أحْكامُ العَبيدِ ورَجمُ الزَّانِي وشُمولِيةُ الإسْلامِ زمَاناً ومَكَاناً
بَعضُ القَوانينِ الإسْلَاميةِ لا يُمكنُ أنْ تُلائِمَ العَصرَ الحَاليَّ مثلَ أحْكامِ العَبيدِ و رَجمِ الزَّانِي، فكيفَ يَكونُ حَديثُ (حَلالُ مَحمدٍ حَلالٌ إلى يوْم القِيامَةِ...) صَحِيحاً؟ هل يُمكِنُ تَأوِيلُ هذِه الأحْكامِ لِتُلَائمَ العَصرَ الحَاليَّ؟
السَّلامُ علَيكم ورَحمةُ اللهِ وبَركاتُه
في البَدءِ علينا أنْ نُفرِّقَ بينَ ما هو ثَابتٌ لا يَتغيَّرُ في الشَّرِيعةِ ، وبينَ ما هو قَابلٌ للتَّغيِيرِ، ولِنَضرِبَ مِثالاً تَكوِينيّاً ثم نَنتقِلُ لِعالَمِ التَّشرِيعِ، فَالمُعادَلاتُ الرِّياضِيةُ مثلاً، وجَدولُ فيثاغورس، وقَانُونُ الجَاذِبيةِ، والثِّقلُ النَّوعيُّ في المَوجُوداتِ ونَحوُها، هي قَوانينُ ثَابِتةٌ غيرُ مُتغيِّرةٍ، ولم تَتغيَّرْ منذُ آلافِ السِّنِينَ، فكَذلِكَ يُمكِنُ للْمَولى سُبحَانهُ أنْ يُشرِّعَ لنا قَوانِينَ وأحْكاماً شَرعِيةً كُليَّةً تُحمَلُ على مَوضُوعاتِها الخَارِجيةِ، وتُطبَّقُ في كلِّ زَمانٍ ومَكانٍ، ولا تتَأثَّرُ بِعوَاملِ الزَّمانِ والمَكانِ.
ولِنَأخُذَ بعضَ الأمْثلةِ على ذلِكَ:
1- عندَما يَقولُ الشَّرعُ: إنّ الماءَ طَاهِرٌ، وهو لا يَتنجَّسُ إلا إذا تغيَّرَ لَونُه أو طَعمُه أو رَائِحتُه.
فمِثلُ هذا الحُكمِ الشَّرعِيِّ لا يَرتبِطُ بزَمانٍ أو مَكانٍ، ويُمكِنُ تَطبِيقُه في كلِّ زَمانٍ ومَكانٍ، ويَكونُ بِمثَابةِ كُبرَى كُليَّةٍ تَنطبِقُ على مَصاديِقِها أينَما كَانتْ.
2- عندَما يَقولُ الشَّرعُ: إنَّ الخَمرَ حَرامٌ لأنَّه يُذهِبُ العَقلَ ويُهِينُ كَرامةَ الإنْسانِ.
فمِثلُ هذا الحُكمِ الشَّرعيِّ يَبقى سَارِيَ المَفعُولِ في النَّوعِ البشَريِّ ما دامَ الإنْسانُ يَحترِمُ عقلَه ويُرِيدُ الكَرامةَ لِنفْسِه.
3- وعندَما يَقولُ الشَّرعُ: إنَّ الزِّنا مُحرَّمٌ لأنَّه يُفسِدُ الأخْلاقَ ويُهلِكُ الحَرثَ والنَّسلَ.
فمِثلُ الحُكمِ المَذكُورِ يَصلُحُ لكلِّ زَمانٍ ومَكانٍ ما دامَتِ المُجتَمعاتُ تُدرِكُ أهَمِّيةَ الأخْلاقِ والحِفاظَ على الأنْسابِ والبُنيةِ الإجْتِماعيةِ في وُجودِها ودَيمُومتِها.
