانعةٌ من نقله؛ ولاسيّما بملاحظة أنّ الإمام كان عليلاً وقد تولّى دفن عمّه لوحده ومنع مشاركة بني أسد معه في ذلك.

قال السيّد المقرّم: (... ثمّ مشى إلى عمّه العبّاس "ع" فرآه بتلك الحالة الّتي أدهشت الملائكة بين أطباق السّماء وأبكت الحور في غرف الجنان ووقع عليه يلثم نحره المقدّس قائلاً: "على الدّنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، وعليك منّي السّلام من شهيد محتسب ورحمة الله وبركاته". وشقّ له ضريحاً وأنزله وحده كما فعل بأبيه الشّهيد، وقال لبني أسد: إنّ معي مَن يُعينني! نعم ترك مساغاً لبني أسد بمشاركته في مواراة الشّهداء وعيّن لهم موضعين، وأمرهم أن يحفروا حفرتين ووضع في الأولى بني هاشم وفي الثّانية الأصحاب...) [مقتل الحسين "ع" ص320]

العامل الثالث: إبراز الحرمة العظيمة والمنزلة الرفيعة لمولانا أبي الفضل العباس (ع) وتمييزه عن سائر الشهداء الآخرين فإنّه بابٌ لأخيه الحسين (ع)؛ لذا كان وما زال الكثير من العلماء والفضلاء والصالحين يبدؤون في كربلاء بزيارته أوّلاً ثمّ التوجه لزيارة سيّد الشهداء ثانياً، ولأنّه باب للحوائج جعله الله تعالى ملاذاً لعباده عندما تدهمهم طوارق الحدثان.

ولعلّ السرّ في ذلك راجع على ما قام به الجيش الأموي من الإساءة لمقامه الشريف؛ إذ كان الواضح من طريقة قتله القصد إلى الاستخفاف والتمثيل به (ع) بعدما قُطِعت يداه المقدّستان، ولاسيّما في مسالة ضرب رأسه الشريف بالعمود؛ ولذا جاء في زيارته المقدّسة: «لعن الله من قتلك، ولعن الله من جهل حقّك، واستخف بحرمتك»، فكأنّه أُريد بدفنه (ع) على انفراد أن يكون له ضريحٌ شامخٌ يقصده الوافدون، وقبرٌ متميّزٌ يلوذ به أصحاب الحوائج الدنيويّة والأخرويَّة، ومزارٌ مستقلٌ يُذكر الله تعالى في رحابه الأقدس، فإنّه لو دفن مع الشهداء لانكسرت حرمته الشريفة ولما بان فضله ولا تميّز بعظيم شأنه.[ينظر: اللؤلؤة الغالية للقائينيّ ص121، الخصائص العباسيّة ص94].

هذا ما وفّقنا الله تعالى لتحريره في المقام، والحمد لله ربّ العالمين.