معنى قول السيدة فاطمة (ع) (يا ابن أبي طالب اشْتَمَلْتَ شِمْلَةَ الْجَنين)
السؤال: هل فاطمة الزهراء (عليها السلام) لما طالبت بحقِّها في فدك من أبي بكر وامتنع أنْ يعطيها إيّاها رجعت لبيتها غاضبةً على عليٍّ لعدم مناصرته إيّاها فقالت: «يا ابن أبي طالب اشْتَمَلْتَ شِمْلَةَ الْجَنينِ وقعدت حجرة الظنين.. » إلى آخر كلامها؟ فكيف يوجه كلامها بما يناسب العصمة؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم - أيّدك الله - أنّ هذه فقرة من كلامها (عليها السلام) الذي قالته لأمير المؤمنين (عليه السلام) بعد إلقائها الخطبة الفدكيّة في المسجد، لـمّا طالبت بحقها من أبي بكرٍ الذي حرمها منه، ثمّ عادت إلى بيتها، وعندما استقرَّتْ فيه، أقبلتْ على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقالت : «يا ابن أبي طالب ، اشتملتَ مشيمة الجنين، وقعدتَ حجرة الظنين، نقضتَ قادمة الأجدل، فخانك ريش الأعزل. هذا ابن أبي قحافة قد ابتزّني نحيلة أبي وبليغة ابني، والله لقد أجدّ في ظلامتي، وألدّ في خصامي، حتّى منعتني قيلةُ نصرَها، والمهاجرةُ وصلَها، وغضّتْ الجماعةُ دوني طرفها، فلا مانع ولا دافع، خرجتُ والله كاظمةً، وعدتُ راغمةً، فليتني - ولا خيار لي -متُّ قبل ذلتي، وتوفيتُ قبل مَنِيَّتي، عذيري فيك الله حامياً، ومنك عادياً، ويلاه في كلِّ شارق، ويلاه مات المعتمد ووهن العضد، شكوايَ إلى ربّي، وعَدْوَايَ إلى أبي، اللهم أنت أشد قوة». فأجابها أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا ويل لك، بل الويل لشانئك، نهنهي من غربك، يا بنت الصفوة وبقية النبوة، فوالله ما ونيتُ في ديني، ولا أخطأتُ مقدوري، فإنْ كنتِ ترزئين البلغة فرزقك مضمون، ولعيلتك مأمون، وما أعدّ لك خير مما قطع عنك، فاحتسبي». فقالت: «حسبي الله ونعم الوكيل» [أمالي الطوسيّ ص684، مناقب آل أبي طالب ج2 ص50، الاحتجاج ج1 ص145].
وقد يُتوهّم ظهور هذا الكلام من الصدّيقة الكبرى (عليها السلام) في توجيه اللوم إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فيكون ذلك منافياً لعصمتهما (عليهما السلام)؛ إذ إنّ عصمتهما ثابتة بالبراهين القطعيَّة من الآيات القرآنية كآية التطهير، والأحاديث النبويَّة كحديث المنزلة وحديث البضعة، وغيرها.
وعليه، لا مناص من صدور هذه الكلمات من الصديقة الكبرى (عليها السلام) بدواعٍ متناسبةٍ مع العصمة، من ذلك:
الأوّل: الاستعذار:
إنّ هذا الخطاب الموجّه لأمير المؤمنين (عليه السلام) صادرٌ بداعي الاستعذار – وهو طلب بيان العذر -، وتهدف الصديقة الكبرى (عليها السلام) منه إزالة الشبهة الدائرة في أذهان الناس من أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد رضي بالظلم الذي جرى عليه، فتكلّمت بهذا الكلام ليبيّن الإمام (عليه السلام) عُذرَه للناس من أنّ تكليفه هو الصبر والسكوت.
وهذا نظير ما حصل بين النبيّ موسى (عليه السلام) وبين النبيّ هارون (عليه السلام)، قال الله تعالى: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 92-94]، فإنّ النبيّ موسى (عليه السلام) خاطب أخاه بهذا الخطاب ليبيّن عُذرَه. كذلك السيّدة فاطمة (عليها السلام) حيثُ أرادت بموقفها هذا أنْ تستنطق أمير المؤمنين (عليه السلام) ليبيّن عذره وأنّه ما سكت إلّا لوصيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث جاء في جوابه (عليه السلام): «فوالله، ما ونيتُ عن ديني، ولا أخطأتُ مقدوري... وما أُعِدَّ لك خيرٌ ممّا قُطِعَ عنك، فاحتسبي»، حيث يبيّن أنّه ما عجز عن القيام بما أمره به الله تعالى، ولا ترك ما هو مقدور له، مشيراً إلى أنّه غير قادر على دفع ما فعله القوم امتثالاً لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) له بالصبر حتّى يتميّز الخبيث من الطيّب.
ويمكن أن يؤيّد هذا الوجه: أنّ الهمزة في كلمة «اشتملت» هي همزة استفهام وليست همزة وصل، فهي «أَشتملتَ»، والمعنى: أنّها تسأل عليّاً (عليه السلام): (هل اشتملت)؛ لأجل إسماع جوابه للآخرين، نظير قول الله تعالى للنبي عيسى (عليه السلام): {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَمُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116].
الثاني: توبيخ المتخاذلين:
على الرغم من أنّ الخطاب موجّهٌ – ظاهراً- إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، إلا أنّ المقصود والمعنيَّ بالخطاب هم أولئك الذين تخلّفوا عن النصرة، فالخطاب بلسان (إيّاك أعني واسمعي يا جارة)، وهو أسلوب عربيّ وجرى استعماله في القرآن الكريم، كقوله تعالى لنبيّه (صلى الله عليه وآله): ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65]، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النبيّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ [الأحزاب: 1]، وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ * وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إلى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ..﴾ [القصص: 86-88]، فإنّ الخطاب – في هذه الآيات الكريمة – وإنْ كان موجّهَاً إلى النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) إلّا أنّ المقصود به عموم الناس.
ففي الحقيقة تلوم السيّدة الزهراء (عليها السلام) المهاجرين والأنصار على خذلانهم لها، وتحثّهم على نصرتها، وقد جاء في كلامها (عليها السلام) ما يشهد لهذا المعنى، فإنّها ذكرت تخاذل المهاجرين والأنصار عن نصرتها، وعدم دفاع المسلمين عنها، وذلك في قولها: « هذا ابن أبي قحافة قد ابتزّني نحيلة أبي وبليغة ابني، والله لقد أجدّ في ظلامتي، وألدّ في خصامي، حتّى منعتني قيلةُ نصرَها، والمهاجرةُ وصلَها، وغضّت الجماعة دوني طرفها، فلا مانع ولا دافع »، فهي تحضّ الأنصار والمهاجرين على نصرتها والدفاع عنها، وقد كانت قُبيل ذلك قد استنهضت الأنصار في خطبتها الفدكيّة المشهورة.
نكتفي بهذا القدر، والحمد لله أوّلاً وآخراً.
اترك تعليق