هل جهَّز أميرُ المؤمنين عمرَ بن الخطَّاب عند موته؟

السؤال: جاء في كتاب الفتوح: (كان جعفر بن محمَّد يقول: لأبي علي بن أبي طالب (ع) هو الذي غسَّل عمر بيده وحنَّطه وكفَّنه، ثمَّ وضعه على سريره، وأقبل على الناس بوجهه فقال: «أيها الناس، هذا عمر بن الخطَّاب قد قضى نحبه ولحق بربه، وهو الفاروق، وقرن من حديد، وركن شديد، كان لا تأخذه في الله لومة لائم، عقل من الله أمره ونهيه...») [الفتوح ج2 ص 330]، فهل صحَّ هذا عن الإمام علي (ع)؟

: الشيخ نهاد الفياض

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

نقل الأخ السائل هذا النص من كتاب (الفتوح) للمؤرِّخ المعروف أبي محمَّد أحمد بن أعثم الكوفيّ، المتوفَّى نحو سنة (314) من الهجرة المباركة، ولنا على ذلك عدَّة ملاحظات، نذكرها ضمن نقاط.

النقطة الأولى: المعروف عند الأعلام أنَّ ابن أعثم الكوفيَّ من مؤرِّخي أهل العامَّة، وعليه فلا يكون كلامه حُجَّةً علينا.

قال العلَّامة المجلسيُّ (طاب ثراه): (وأمَّا كتب المخالفين، فقد نرجع إليها لتصحيح ألفاظ الخبر وتعيين معانيه، مثل كتب اللغة: كصحاح الجوهريِّ، وقاموس الفيروز آباديِّ، ونهاية الجزريِّ...وقد نورد من كتب أخبارهم للردِّ عليهم، أو لبيان مورد التقية، أو لتأييد ما روي من طريقنا، مثل ما نقلناه عن صحاحهم الستة...وكتاب "فردوس الأخبار" لابن شيرويه الديلميّ، وكتاب "ذخائر العقبى في مناقب أولي القربى"ّ للسيوطيّ، وتاريخ الفتوح للأعثم الكوفيّ) [بحار الأنوار ج1 ص24 ـ 25].

وقال العلَّامة المامقانيّ (طاب ثراه): (أحمد بن أعثم الكوفيُّ أبو محمَّد...إلى قوله: يظهر من كتاب الفتوح أنَّ المؤلِّف من العامَّة البعيد عن النصب، وتضعيفه ربَّما هو ناشٍ من ذكره لبعض الحوادث التي لا تروق العامَّة. وعلى كلِّ حال، فالرجل ممَّن يحتج بقوله عليهم، ويظهر أنَّه متثبِّت فيما ينقله) [تنقيح المقال ج5 ص334].

النقطة الثانية: لو تنازلنا ـ جدلاً ـ عن النقطة الأولى، فإنَّ الخبر المذكور مرسلٌ ومن دون سند، وعليه فلا يُمكن الأخذ به والتعويل عليه، لما هو مقررٌ ـفي محلِّه ـمن عدم حُجية المراسيل، فابن أعثم قد توفي (314هج)، بينما كانت شهادة الإمام الصادق (ع) سنة (148هج)، ولذلك فالفاصل بينهما كبيرٌ كما هو واضح.

النقطة الثالثة: لو تنازلنا ـ مرَّة أُخرى ـ عن النقطة الأولى والثانية معاً، فإنَّ مضمون هذا الخبر لا يتوفق مع المسلَّمات الدالَّة على كمال القطيعة بين أمير المؤمنين (ع) وبين الثاني، نذكر بعض الشواهد على ذلك:

1ـ روى مُسلم بن الحجَّاج في الصحيح بسنده عن الزهريّ، أنَّ مالك بن أوس حدَّثه، وفيه ما لفظه: (فلمَّا توفي رسول الله (ص) قال أبو بكر: أنا وليُّ رسول الله (ص)، فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها. فقال أبو بكر: قال رسول الله (ص): ما نورث، ما تركناه صدقة، فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً، والله يعلم إنه لصادقٌ بارٌّ راشدٌ ‌تابعٌ ‌للحق، ثمَّ توفي أبو بكر وأنا وليُّ رسول الله (ص)، ووليُّ أبي بكر، فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً، والله يعلم إني لصادقٌ بارٌّ راشدٌ ‌تابعٌ ‌للحق...) [صحيح مُسلم ج5 ص151].

أقول: إنَّ الملاحَظ في هذا النص (الصحيح) عند أهل العامَّة أنَّ أمير المؤمنين (ع) يرى الثاني كاذباً آثماً غادراً خائناً، مما يدلُّ على شدَّة القطيعة بينهما كما هو واضح، فكيف يصحُّ ـ بعد ذلك ـ خبر الفتوح المتقدِّم؟!

2ـ وما جاء في الخطبة الشقشقية، وفيها: (أما والله لقد تقمَّصها فلان، وإنه ليعلم أنَّ محلِّيَ منها محلَّ القطب من الرحى، ينحدر عنِّي السيل، ولا يرقى إليَّ الطير، فسدلتُ دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أنْ أصول بيد جذَّاء، أو أصبر على طخيةٍ عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتَّى يلقى ربه، فرأيت أنَّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرتُ وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهباً، حتَّى مضى الأوَّل لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده...فيا عجباً، بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشدَّ ما تشطَّرا ضرعيها فصيرها في حوزة خشناء، يغلظ كلمها، ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إنْ أشنق لها خرم، وإنْ أسلس لها تقحَّم، فمُني الناس ـ لعمر الله ـ بخبطٍ وشماس، وتلوُّن واعتراض، فصبرتُ على طول المدَّة وشدَّة المحنة) [نهج البلاغة ص48].

وهي من الوثائق الصارخة بشدَّةِ تظلُّمِ أميرِ المؤمنين (ع) من الغاصبَين لحقِّه الذي عُقد له في يوم الغدير وغيره، بل إنَّ أمر القطيعة بينهما من الضرورات التي لا تكاد تخفى على المطَّلع.

قال ابن أبي الحديد فيها: (حدَّثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطيّ في سنة ثلاث وستمائة، قال: قرأتُ على الشيخ أبي محمَّد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشَّاب هذه الخطبة، فلما انتهيت إلى هذا الموضع، قال لي: لو سمعتُ ابن عبَّاس يقول هذا، لقلتُ له: وهل بقي في نفس ابن عمِّك أمرٌ لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسف ألَّا يكون بلغ من كلامه ما أراد؟! والله ما رجع عن الأوَّلين ولا عن الآخرين، ولا بقي في نفسه أحد لم يذكره إلَّا رسول الله (ص). قال مصدق: وكان ابن الخشَّاب صاحب دعابة وهزل، قال: فقلتُ له: أتقول إنها منحولة! فقال: لا والله، وإني لأعلم أنَّها كلامه، كما أعلم أنك مصدق. قال: فقلت له: إنَّ كثيراً من الناس يقولون إنَّها من كلام الرضيّ (رحمه الله تعالى)، فقال: أنَّى للرضيّ ولغير الرضيّ هذا النفس وهذا الأسلوب! قد وقفنا على رسائل الرضيّ، وعرفنا طريقته وفنَّه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خلٍّ ولا خمر. ثمَّ قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتبٍ صُنِّفت قبل أنْ يُخلق الرضيُّ بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورةً بخطوطٍ أعرفها، وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أنْ يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضيّ.

قلتُ: وقد وجدتُ أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخيّ إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر قبل أنْ يخلق الرضيُّ بمدَّةٍ طويلة. ووجدتُ أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبَّة، أحد متكلِّمي الإماميَّة، وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب (الانصاف) وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخيّ (رحمه الله تعالى)، ومات في ذلك العصر قبل أنْ يكون الرضيُّ (رحمة الله تعالى) موجوداً) [شرح النهج ج1 ص205].

والنتيجة من كلِّ ما تقدَّم، أنَّ النص الذي تقدَّم نقله عن كتاب الفتوح لا يُمكن التعويل بوجهٍ من الوجوه.. والحمد لله ربِّ العالمين.