هل صيام شهر رمضان فريضة إلهيّة، أم عبادة وثنيّة ؟!.

السؤال: الأصل الوثنيّ لرمضان: صوم رمضان هو طقس وثنيٌّ كانت الأقوام الوثنيَّة قبل ظهور الإسلام تقوم بهذه العبادات والطقوس كجزءٍ من عباداتها لإله القمر (سيـن). ومن الأمثلة على هؤلاء طائفة تسمى بـ (الصابئـة الحرانيّيـن) كانوا يعيشون في بلاد ما بين النهرين ومن ثم انتقلوا إلى شمال شبه الجزيرة العربيَّة، وتحديداً في منطقة (تيمـاء) سنة 550 قبل الميلاد، حيث كانت هذه الطائفة تراقب الهلال للبدء بطقوسهم الوثنيَّة حيث كانوا يصومون مدة (30 يوماً)، وصومهم يبدأ من الفجر حتّى مغيب الشمس، وعندما يعود القمر هلالاً مرةً اخرى كانوا يحتفلون بعيد الفطر، حيث كانوا يقدّمون الذبائح والصدقات ظنّاً منهم أنّ إله القمر (سيـن) أصبح راضياً عنهم. وكان صومهم يقتصر على الطعام والشراب والمعاشرة الجنسيَّة وأحياناً حتّى الامتناع عن الكلام! وكان صوم رمضان طقس رئيسٌ من طقوس التعبد للإله (سيـن).

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

وبعد، فمع أنّ السائل لم يقدّم لنا دليلاً واحداً على صحّة المعلومات التي نقلها عن الصابئة الحرّانييّن، ولا على دعواه أنّ أصل صيام شهر رمضان عبادة وثنيّة، وأن ّهذا يعني أخذ الإسلام بعض شعائره عن الصابئة الحرّانيّين وأضرابهم من الوثنيّين، إلّا أنّنا سنجيب عن الشبهة الواهية التي أوردها، ولكن بعد الوقوف على بعض المقدّمات:

المقدّمة الأولى:أنّ كلّ من تتبّع تاريخ الإسلام منذ بزوغ فجره حتّى يومنا هذا يعلم بالضرورة القطعية شدّة مباينته للوثنيّة وإعلانه رفضها، وخوضه الحروب ضدّها حتّى أريقت في ذلك الكثير من دماء أبنائه البررة، وما من دين له مثل ما للإسلام من صراعٍ فكريٍّ أو عسكريٍّ ممتدٍّ عبر قرون متطاولة مع الوثنية والوثنيّين، ولعلّ من أبرز أمارات ذلك إباء الإسلام لأتباعه التوجّه إلى الكعبة في الصلاة حينما كانت الأوثان تملأ رحبها وتعلو ظهرها![ينظر تفسير التبيان ج2ص4]، ولم يقنع إلّا بتحطيمها وإذلال سادات المشركين الراعين لها[ينظر: المصنّف لابن أبي شيبة ج8ص534]، وعليه فشريعة تمتلك منظومة تشريعيّة متكاملة، ولها مثل هذا الموقف الواضح من الشرائع الوثنيّة، كيف يُعقل احتياجها إلى استيراد شيءٍ من طقوس الوثنيّين وفرضه على أتباعها !.

المقدّمة الثانية: ليس خفيّاً على ذوي البصيرة والفهم وجود عناصر مشتركة بين جميع الشرائع السماويّة منها مثلاً:

1- الاتّفاق في أساسيات العقيدة من التوحيد والنبوّة والمعاد.

2- الاتّفاق على أمّهات التكاليف الشرعيّة كالصلاة، ووجوب العدل في القضاء، وضرورة الحجاب للمرأة ،وحرمة الخمر، وحرمة سفك الدماء بغير حقّ، وهتك الأعراض، وغير ذلك الكثير.

