دور الإمام الجواد (عليه السلام) في تثبيت العقيدة

السؤال: ما هو الدور العقائديّ الذي استطاع الإمام الجواد (عليه السلام) أن يقوم به وتنتفع الأمّة من ورائه بالرغم من صغر سنّه وقِصَر مدّة إمامته؟

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

ممّا لا شكّ فيه أنّ عامِلَي صغر السنّ وقِصَر المدّة يعدّان من العوامل المؤثرة سلباً في المشاريع رساليّة كانت أم غيرها، غير أنّ ذلك التأثير السلبيّ ليس على إطلاقه، وإنّما هو مقرون بحال ما لو تجرّدت تلك المشاريع من تدخّل يد العناية الربّانيّة وفيوضات التوفيق الإلهيّ، وإلّا فإنّ إرادة الله وقدرته تعالى غالبتان ولا تتقيّدان بحدود بالزمان والمكان، ولا بطبيعة الظروف والأحوال، بل هما كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وبالتالي فلا يتأتّى الفشل في مثل مشروع الإمامة وأدوار الأئمّة (عليهم السلام) التي قاموا بها؛ لأنّها جميعاً كانت بتخطيط ربّانيّ وتدبير إلهيّ أجاد الأئمّة (عليهم السلام) تنفيذه على أكمل وجه وعرفوا كيف يتعاملون مع طبيعة الظروف والأحوال المحيطة بهم وينجحون في أداء أداورهم ببركة التوكّل على الله تعالى، والاستعانة به، وحُسن الطاعة له عزّ وجلّ، فكان التوفيق حليفهم والنجاح مصير مشاريعهم.

ومن هنا جاءت بركات الدور العقائديّ للإمام الجواد (عليه السلام) بمنزلة الفتح المبين بالنسبة للتشيّع وأتباعه، فكان بحقّ على طبق ما ورد من وصفه في رواية يحيى الصنعانيّ قال: «دخلت على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وهو بمكة وهو يُقشّر مَوزاَ ويطعمه أبا جعفر (عليه السلام) فقلت له: جعلت فداك هذا المولود المبارك قال: نعم يا يحيى، هذا المولود الذي لم يُولد في الإسلام مثله مولودٌ أعظم بركة على شيعتنا منه» [الكافي ج6 ص360]، ويتّضح ذلك من خلال الوقوف على دوره (ع) من عدّة جهات:

الجهة الأولى: التمهيد لتقبُّل فكرة إمامة الإمام المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) رغم صغر سنّه:

فمن الواضح أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) تولّى الإمامة وهو ابن خمس سنين فقط، ومع ذلك فقد تلقّى الشيعة ذلك بشكل طبيعيّ جدّاً، ولم يكن صغر سنّه يمثّل عائقاً عندهم في اتخاذه حجّة بينهم وبين الله تعالى والإقرار له بالإمامة جيلاً بعد جيل.

والفضل في تسليمهم هذا وانقيادهم إنّما يرجع بالدرجة الأولى إلى مولانا الإمام الجواد (عليه السلام)، فإنّه لمّا تولّى الإمامة وهو ابن سبع سنين كان قد واجه بنفسه ردّة فعل الشيعة وخفّف الصدمة التي صعقتهم، بعد أن كان المرتكز في أذهان الغالبيّة العظمى منهم أنّ إسناد الإمامة لا يكون إلّا للكبير في السنّ، ولعلّ منشأه أنّ جميع الأئمّة الذين سبقوا الإمام الجواد (عليه وعليهم السلام) كانوا قد تجاوزوا سنّ التكليف الشرعي بكثير؛ إذ أصغر من تولّاها سابقاً هو الإمام الكاظم (عليه السلام) حيث كان في سنّ العشرين، وبالتالي فإسنادها لمن هو في سنّ السابعة لم يكن معهوداً عندهم؛ لذا توهّموا عدم إمكانه فضلاً عن وقوعه، وكان تلقّيهم لإمامة الصغير بالقبول والرضا والتسليم أمراً صعباً يحتاج إلى جهد وعمل على عدّة أصعدة، وهذا ما تكفّل به إمامنا الجواد (عليه السلام) وأنجزه على أتمّ وجه؛ حيث استطاع إثبات إمامته ومرجعيّـه بأدلّة تورث القطع واليقين لا للشيعة فقط بل حتّى للعامّة بعلمائها وسلطتها، وشهد له بذلك ما صدر عنه من العلم وفي مختلف المجالات من التفسير والحديث والفقه والعقيدة وتاريخ الأنبياء والأمم وغير ذلك، فضلاً عن مناظراته العديدة التي أفحم فيها الخصوم [ينظر: الاحتجاج ج2 ص238]، وهو ممّا جعل معاصريه من علماء المذاهب الأخرى يقرّون له بالعلم والفضل، بل أثار سطوع نجمه (عليه السلام) دهشة الخليفة المعتصم فراح يعقد له المناظرات بنفسه وفي قصر الخلافة، فما ازداد أمره إلّا ظهوراً، حتّى خشي المعتصم وبنو العبّاس على سلطانهم من الإمام، فراحوا يجهدون في محاولات تأطير نشاطات الإمام والحدّ منها عن طريق مؤامرة تزويجه بأمِّ الفضل بنت المأمون، لكنّ نور الإمامة لم يزل يسطع من جبين الجواد (عليه السلام)؛ لذا لم يجد المعتصم بدّاً من التخلّص منه عن طريق الاستعانة ببنت أخيه لتقوم بقتله (عليه السلام) بالسمّ، فكان ذلك.

وأمّا كيفيّة رجوع الفضل للإمام الجواد (عليه السلام) في التمهيد لقبول إمامة المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) على صغر سنّه فهو أنّ الظروف السياسيّة والأمنيّة التي أتيحت له لم تكن متاحة لحفيده الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)، فقد كان مجرّد الكشف عن مكان تواجده يمثّل خطراً يودي بحياته ويقضي على مشروعه كمصلح عالميّ منتظر! فلو لم يمهّد الإمام الجواد (ع) لقبول فكرة إمامة الصغير لعاش الشيعة اضطراباً فكريّاً وأزمة عقديّة لا تحمد عقباها ولا يعلم حجم أضرارها إلّا الله، وبذلك يثبت لنا أحد أهمّ الدلائل على كون وجوده أعظم بركة على الشيعة كما تقدّم في الحديث.

الجهة الثانية: صيانة عقيدتي التوحيد والعدل الإلهيّين من الانثلام:

بعد التلاقح الحضاريّ والثقافيّ الذي حصل بين المسلمين والقادمين الجدد من غير العرب إلى الإسلام، وانتعاش حركة الترجمة في العصر العباسيّ ولا سيّما لكتب المذاهب الفلسفيّة برزت في الأوساط الإسلاميّة حركة الزندقة وكان الزنادقة يخالطون المسلمين ويعيشون بينهم، وعلى صعيد متّصل تسيّدت الساحة العقديّة بشكل ملفت للأنظار عدّة فرق كلاميّة إسلاميّة انحرفت في توجّهاتها العقديّة عن خط التوحيد أبرزها المفوّضة الذين وقعوا في حدّ التعطيل للذات المقدّسة وسلبوا عنها القدرة، ثمّ المجبّرة الذين نسبوا أفعال المخلوقين كلّها إلى الله حتّى لزم من ذلك نسبة الظلم إليه تعالى، ثمّ المجسّمة بقيادة أحمد بن حنبل، فكان لابدّ أن يتصدّى الإمام الجواد (عليه السلام) إلى حياطة عقيدة التوحيد، وحيث أنّ "الناس لو سمعوا محاسن كلام أهل البيت (عليهم السلام) لاتّبعوا هديهم" [ينظر عيون الأخبار ج1 ص275]، فقد كان لأحاديث الإمام تأثيراً كبيراً على الطبقة الواعية والجماعة الصالحة، كما أنّ أحاديثه امتازت بشدّة رصانتها وقوة الأدلّة المطروحة فيها، لذا كانت تلجم أفواه المنظّرين لتلك الفرق والاتّجاهات الفكريّة وتخزيهم أمام الرأي العامّ، فمن تلك الأحاديث مثلاً:

* قوله (عليه السلام) في جواب بعدما سأله عن قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] فقال: «يا أبا هاشم أوهام القلوب أدقّ من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السِنْدَ والهندَ والبلدان التي لم تدخلها، ولا تدركها ببصرك، وأوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون؟!» [الكافي ج1 ص99].

* وفي جوابه لمن سأله: هل يجوز أن يقال عن الله تعالى: إنّه شيء؟ قال (عليه السلام): «نعم، يخرجه من الحدّين: حَدّ التعطيل وحدّ التشبيه» [التوحيد للصدوق ص107].

* وفي جوابه لمن سأله عن معنى (الأحد) في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [التوحيد: 1] قال (عليه السلام): «المجمع عليه بالوحدانيّة، أمَا سمعته يقول: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ}، ثمّ يقولون بعد ذلك: له شريك وصاحبة!» [الاحتجاج ج2 ص238].

* ومنها تثقيفه على مقاطعة أهل العقائد الفاسدة والبراءة منهم، ففي صحيحة عليّ بن مهزيار قال: «كتبت إلى أبي جعفر محمّد بن عليّ بن موسى الرضا (عليهم السلام): جعلت فداك أصلّي خلف من يقول بالجسم ...؟. فكتب (عليه السلام): لا تُصلّوا خلفهم، ولا تُعطوهم من الزكاة، وابرؤوا منهم، برئ الله منهم!» [أمالي الصدوق ص352].

الجهة الثالثة: دفاعه عن عقيدة النبوّة والأنبياء (عليه السلام):

لقد حفل العصر العباسيّ بكثرة ظهور مدّعي النبوّة، حتّى صارت هذه الجريمة ممّا يستأنس به خلفاؤهم ولاسيّما الرشيد والمأمون والمعتصم، بل يبذلون العطايا والجوائز السنيّة لأصحاب الدعاوى [ينظر: مروج الذهب ج3 ص473، المستطرف ج1 ص811]؛ لذا كان من الطبيعي جدّاً أن يقال في حقّ نبيّ من الأنبياء (عليهم السلام) ما يسيء إليه، وهذا ما جعل الإمام (عليه السلام) يبحث عن مثل هذه الإساءات ليتصدّى إليها، كما يستفاد من خبر جعفر بن محمّد الصوفيّ قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) محمّد بن عليّ الرضا (عليه السلام) وقلت له يا بن رسول الله لم سُمّي النبيّ الأمّيّ؟. قال: ما يقول الناس؟. قال: قلت له: جُعلت فداك، يزعمون إنّما سمّي النبيّ الأمّي لأنّه لم يكتب! فقال: كذبوا عليهم لعنة الله، أَنّى يكون ذلك والله تبارك وتعالى يقول في محكم كتابه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} فكيف كان يُعلّمهم ما لا يُحسن؟! والله لقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقرأ ويكتب باثنين وسبعين أو بثلاثة وسبعين لساناً، وإنّما سُمّيَ الأميّ لأنّه كان من أهل مكّة، ومكّة من أمّهات القرى وذلك قول الله تعالى في كتابه: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} » [بصائر الدرجات ص246، علل الشرائع ج1 ص124].

الجهة الرابعة: هدايته الناس إلى الإمامة وخصائص الأئمّة (عليهم السلام):

ورد عن الإمام الجواد (عليه السلام) الكثير من الروايات المرتبطة بالإمامة والولاية، نذكر بعضاً منها:

* ما قاله (عليه السلام) في الإمامة هو تلك الروايات التي ثقّف فيها على تقبُّل فكرة إمامة الصغير، فمنها صحيحة عليّ بن أسباط قال: «قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): يا سيدي إنّ الناس ينكرون عليك حداثة سنّك! قال: وما ينكرون عليَّ من ذلك؟! فوالله لقد قال الله لنبيّه (صلّى الله عليه وآله): {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} فما اتّبعه غير عليٍّ (عليه السلام) وكان ابن تسع سنين! وانا ابن تسع سنين» [تفسير القمّي ج1 ص358].

* ما ورد عن عليّ بن أسباط قال : «رأيت أبا جعفر (عليه السلام) وقد خرج عليَّ فأخذت النظر إليه وجعلت أنظر إلى رأسه ورجليه، لأصف قامته لأصحابنا بمصر، فبينا أنا كذلك حتّى قعد، فقال: يا عليّ إنّ الله احتجّ في الإمامة بمثل ما احتجّ به في النبوّة فقال: {وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} و {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّه} {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبيّ ويجوز أن يؤتاها وهو ابن أربعين سنة» [الكافي ج1 ص384].

* ما نقله (عليه السلام) من لقاء الخضر بأمير المؤمنين (عليهما السلام) وسؤاله إيّاه عن ثلاث مسائل، فأوكل الإمام الإجابة عنها لولده الإمام الحسن (عليه السلام) فلمّا أجاب وانتهى، نطق الخضر بالشهادة لله بالوحدانيّة وللنبيّ (صلّى الله عليه وآله) بالنبوّة، وللأئمّة وقد سمّاهم جميعاً واحداً بعد الآخر بأنّهم الأوصياء وحجج الله على الخلق، ثمّ ودّع انصرف. [ينظر: الغَيبة للنعماني ص66].

* ما رواه عن جدّه الصادق (عليهما السلام) أنّه قال: «والله إنّ أرواحنا وارواح النبيّين لَتوافى العرش ليلة كلّ جمعة فما تُردّ في أبداننا إلّا بجمِّ الغفير من العلم» [بصائر الدرجات ص152].

هذا ما وفّقنا الله تعالى لتحريره في المقام، ختاماً رزقنا الله تعالى وإيّاكم زيارة الإمام (عليه السلام) في الدنيا وشفاعته في الآخرة، والحمد لله ربّ العالمين.