هل ورقة الصلح في يوم الحديبيّة أهمّ من الزهراء؟

السؤال: أنتم تقولون: إنَّ عليّاً ترك فاطمة تتعرَّض للضرب بسبب الوصيّة، لكنَّه خالف أمر النبيّ (ص) في صلح الحديبيّة ورفض مسح (رسول الله)، فهل تُعتبر ورقة صلح الحديبيّة أهمّ من زوجته فاطمة ابنة النبيّ(ص)، لماذا لم يخالف الوصيّة ويساعدها؟

: الشيخ نهاد الفياض

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

للجواب عن هذا السؤال نذكر جملة من الأمور:

الأمر الأوَّل: النقض بما جاء في مقتل عثمان بن عفَّان، حيث اُعتدي عليه وعلى زوجته وهو ساكت، فما تقولونه في الجواب عنه، نقوله في حقِّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، مع حفظ الفارق بينهما، كما لا يخفى.

فإنْ قلتم بأنَّ عثمان كان موصى بالصبر من قبل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، فكذلك كان أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلماذا الكيل بمكيالين!

1ـ قال ابن كثير الدمشقيّ: (وأحاطوا بالدار، وجدُّوا في الحصار، وأحرقوا الباب، وتسوّروا من الدار المتاخمة للدار، كدار عمرو بن حزم وغيرها، وجاحف الناس عن عثمان أشدّ المجاحفة، واقتتلوا على الباب قتالاً شديداً، وتبارزوا، وتراجزوا بالشعر في مبارزتهم...وقُتل طائفة من أهل الدار، وآخرون من أولئك الفجَّار...فدخلوا عليه من الباب ومن الجدران، وفزع عثمان إلى الصلاة...إلى قوله: ثمَّ تقدَّم سودان بن حمران بالسيف فمانعته نائلة، فقطع أصابعها فولَّت، فضرب عجيزتها بيده وقال: إنَّها لكبيرة العجيزة) [البداية والنهاية ج10 ص313].

2ـ وفي نقل المؤرِّخ الطبريّ، ما هذا لفظه: (وجاء سودان بن حمران ليضربه، فانكبَّت عليه نائلة ابنة الفرافصة، واتَّقت السيف بيدها، فتعمَّدها ونفح أصابعها، فأطنَّ أصابع يدها وولَّت، فغمز أوراكها، وقال: إنَّها لكبيرة العجيزة، وضرب عثمان فقتله) [تاريخ الطبريّ ج4 ص319].

الأمر الثاني: أنَّ هجوم القوم على دار الزهراء (عليها السلام) كان مُباغتاً، حيث كانت الزهراء (عليها السلام) خلف الباب تكلِّم القوم وتحرِّج عليهم الدخول، وإذا بهم اقتحموا الباب وضربوها، فوثب عندها عليٌّ (عليه السلام) على الثاني، وأخذ بتلابيبه وصرعه، ثمَّ وجأ أنفه ورقبته، وأراد قتله لولا تلك الوصيّة التي قُيِّد بها من قبل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).

قال سُليم بن قيس: (ثمَّ أمر أناساً حوله أنْ يحملوا الحطب، فحملوا الحطب وحمل معهم عمر، فجعلوه حول منزل عليّ وفاطمة وابناهما (عليهم السلام). ثمَّ نادى عمر حتَّى أسمع عليّاً وفاطمة (عليهما السلام): والله لتخرجنّ يا عليّ ولتبايعنّ خليفة رسول الله وإلَّا أضرمتُ عليك بيتك النار، فقالت فاطمة (عليها السلام): يا عمر، ما لنا ولك؟ فقال: افتحي الباب وإلَّا أحرقنا عليكم بيتكم...إلى قوله: فأخذ (عليه السلام) بتلابيبه ثمَّ نتره، فصرعه ووجأ أنفه ورقبته، وهمَّ بقتله، فذكر قول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وما أوصاه به، فقال: والذي كرَّم محمَّداً بالنبوَّة ـ يا بن صهَّاك ـ لولا كتاب من الله سبق، وعهد عهده إليَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لعلمت إنَّك لا تدخل بيتي) [كتاب سُليم ص150].

