إنّي لأستحي من الله أنْ أردَّ شيئاً منع منه أبو بكر
السؤال: ذُكر في كتاب (الشافي في الإمامة) للشريف المرتضى، يُروى أنه عندما وصل الأمر إلى عليِّ بن أبي طالب كُلم في ردِّ فدك، فقال: «إني لأستحي من الله أنْ أرد شيئًا منع منه أبو بكر وأمضاه عمر». والسؤال هنا: إذا كان فعل أبو بكر في منع فاطمة من فدك يُعتبر حرامًا وغصبًا لحقها، فكيف يمكن لعلي بن أبي طالب أنْ يستحي من إرجاعه لورثة فاطمة؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم - أيدك الله - أنَّ فدكاً ملكٌ للصدّيقة الكبرى؛ وذلك لما نزلت الآية: {وَآتِ ذَا القُربَى حَقَّهُ} [الإسراء: 27] وهبها النبيُّ (صلى الله عليه وآله) لها (عليها السلام). ولمّا تولّى أبو بكر الخلافة، غصب أرض فدك، ووضع حديثاً في أنَّ النبيَّ قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث»، وهو حديثٌ مكذوبٌ، كما ذكرنا ذلك في أجوبةٍ سابقةٍ.
ولمّا استلم أمير المؤمنين (عليه السلام) الحكم، لم يسترجع أرض فدك؛ وذلك لأنَّ من سجايا أهل البيت (عليهم السلام) أنّهم لا يستردّون ما غُصب منهم، فإنّ أجرهم على الله وقد أخذوه، وأمّـا الظالم فقد وفد على الله العدل وعُوقب على ظلمه، كما نصّ على ذلك الأئمّة (عليهم السلام) لـمّا سُئلوا عن علّة عدم استرجاع أمير المؤمنين (عليه السلام) أرض فدك زمان ولايته وخلافته، ويمكن مراجعة جوابٍ منشورٍ بعنوان: (العلة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين فدكاً لما ولى الناس).
وأمّـا حديث: «إنّي لأستحي من الله أنْ أردَّ شيئاً منع منه أبو بكر وأمضاه عمر»، فيُلاحظ عليه أمران:
الأمر الأوّل: مصدر الحديث:
إنّ هذا الحديث نقله الشريف المرتضى (قدّس سرّه) من كتاب أبي عبيد الله المرزبانيّ – وهو أحد علماء المخالفين –، في سياق الاحتجاج على القاضي عبد الجبّار المعتزليّ بما تتضمّنه الرواية من الارتباط بأرض فدك، فقال: (فقد روى أكثر الرواة الذين لا يتّهمون بتشيّعٍ ولا عصبيّةٍ فيه في كلامها (عليها السلام) في تلك الحال، وبعد انصرافها عن مقام المنازعة والمطالبة ما يدلّ على ما ذكرناه من سخطها وغضبها، ونحن نذكر من ذلك ما يستدلّ به على صحّة قولنا: أخبرنا أبو عبد الله محمّد بن عمران المرزبانيّ - إلى أنْ قال - وزاد عروة بن الزبير عن عائشة... وقال: فلمّا وصل الأمر إلى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) كُلِّم في ردّ فدك، فقال: إنّي لأستحي من الله أنْ أردّ شيئاً منع منه أبو بكر وأمضاه عمر) [الشافي في الامامة ج٤ ص69ـ٧٦].
فيتّضح من ذلك: أنّ الشريف المرتضى (قدّس سرّه) أورد الحديث حكايةً عمّا ترويه العامة في مسألة فدك، في مقام الاحتجاج عليهم؛ إذ كان الغرض من تصنيف كتابه الشافي هو الردّ على كتاب (المغني) للقاضي عبد الجبّار. ولم ينقل هذا الحديث أحدٌ من علماء الشيعة ومحدّثيهم، وإنّما نقله علماء أهل السنّة، فالحديث من أحاديثهم لا من أحاديث الإماميّة.
الحاصل: هذا الحديث من أحاديث المخالفين، ونقله السيّد المرتضى من مصادرهم في مقام الاحتجاج عليهم.
الأمر الثاني: دلالة الحديث:
إنّ التأمّل في الحديث يعطي معنىً ينسجم تمام الانسجام مع ما ورد في أحاديثنا الشريفة التي تبيّن علّة عدم استرجاع أمير المؤمنين (عليه السلام) أرض فدك في أيّام خلافته، وبيان ذلك:
إنّ الحديث يدلّ دلالةً واضحة على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يعتقد أنّ أرض فدكٍ ملكٌ للصدّيقة الكبرى (عليها السلام)، فإنّه لـمّا كُلِّم في ردّ فدك برَّر عدم الاسترجاع بالاستحياء من الله تعالى، ولو كان يعتقد أنّ أرض فدك صدقةٌ وملكٌ لجميع المسلمين – كما ادّعاه أبو بكر بالحديث المجعول، ووافقه عمر بن الخطّاب – لكان ينبغي أن يُبرِّر عدم الاسترجاع بعدم الجواز لكونها ملكاً لجميع المسلمين، لا بالاستحياء. يضاف لذلك: أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «منع منه أبو بكر وأمضاه عمر»، فأسندَ المنع لهما، ولم يسنده لله تعالى ولرسوله الكريم؛ إذ لو كان يرى صحّة دعوى أبي بكر لكان الأولى إسناد المنع لله تعالى ولرسوله؛ وهذا يعني أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يرى أنّ أرض فدكٍ ملكٌ للصدّيقة الكبرى (عليها السلام) ولأولادها الطيّبين (عليهم السلام)، وليست صدقةً للمسلمين.
ومن الواضح أنّ اعتقاده بملكية الزهراء لفدك يلزمه أنْ يكون أخذ أبي بكر أرض فدك أخذاً غصبيّاً، ويكون منعه منعاً ظالماً، فقوله (عليه السلام): «منع منه أبو بكر» يعني ظلماً وغصباً، وقوله: «وأمضاه عمر» يعني على ظلمه وغصبه.
وعليه، فإنّ الوجه في تبرير عدم الاسترجاع بالاستحياء من الله تعالى: أنّ الظالمَ استحقّ – بظلمه وغصبه – الغضب الإلهي، ونال نصيبه من العذاب بعد رحيله عن الدنيا، والمظلوم قد نال الثواب والثناء، فاستحيى أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يسترجع شيئاً قد نال الظالم العقاب عليه ونال المظلوم الثواب عليه، فهذا معنى قوله: «إنّي لأستحي من الله أن أردَّ شيئاً منع منه أبو بكر» يعني ظلماً وغصباً «وأمضاه عمر» كذلك؛ لأنّهما قد نالا نصيبهما واستحقاقهما في البرزخ وسينالان استحقاقهما في الآخرة، كما أنّ الصدّيقة نالت ثوابها في البرزخ وستناله في الآخرة.
وهذا المعنى وارد في أحاديثنا، فعن أبي بصير قال: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) لِـمَ لَـمْ يأخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) فدك لمّا ولي الناس؟ ولأيّ علّة تركها؟ فقال: لأنّ الظالم والمظلوم كانا قدِما على الله عزّ وجلّ، وأثاب الله المظلوم، وعاقب الظالم، فكره أنْ يسترجع شيئاً قد عاقب الله عليه غاصبَه وأثاب عليه المغصوب» [علل الشرائع ج١ ص١٥٥].
نكتفي بهذا القدر، والحمد لله أولاً وآخراً.
اترك تعليق