ويبرز الحجّ من بين جميع تلك التكاليف كتكليفٍ عامٍّ في حقّ الأمم في الجملة من عصر آدم (ع) إلى أن بعث الله تعالى نبيّه الخاتم (صلوات الله وسلامه عليه وآله) فجعله واجباً على من استطاع من أمّته إليه سبيلاً، فكان بذلك شاهداً حيّاً على وحدة مصدر الشرائع السماويّة جميعاً، وفي هذا الصدد روى الصدوق في الصحيح بإسناده عن بكير بن أعين، عن أخيه زرارة قال: «قلت لأبي عبد الله "ع": جعلني الله فداك أسألك في الحجِّ منذ أربعين عاما فتُفتيني؟!، فقال: يا زرارة بيتٌ يُحجّ قبل آدم "ع" بألفي عام تُريد أن تفنى مسائله في أربعين عاماً!»[الفقيه ج2ص519].

المقدّمة الثالثة: من جهة أخرى فإنّ العقل عند المسلمين يُعدّ واحداً من مصادر التشريع التي يمكن من خلالها إثبات حكم أو نفي آخر، وليس بدعاً إذا ما أدرك العقل الحكمة في بعض التكاليف فالتقى بذلك مع الشارع المقدّس في ضرورة إثباتها وحسن التكليف بها وممارستها، فمثلاً: روى الكلينيُّ في الصحيح بإسناده عن زرارة قال: «قال أبو عبد الله "ع": ما بعث الله عزّ وجلّ نبيّاً قطّ إلّا وفي علم الله أنّه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر ولم تزل الخمر حراماً، وإنمّا ينقلون من خصلة إلى خصلة، ولو حمل ذلك عليهم جملةً لقطع بهم دون الدين ، قال : وقال أبو جعفر "ع" : ليس أحدٌ أرفق من الله عزّ وجلّ، فمِن رفقه - تبارك وتعالى - أنّه نقلهم من خصلةٍ إلى خصلة، ولو حمل عليهم جملة لهلكوا»[الكافي ج6ص395]، إذاً.. فالخمر محرّمة في شرائع السماء كافّة، ومع ذلك فقد أدرك الإنسان ضرورة تركها مع أنّه من مشركيّ الجاهلية ولا يدين بدينٍ سماويّ، فمثلاً: قيل للعبّاس بن مرداس السلميّ وقد أصابه الكبر حين كان من شيوخ الجاهليّة: (ألا تأخذ من الشراب فإنّه يزيد من جرأتك، ويقوّيك؟ قال: أُصبح سيّد قومي، وأمسي سفيههم؟!، لا والله لا يدخل جوفي شيءٌ يحول بيني وبين عقلي أبداً).

وقيل لقيس بن عاصم المنقريّ في الجاهلية: ( لِمَ تركت الشراب؟ قال: لأنّي رأيته مَتلفةً للمال، داعية إلى شرّ المقال، مذهبة بمروءات الرجال) [ينظر: ذمّ المسكر لابن أبي الدنيا ص41].

وهكذا ما لو نظرنا إلى مسلّة حمّورابيّ التي كتبت قبل الميلاد بأكثر من (17) قرناً لوجدنا فيها موادّ قانونية تلتقي مع شرائع السماء مثل: (ما في المادة 128 من عدم الاعتراف بالزوجيَّة بين رجل وامرأة حتّى يتمّ عقد زواجهما عند الجهات المختصّة ويُثبّت هناك. أو المادة 138 التي تنصّ على أنّ من طلّق زوجته غير ذات الأولاد فعليه أن يدفع إليها مهرها كاملاً وجميع ما جاءت به من بيت أهلها، أو ما في المادة 142 التي تذكر أنّ المرأة الكارهة للبقاء مع زوجها من دون خيانتها له تستحقّ أن تأخذ ما جاءت به بيت أهلها وتعود إليهم ولكن بلا مهر، ولا يخفى أنّ هذا هو معنى الخُلع في بعض الشرائع ومنها الإسلام) [ينظر بحث بعنوان: شريعة حمّورابيّ مقارنة بالشريعة الإسلاميّة - كليّة الآثار - جامعة القادسية]، والحاصل أنَّ مثل هذه المواد ونحوها يمكن للعقل إدراك بعض أوجه الحكمة فيها ولو بنحو ومقدار معيّنين.