وهكَذا غَيرُها منَ الأحْكامِ الشَّرعيةِ التِي شَرَّعها الشَّارِعُ وهي تَصلُح لِكلِّ زَمانٍ ومَكانٍ ولا تَتأثَّرُ بِعوَاملِ التَّطورِ التِّقنِي والتكنُلوجِي لِلحيَاةِ؛ لأنَّها أحْكامٌ إما تُحاكِي حَقائِقَ الأشْياءِ بمَا هي، أو تُحاكِي الطَّبِيعةَ البَشرِيةَ بما هي طَبِيعةٌ، وهذا بِخلَافِه في جُملَةٍ منَ الأحْكامِ التي جَعَلها الشَّارِعُ خَاضِعةً لِمُتغَيِّراتِ الزَّمانِ والمَكانِ، وذلِكَ فيما إذا صبَّ الشَّارِعُ الحُكمَ على مَفهومٍ مُعيَّنٍ وكانَ ذلكَ المَفهُومُ واضِحاً، إلا أنَّه لم يُحدِّدْ مِصْداقَه، وكانَ المِصدَاقُ ممّا يتأثَّرُ ويَختَلفُ باخْتلِافِ الزَّمانِ والمَكانِ فهُنا لا بدَّ من مُلاحَظةِ عَامِلَي الزَّمانِ والمَكانِ في عَملِيةِ استِنباطِ الحُكمِ الشَّرعيِّ وصِياغَتِه، ولِنُعطِيَ بَعضَ الأمْثلةِ على ذلِكَ:
1- قوله تعالى: (وأعدُّوا لهُم ما اسْتَطعتُم من قوِّةٍ ومن رِباطِ الخَيلِ تُرهِبونَ به عَدوَّ اللهِ وعَدوَّكُم) الأنفال: 60، فهنا نَجدُ أنَّ الآيةَ قد أوْجَبتْ إعْدادَ كلِّ قوَّةٍ مُمكِنةٍ قِبالَ العَدوِّ، وإذا لَاحظْنا مَفهُومَ (القوة) وَجدْناهُ وَاضِحاً لا يُوجَدُ فيه خَفاءٌ، إلا أنَّ المِصْداقَ يَختلِفُ من زَمانٍ إلى زَمانٍ ومِن مَكانٍ إلى مَكانٍ، ففي الزَّمانِ السَّابقِ كانَ مِصداقُ إعْدادِ القوَّةِ يَتمثَّلُ بِتهْيئةِ السُّيوفِ والرِّماحِ والخَيلِ وما شَاكَلَ ذلكَ، وفي زَمانِنا يَتمثَّلُ بِتهْيئةِ الدَّبابَاتِ والطَّائِراتِ والصَّوارِيخِ ونَحوِها.
2- يقُول تعالى: (وعَاشِروهنَّ بِالمَعرُوفِ) النساء: 19، في هذِه الآيةِ نَجدُ أنَّ مِصدَاقَ المُعاشَرةِ بِالمَعرُوفِ في زَمنِ نُزولِ النَّصِّ قد يَتحقَّقُ بأمُورٍ بَسِيطةٍ من تَهيِئةِ بَعضِ اللَّوازِمِ المَعاشِيةِ وغُرفةٍ وَاحدةِ وما شَابَه ذلِكَ، ولكنَّه في زَمانِنا يَتحقَّقُ بِشكلٍ آخرَ، فهُنا يَنبَغِي مُلاحَظةُ عَاملِ الزَّمانِ والمَكانِ في المُعاشَرةِ بِالمَعرُوفِ.
وهكَذا تَجدُ غيرَ هذِه الأحْكامِ الكَثيرَ ممَّا تَعرَّضتْ له الشَّرِيعةُ حينَ أظْهرَتِ المَفهُومَ فقطْ وتَركَتْ تَحديدَ المِصدَاقِ للعُرفِ بما يُمْليهِ عليه عَامِلَي الزَّمانِ والمَكانِ.
هذِه مُقدِّمةٌ أحْبَبْنا فيها بيَانُ نَوعِ الأحْكامِ في الإسْلَامِ وأنَّها لَيستْ على وَتيرَةٍ وَاحِدةٍ لا تَتأثَّرُ بِعَاملِ الزَّمانِ والمَكانِ.
وبالعَودةِ إلى سُؤالِكُم نَقولُ: بِالنِّسبةِ لِمَوضُوعِ الرِّقَّ وأحْكامِ العَبيدِ فقد جاءَ الإسْلامُ إلى ظَاهِرةٍ كَانتْ مُتدَاولةً ومُنتشِرةً في الجَزِيرَةِ العَربِيةِ وعندَ الأُممِ المُجاوِرةِ، وقد سَعى بكلِّ طَاقَاتهِ لِتخْليصِ النَّاسِ منها، فَقامَ بِتشْريعِ جُملةٍ منَ الأحْكامِ التي تُساعِدُ على القَضاءِ عليْها مِن خِلالِ الحثِّ على تَحريرِ العَبيدِ عن طَريقِ الكُفَّاراتِ ونَحوِها، وعن طَريقِ التَّزوُّجِ من الإمَاءِ وإضْفاءِ الحُرِيةِ عليْهنَّ من خِلالِ أوْلادِهنَّ، وهكذا، حتى انتَهتْ هذِه الظَّاهِرةُ والحَمدُ لِلهِ ولم يُعدُّ لها أيُّ وُجودٍ يُذكَرُ في حَياةِ المُسلِمينَ، وهَذا كلُّه بِفضْلِ الإسْلامِ ونَظرَتِه الإنْسانِيةِ العَالِيةِ لِلبَشرِ، بَينما نَجدُ بَقيَّةَ الأمَمِ لم تَتخلَّصْ من ظَاهِرةِ الرِّقِّ إلا قَبلَ مِائةِ سَنةٍ، فقد اسْتمرَّ الرِّقُّ في إنجلترا حتى سنة 1840، وفي فرنسا حتى سنة 1848، وفي هولندا إلى سنة 1863، وفي أمريكا إلى سنة 1865، ثمّ عُقِد مُؤتمرُ بروكسل فأصْدرَ قَراراً بإلغَاءِ الرِّقِّ في أنْحاءِ العَالمِ، وكانَ ذلكَ سنة 1890، أي قبلَ أقلِّ مِن مِائةِ عامٍ، ومع ذلِكَ لم تَتخلَّصْ هذِه الشُّعوبُ التي تُسمِّي نَفسَها مُتحضِّرةً مْن عَوامِلِ التَّفرِقةِ العُنصُريةِ تَماماً في شُعُوبها، فَتَجدُ هناكَ أمَاكِنَ خَاصَّةَ للبِيضِ لا يَقدِرُ أنْ يَدخُلَها السُّودُ أبداً!!!
أما بالنِّسبةِ لأحْكامِ الزِّنى، فالمَشرِّعُ سُبحانَه وهو الخَبيرُ بالطَّبِيعةِ البَشرِيةِ، والخَبيرُ بِعَواملِ رَدعِها وكَبحِ جِمَاحِها، جاءَ حُكمُه في هذا الجَانبِ عامّاً ومُطلقاً، لم يُقيَّدْ بزَمانٍ أو مَكانِ حتى نَقولَ هو قَابلٌ للتَّغيِيرِ حسبَ الزَّمانِ والمَكانِ كما أسْلَفنا في حقِّ بَعضِ الأحْكامِ، وها هي التَّجرِبةُ أمَامكَ عندَ الشُّعوبِ التي لا تُطبِّقُ أحْكامَ العُقوبةِ الشَّرعِيةَ على الزِّنا أو تُعاقِبُ عليْها بِوَسائلَ خَفِيفةٍ جداً مْن حَبسٍ وما شَاكلَ ذلِكَ لم تَتضَاءلْ ظَاهِرةُ الزِّنا فيها، بل تَفاقَمتْ بِشكْلٍ مُرعبٍ ومُخيفٍ حتى أصْبَحتْ تُهدِّدُ وُجُودَها التَّنمَويَّ وبُنْيتَها الإجْتِماعيةَ لما تَنشُرُه هذِه الظَّاهِرةُ منَ الأوْبِئةِ والأمْراضِ الكَثيرةِ، ولعلَّه لم يَبلُغْك خُروجُ النِّساءِ السويدياتِ في مُظاهَرةٍ ضمَّتْ أكْثرَ مْن مِائةِ ألفِ امْرأةٍ يُطالِبنَ فيها بالْحدِّ منَ الحُريَّاتِ الجِنسَيةِ لِما يُشاهدْنَه منَ الإنْهِيارِ المُرعِبِ للمُجتَمعِ بِسبَبِ شُيُوعِ هذِه الظَّاهِرةِ، فما هو الحلُّ إذنْ، وكيف يُمكنُ تَخلِيصُ المُجْتمعِ من هذا الوَباءِ، وقد جَرَّبوا معه كلَّ عَواملِ الرَّدعِ (غيرُ عُقوبةِ الإسْلامِ) ولم تُجْدِ نفعاً؟!!!
لا يُوجدُ غيرُ العَودةِ إلى خَالقِ الإنْسانِ نَفسِه، العَارفِ بِطَبيعَتِه البَشرِيةِ، والخَبِيرِ بما يَضرُّه ويَنفَعُه، نَأخُذُ الأحْكامَ منه في التَّخلُّصِ منَ هذِه الظَّاهِرةِ، وهو قد بيَّنَ لنا الحُكمَ وطَبيعَتَه، وما عليْنا سُوى تَطبِيقِه حتى تَتخلَّصَ المُجتَمعاتُ والشُّعوبُ من هذا الوَباءِ القَاتلِ والمُدمِّرِ لكلِّ خَيرٍ وفَضِيلةٍ في النَّفسِ البَشَريةِ.
ودُمتُم سَالِمينَ.
اترك تعليق