لماذا قتلوا الطفل الرضيع (ع) ولم يقتلوا الحسين (ع)؟!
السؤال: هناك كلامٌ منسوبٌ للإمام الحسين (عليه السلام) أنّه حينما أذن لأصحابه بالفراق ذكر لهم بأنّ الأعداء يستهدفون قتله هو بالذات بحيث لو تمكّنوا منه فلن يتعرّضوا لغيره، والسؤال هو: إذا كان القوم يقصدون قتل الإمام (عليه السلام) فلماذا عندما خرج طالباً الماء لرضيعه، لم يستهدفه المعسكر الأمويُّ واستهدف خصوص الطفل الرضيع (عليه السلام)؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
يتساءل الأخ الكريم عن الغموض الموهِم لوقوع التنافي بين حادثتين منفصلتين من حوادث الطفّ الأليمة بعدما أطبق المؤرّخون وأرباب السيرة والمقاتل على روايتهما:
أمّا الحادثة الأولى: فهي ما وقع ليلة العاشر من المحرّم حين جمع الإمام الحسين (عليه السلام) أصحابه وأهل بيته (عليهم السلام) وخطب فيهم وأَذِن لهم بالمفارقة، فكان ممّا قاله: «.. أَلا وإنّي لأظنُّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإنّي قد أذنتُ لكم جميعاً فانطلقوا في حِلٍّ ليس عليكم منّي ذِمام. هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جَمَلاً وليأخذ كلُّ رجلٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي فجزاكم الله جميعاً، ثمّ تفرّقوا في البلاد في سوادكم ومدائنكم حتّى يفرّج الله، فإنّ القوم يطلبوني ولو أصابوني لَهُوا عن طلب غيري» [تاريخ الطبريّ ج4 ص317، تجارب الأمم ج2 ص75، أمالي الصدوق ص220].
وأما الثانية: فهي خروج الإمام الحسين (عليه السلام) ليستسقي لطفله الرضيع (عليه السلام)، قال سبط ابن الجوزي: (فالتفتَ الحسين فإذا بطفلٍ له يتلظّى عطشاً، فأخذه على يده وقال: «يا قوم، إنْ لم ترحموني فارحموا هذا الطّفل»، فرماه رجلٌ منهم بسهم فذبحه، فجعل الحسين يبكي ويقول: «اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا»، فنُودي من الهواء: «دعه يا حسين، فإنّ له مُرضعاً في الجنّة» [تذكرة الخواص ج2 ص164].
وحينئذٍ قد يتوهّم وقوع التنافي بين الحادثتين المذكورتين حيث أعرض المعسكر الأمويّ عن قتل الإمام الحسين (عليه السلام) مع أنّ الفرصة كانت سانحةً لذلك، وانشغلوا بدلاً عن ذلك بقتل عبد الله الرضيع (عليه السلام).
وفي مقام الإجابة عمّا جاء في السؤال نقول: ليس هنالك أيّ تنافٍ بين الحادثتين على الإطلاق، وبيان ذلك يقع في جهتين:
الجهة الأولى: حول سبب إعراضهم عن قتل الحسين (عليه السلام):
فإنّ من تأمّل في مجريات الأحداث يتبيّن له جيّداً أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد كان يرتدي لامة حربه ومنها الدرع بلا شكّ، ومن الواضح لمن كانت له أدنى معرفة بالحروب في تلك العصور أنّه لو تمّ رشقه بسهمٍ واحدٍ لم يكن كافياً في تحقّق مقتله (عليه السلام)، بل الأمر – عادة - يحتاج إلى أكثر من ذلك.
ويشهد لهذا الأمر ما رواه الشيخ الصدوق في الصحيح بإسناده إلى أبي الجارود وابن بكير وبريد بن معاوية العجليّ، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: «أصيب الحسين بن علي (عليهما السلام) ووُجد به ثلاثمائة وبضعة وعشرون طعنة برمح أو ضمرة بسيف أو رمية بسهم، فرُوي أنّها كانت كلّها في مقدّمه لأنّه (عليه السلام) كان لا يولّي» [الأمالي ص 228].
لكن يبدو أنّ هذه المسألة لم تكن هي السبب الحقيقي وراء إعراضهم عن رميه (عليه السلام) بذلك السهم، بل يوجد هنالك سببان يشكّلان عائقاً أمام إقدام المعسكر الأمويّ على قتله (عليه السلام):
أحدهما: أنّ كلّ واحدةٍ من القبائل المشاركة في المعسكر المعادي كانت تكره التورّط بدم الحسين (عليه السلام) بشكلٍ مستقلٍّ لأنّ الجميع يعلم بأنّ الإقدام على قتل الحسين (عليه السلام) يمثّل مثلبةً وسبّةً وعاراً لا يزول أبد الدهر.