فإذا عرفت جميع ذلك فإنّ الجواب عن الشبهة يتألّف من وجهين:

أحدهما: أنّ الأدلّة النقليّة التي بين أيدينا تؤكّد بمجموعها على أنّ الصيام ليس عبادة جديدة لم يعرفها البشر إلّا من خلال الإسلام، بل هي عبادة مشروعة قبل ذلك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:183]، بل إنّ تأريخها يرجع إلى زمن النبيِّ آدم (ع)، فقد روى الصدوق بإسناده إلى حفص بن غياث النخعيّ قال: «سمعت أبا عبد الله "ع" يقول: إنّ شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحدٍ من الأمم قبلنا، فقلت له: فقول الله عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} قال: إنّما فرض الله صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم، ففضّل به هذه الأمّة وجعل صيامه فرضاً على رسول الله "ص" وعلى أمته»[الفقيه ج2ص99].

إذنْ: غاية ما هنالك أنّ هذه العبادة كانت واجبةً على جميع الأنبياء (ع) دون أممهم، فلا يمتنع - والحال هذه - أن يكون الوثنيّون هم الذين أخذوها عنهم، لا أنّ العكس الذي افترضه السائل هو الصحيح، خصوصاً مع ملاحظة أنّ الكثير من الديانات الوثنيَّة والفلسفات الفكريَّة ترجع في جذورها إلى دياناتٍ سماويّةٍ انحرف أهلها عن خطّ التوحيد كالبوذيَّة والهندوسيَّة ومنها الصابئة أيضاً.

والآخر: أنّ من الطبيعيّ جدّاً أن تشترك جميع الشرائع، بل الفلسفات الوضعيّة أيضاً في النزوع إلى الصوم بوصفه رياضةً روحيّةً تورث صفاء النفس، ونشاطاً عضويّاً يُسهم في التمتّع بصحّة بدنيّة عالية المستوى في الوقت نفسه، وهذا أمر يثبته العلم الحديث بكلّ وضوح، بل قد نال فيه بعض العلماء اليابانيّين جائزة نوبل للعلوم من خلال اكتشافه لآليّة الالتهام الذاتي للخلايا المتضرّرة داخل الجسم بواسطة الصيام المتقطّع، وقد قام صاحب الدراسة العالم اليابانيّ يوشينوري أوسومي بتقديم عدّة دراسات وأبحاث في ذلك[للوقوف على مجموعة من الدراسات العالميَّة عن الصوم ومنها ما ذكرناه ينظر: بحث مشترك بعنوان فوائد الصوم الصحّية لكلّ من: " أ.د محمد جياد النعيمي – أ.د محمد جميل الحبال" - مجلّة الاعجاز العلمي - العدد 62، لسنة 2022م]؛ فلهذا وغيره كان الصوم عبادة مأثورة عند جميع الشعوب والحضارات والأمم حتّى عند غير الملّيين منهم كما في مصر القديمة واليونان القديمة والرومانيّين، بل حتّى عند الوثنيّين من الهند والصين، إذْ لا يزالون يصومون إلى يومنا هذا[ينظر بحث تاريخيٌّ عن الصوم في تفسير مواهب الرحمن ج3ص22، وكذا في مقارنة الأديان للدكتور أحمد الشلبي ص49]، هذا فضلاً عن آثاره الاجتماعيّة والأخلاقيَّة والاقتصاديّة، بل كون الصوم عبادة قُربية وعملاً صحّيّاً ورياضة نفسية ممّا يهتدي إليه الانسان بفطرته ووجدانه[ينظر: الميزان ج2ص7]، وعليه فتشريع الإسلام له يدلّ على موافقة تشريعاته للفطرة والعقل السليم، وعلى حضاريّة شريعته الغرّاء، لا انّه يدلّ على أخذ طقوسه وتكاليفه من الوثنيّين. ختاماً هذا ما وفّقنا الله تعالى لتحريره في المقام، والحمد لله ربّ العالمين.