ومن خلال هذا يتَّضح بطلان ما قاله السائل: من أنَّ علياً (عليه السلام) ترك زوجته تتعرَّض للضرب بسبب الوصيّة، وذلك لثبوت دفاعه عنها (عليها السلام)، ولأنَّ الوصيّة كانت بترك القتل فقط.

الأمر الثالث: أنَّ ما قيل من قصَّة الحديبيّة بصيغة الجزم واليقين الذي لا خلاف فيه أمرٌ غير مسلَّمٍ، لأنَّ ألفاظ القصَّة لم تتّفق على لفظٍ واحد، ففي البخاريّ أنَّ الآمر بمحو الاسم الشريف هو النبيّ الأعظم (صلَّى الله عليه وآله)، في حين ورد في لفظ النسائيّ أنَّ الآمر هو سهيل بن عمرو، الأمر الذي يجعل المنقول محتملاً فقط.

1ـ روى النسائيّ عن علقمة بن قيس، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (إني كنتُ كاتب رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) ‌يوم ‌الحديبيّة، فكتبْ هذا ما صالح عليه محمَّد رسول الله وسهيل بن عمرو، فقال سهيل: لو علمنا أنّه رسول الله ما قاتلناه، امحها. فقلتُ: هو والله رسول الله، وإنْ رغم أنفك، لا والله لا أمحها. فقال رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم): أرني مكانها، فأريته فمحاها) [السنن الكبرى ج7 ص482].

2ـ وفي البخاريّ عن البراء قال: (اعتمر النبيّ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) في ذي القعدة، فأبى أهل مكَّة أنْ يدعوه يدخل مكَّة، حتَّى قاضاهم على أنْ يقيم بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب، كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمَّد رسول الله. فقالوا: لا نقرُّ بها، فلو نعلم أنّك رسول الله ما منعاك، لكنْ أنت محمَّد بن عبد الله. قال: (أنا رسول الله، وأنا محمَّد بن عبد الله)، ثمَّ قال لعليّ: (‌امحُ ‌رسول الله)، قال: لا والله، لا أمحوك أبداً، فأخذ رسول الله الكتاب، فكتب: هذا ما قاضى عليه محمَّد بن عبد الله) [صحيح البخاريّ ج2 ص960].

ولو سلَّمنا بأنَّ الآمر هو رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، فإنَّ الأمير لم يعصهِ أبداً، بل أراد توقيره وإجلاله، وهو ممّا يكشف عن كون الأمر الصادر منه (صلَّى الله عليه وآله) لم يكن أمراً مولوياً، وإلَّا لرتَّب عليه الأثر، كما رتَّبه (صلَّى الله عليه وآله) في رزيّة الخميس بقوله: (قوموا عنِّي...).

قال النوويّ في شرح قوله: (فقال النبيّ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) لعليّ امحه، فقال: ما أنا بالذي أمحاه، هكذا هو في جميع النسخ بالذي أمحاه، وهي لغة في أمحوه. وهذا الذي فعله عليٌّ (رضي الله عنه) من ‌باب ‌الأدب المستحب، لأنّه لم يفهم من النبيّ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) تحتيم محو عليٍّ بنفسه، ولهذا لم ينكر. ولو حتَّم محوه بنفسه لم يجز لعليٍّ تركه، ولما أقرَّه النبيّ(صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) على المخالفة) [المنهاج، شرح صحيح مُسلم بن الحجَّاج ج12 ص135].

وقال أبو الحسن ابن بطّال: (وإباءة عليٍّ من محو (رسول الله) ‌أدبٌ ‌منه وإيمان وليس بعصيان فيما أمره به، والعصيان هاهنا أبرُّ من الطاعة له، وأجمل في التأدُّب والإكرام) [شرح صحيح البخاريّ ج8 ص88].

والنتيجة من كلِّ ما تقدَّم، هي بطلان مقايسة السائل بين قصَّة الحديبيّة وحادثة الهجوم على الدار، كما صار واضحاً.. والحمد لله ربِّ العالمين.