قال الدينوريُّ: (وبقي الحسين (عليه السلام) مليّاً جالساً، ولو شاءوا أن يقتلوه قتلوه، غير أنّ كلّ قبيلةٍ كانت تتّكل على غيرها، وتكره الإقدام على قتله!) [الأخبار الطوال ص258]، وهذا يكشف لنا عن إحاطتهم التامّة بما له (عليه السلام) من عظيم الحرمة وجليل المنزلة عند الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله).
والآخر: هو إدراك المعسكر الأمويّ لشدّة شجاعة الحسين (عليه السلام) فلم يكن أحدٌ منهم يُقدم جهاراً على الاستقلاليّة في ضربه (عليه السلام) بسيفٍ أو رميه برمحٍ، أو حتّى رشقه بسهم، كما لم يذكر أحدٌ من المؤرّخين على الإطلاق أنّ رجلاً منهم قد ناجزه (عليه السلام) في مبارزةٍ فرديّةٍ ومستقلّة، وما ذاك إلّا لما هو معروفٌ عنه من الشجاعة.
ويشهد بهذا ما ذكره بعض عدّوه، فقد قال عبد الله بن عمّار بن يغوث ـ وهو من المعسكر الأمويّ ـ: (... فوالله، ما رأيت مكثوراً قٌتل ولده وأهل بيته وأصحابه، أَربطَ جأشاً منه، ولا أمضى جَناناً، ولا أجرأَ مقدماً. والله، ما رأيتُ قبله ولا بعده مثله، إنْ كانت الرَجّالة لتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المِعزى إذا شدّ فيها الذئب!) [الإرشاد ج2 ص111، تاريخ الطبريّ ج4 ص345].
وبالتالي فإنّ حرملة بن كاهل الأسديّ (لعنه الله) أخسّ وأدنى من أنْ يمتلك الشجاعة فيُقدم على فعل أمرٍ كهذا لوحده، وكان غاية ما في مقدورهم هو الاحتيال في مقاتلته (عليه السلام) واستعمال المكر والغيلة والغدر، فقد جاء في بعض زياراته (عليه السلام): «فلما رأوك ثابت الجأش، غير خائفٍ ولا خاش، نصبوا لك غوائل مكرهم، وقاتلوك بكيدهم وشرهم..» [المزار للمشهديّ ص503].
وأمّا ما قيل: من أنّ سبب عزوفهم عن قتل الحسين (عليه السلام) هو التزامهم بما يسمّى (أخلاقيات الحرب) التي توجب حصول المواجهة بين الخصمين في المعركة وجهاً لوجه، فهو مندفعٌ بأدنى تأمّل؛ فإنّ القوم قد تجرّدوا من سائر الأعراف والقيم الإنسانيّة والأخلاقيّة النبيّلة. كيف لا؟ وقد استهدفوا خفرات الوحي وبنات الرسالة فأرادوا حرق المخيّم على مَن فيه من الأرامل واليتامى أثناء المعركة وعلى حياة الحسين (عليه السلام) حتّى صاح بهم: «يا شيعة آل سفيان! إن لم يكن لكم دينٌ وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم هذه، وارجعوا إلى أحسابكم إنْ كنتم عرباً كما تزعمون...» [اللهوف ص71].
الجهة الثانية: ما يرتبط بالدوافع التي تقف وراء استهداف الأعداء لخصوص الطفل الرضيع بنبلة حرملة بن كاهل الأسديّ (عليه لعائن الله)، ويمكن إجمال تلك الدوافع بأمرين:
أحدهما: أن ذلك كان خوفاً من وقوع الانشقاق في المعسكر الأمويّ بعد حدوث انقسامٍ في المواقف حيال استسقاء الحسين لطفله الرضيع (عليهما السلام)، فإنّ منهم من رقّ قلبه للطفل، وقال: اسقوه شربةً من ماء، ومنهم من قال: لا تسقوه ولا ترحموه، فخاف عمر بن سعد أنْ يدبّ النزاع في صفوف جيشه، فقال لحرملة بن كاهل الأسدي وكان رامياً: اقطع نزاع القوم. فسدَّد حرملة سهمه نحو عنق الصبي، فرماه بسهمٍ فذبحه من الوريد إلى الوريد [ينظر: موسوعة كربلاء ج2 ص148].
وثانيهما: أنَّ قتل الطفل الرضيع (عليه السلام) كان جزءاً من مخطّطٍ متكاملٍ يستهدف القضاء على سائر الذكور من أهل البيت (عليهم السلام)، وخصوصاً ذريّة الحسين (عليه السلام) منهم إرضاءً للحاكم الأمويّ عبيد الله بن زياد (عليه اللعنة) وإشفاءً لغليل طاغيتهم اللعين يزيد بن معاوية. كما لا يبعد أنْ يكون القوم قد فعلوا ذلك نكايةً بالحسين (عليه السلام) وإيلاماً لقلبه الطاهر.
ختاماً هذا ما وفّقنا الله تعالى لتحريره في المقام، والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق