معنى قوله: «أنا الأوّل وأنا الآخر»
السؤال: ما معنى قول الإمام علي (عليه السلام): «وأنا الأوّل وأنا الآخر»؟ وهل ورد عندنا تفسير ذلك؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم – أيّدك الله – أنّه ورد في بعض الأخبار: أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «أنا الأوّل وأنا الآخر»، ولـمّا سُئل (عليه السلام) عن مراده من هذه الألفاظ أوضحَ أنّه يقصد معانٍ مخصوصة، ولا يقصد ظاهر الذي يتبادر إلى الذهن – كما سيأتي -.
فهي على غرار ما رواه المخالفون: « أنّ رجلاً أُتي به إلى عمر بن الخطّاب، وكان صدر منه أنّه قال لجماعة من الناس وقد سألوه: كيف أصبحت؟ قال : أصبحت أُحبّ الفتنة، وأكره الحقّ، وأصدّق اليهود والنصارى، وأؤمن بما لَـم أرَه، وأُقرّ بما لم يُخلق، فرُفِع إلى عمر، فأرسل إلى عليّ (كرّم الله وجهه)، فلمّا جاءه أخبره بمقالة الرجل، قال: صدق، يحبّ الفتنة، قال الله تعالى: {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}، ويكره الحقّ [يعني] الموت، قال الله تعالى: {وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ}، ويصدّق اليهود والنصارى، قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَىْء وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَى}، ويؤمن بما لَـم يرَه، يؤمن بالله عزّ وجلّ، ويُقرّ بما لم يُخلق، يعني الساعة، فقال عمر: أعوذ من معضلة لا عليّ لها» [الفصول المهمّة ج1 ص198، نظم درر السمطين ص129، وغيرها].
فما يُنسب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «أنا الأوّل وأنا الآخر» إنّما هو على غرار هذا الاستعمال من إرادة خلاف ظواهرها، فليست هذه الألفاظ على حدّ الألفاظ المختصّة بالله تبارك وتعالى كقوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]، وليس المراد منها ما قد يُتوهّم من نسبة الصفات الإلهيّة إليه (عليه السلام).
فإنّ معنى {الأَوَّلُ} في الآية الكريمة: الذي لا بداية له، ومعنى {وَالآخِرُ}: الذي لا نهاية له، روى الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه سُئل عن قوله عز وجل: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ}، فقال (عليه السلام): «الأوّل لا عن أوّلٍ كان قبله، ولا عن بدءٍ سبقه، والآخر لا عن نهايةٍ كما يُعقَل من صفة المخلوقين، ولكن قديم أوّل آخر لم يزل ولا يزال بلا بدء ولا نهاية، لا يقع عليه الحدوث، ولا يحول من حال إلى حال، خالق كلّ شيء» [التوحيد ص314].
ولا شكّ أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) مخلوق حادث مربوب لله تبارك وتعالى، ولا يتّصف بهذه الصفات «الأوّل لا عن أوّلٍ كان قبله، ولا عن بدءٍ سبقه، والآخر لا عن نهايةٍ... قديم أوّل آخر لم يزل ولا يزال بلا بدء ولا نهاية، لا يقع عليه الحدوث، ولا يحول من حال إلى حال، خالق كلّ شيء».
وإنّما معنى قوله (عليه السلام): «أنا الأوّل وأنا الآخر» هو أنّه أوّل مَن آمن بالله وبالنبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وأوّل مَن أسلم، وهو آخر الناس عهداً برسول الله (صلّى الله عليه وآله) لـمّا رحل عن الدنيا، فهو آخر مَن نظر إليه لـمّا وضعه في لحده ودفنه.
وقد عثرنا على روايتين عن أمير المؤمنين (عليه السلام) تبيّنان هذا المعنى:
الأولى: روى ابن شهر آشوب: «سُئل أمير المؤمنين (عليه السلام): كيف أصبحت؟ فقال: أصبحتُ وأنا الصدّيق الأوّل والفاروق الأعظم، وأنا وصيّ خير البشر، وأنا الأوّل، وأنا الآخر، وأنا الباطن، وأنا الظاهر، وأنا بكلّ شيء عليم، وأنا عين الله، وأنا جنب الله، وأنا أمين الله على المرسلين، بنا عُبِد الله، ونحن خُزّان الله في أرضه وسمائه، وأنا أحيي وأميت، وأنا حيّ لا أموت. فتعجّب الأعرابيّ من قوله، فقال (عليه السلام): (أنا الأوّل): أوّل مَن آمن برسول الله (صلى الله عليه وآله)، و(أنا الآخر): آخر مَن نظر فيه لـمّا كان في لحده، و(أنا الظاهر): فظاهر الإسلام، و(أنا الباطن) بطين من العلم، و(أنا بكلّ شيء عليم): فإنّي عليم بكلّ شيء أخبره الله به نبيَّه فأخبرني به، فأمّا (عين الله): فأنا عينه على المؤمنين والكفرة، و(أمّا جنب الله): {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} ومَن فرّط فيَّ فقد فرّط في الله، ولم يخبر لنبيّ نبوّة حتّى يأخذه ختاماً من محمّد فلذلك سُمِّي خاتم النبيّين محمّد سيّد النبيّين فأنا سيّد الوصيّين، وأمّا (خزّان الله في أرضه): فقد علمنا ما علّمنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقول صادق، و(أنا أحيي): أحيي سنّة رسول الله، و(أنا أميت): أميت البدعة، و(أنا حيّ لا أموت): لقوله تعالى {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}» [مناقب آل أبي طالب ج2 ص205].
الثانية: روى الشيخ المفيد: « روي أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (صلوات الله عليه) كان قاعداً في المسجد وعنده جماعة، فقالوا له: حدّثنا يا أمير المؤمنين، فقال لهم: ويحكم، إنّ كلامي صعب مستصعب، لا يعقله إلّا العالمون، قالوا: لا بدّ من أن تحدّثنا، قال: قوموا بنا، فدخل الدار، فقال: أنا الذي علوتُ فقهرتُ، أنا الذي أحيي وأميت، أنا الأوّل والآخر والظاهر والباطن، فغضبوا وقالوا: كفر، وقاموا، فقال عليّ (صلوات الله عليه وآله) للباب: يا باب استمسك عليهم، فاستمسك عليهم الباب، فقال: ألـم أقل لكم: إنّ كلامي صعب مستصعب لا يعقله إلّا العالمون؟ تعالوا أفسّر لكم، أمّا قولي: (أنا الذي علوت فقهرت) فأنا الذي علوتُكم بهذا السيف فقهرتُكم حتّى آمنتم بالله ورسوله، وأمّا قولي: (أنا أحيي وأميت) فأنا أحيي السنّة وأميت البِدْعَة، وأما قولي: (أنا الأوّل) فأنا أوّل مَن آمن بالله وأسلم، وأمّا قولي: (أنا الآخر) فأنا آخر مَن سجّى على النبيّ ثوبه ودفنه، وأمّا قولي: (أنا الظاهر والباطن) فأنا عندي علم الظاهر والباطن، قالوا: فرّجتَ عنّا فرّج الله عنك» [الاختصاص ص163].
نكتفي بهذا القدر، والحمد لله أوّلاً وآخراً
اترك تعليق