ما هي موارد الصدق التي معها يستحقّ الإنسان لقب الصدّيق أو الصدّيقة؟!

السؤال: ((ذكرتم في جواب سابق أنّ الصدّيق هو الشخص الصادق على كلّ حال وفي كلّ زمان وفي جميع موارد الصدق التي ذكرها العلماء، فما هي تلك الموارد التي ذكروها؟)).

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم.. يريد السائل الكريم ما تمّت الإشارة إليه في جواب سابق لمركزنا بعنوان (دلالات ومعاني لقب الصدّيقة الثابت للزهراء "عليها السلام")، حيث ذكرنا هناك أنّ للصدق موارد متى اجتمعت في شخص فقد صار صدّيقاً، ومتى تخلّف أحدها لم يكن كذلك، وقبل الوقوف على تلك الموارد لا بدّ من التذكير بتعريف الصدّيق وأنّه: (الشخص الملازم للصدق جدّاً، والمصدّق بآيات الله سبحانه على الدوام، والمذعن للحقّ والحقيقة في جميع الأحوال) [ينظر: الأمثل ج9ص473، تقريب القرآن إلى الأذهان ج1ص503]، وهذا يعني لزوم صدور الصدق والتصديق من قبله وبشكل دائم، وفي جميع الموارد الآتي ذكرها، وإلّا فلا يُعدّ صدّيقاً.

إذا عرفت ذلك فقد ذكر العلماء موارد كثيرة يدور حال الصدّيق فيها بين الصدق والتصديق، ويمكن إجمالها وإرجاع بعضها للبعض الآخر لتكون خمسة، وإليك بيانها:

المورد الأوّل: صدق الإنسان في القول، وقد عرّفوه بأنّه: (مطابقة الخبر للواقع) فالإنسان الصادق هو مَن إذا أخبر بشيء كان إخباره مطابقاً للحقيقة والواقع، ومتى أخبر بخبر كان ذلك هو الحقّ المبين، ويكون الصدقُ في كلامه مَلَكَةً اعتادها بكثرة التكرار ولا يمكنه تركها والتلبّس بالكذب بأي بحال من الأحوال. [يلاحظ: تفسير الأمثل ج9 ص457].

المورد الثاني: الصدق في العمل، بأن يكون عمله تامّاً من جميع الجهات والشرائط والأجزاء، فلا يترك شيئاً من تكاليف الشريعة المقدّسة إلّا وعمل به دهره، ولا يقصّر في شيء منها بأن يوقعه على وجه النقصان أو الخلل، كما أنّه لا يأتيها على حال من الجزع أو الكسل أو المنّة أو غير ذلك من القوادح مهما اقتضى الأمر. [انظر: التحقيق في كلمات القرآن الكريم ج6 ص215].

المورد الثالث: الصدّق في الاعتقاد وإظهاره، أيْ أن يكون اعتقاده مطابقاً للواقع النفس أمري، وما يُظهره منه مطابقاً تماماً لما يبطنه ولما انطوى عليه قلبه، من دون أن يزول عن ذلك مهما كانت النتائج. فالصدّيق إنسان صادق جدّاً مع الله عزّ وجلّ، من خلال تصديقه بآياته تعالى، وإذعانه للحقّ والحقيقة[تفسير الأمثل ج9 ص493]، وكذلك هو مع الناس فإنّه بريء طاهر من النفاق لا يظهر لهم شيئاً محموداً ويُخفي عنهم آخر قبيحاً، وهو ثابت على ذلك كلّه مهما كلّفه من تبعات، فمثلاً إبراهيم (عليه السلام) قال بالتوحيد وهو لوحده في وسط عالَمٍ وثنيٍّ بجميع أفراده، فحاجَّ أباه وقومه، وقاوم طاغية بابل الملك النمرود، وحطّم الأصنام وثبت على جميع ذلك حتّى ألقي في النار فلم يخالف ظاهره لباطنه بل ثبت على عقيدته التي يضمرها في قلبه؛ فأنجاه الله تعالى.[ انظر: المصدر السابق ج3 ص317].

المورد الرابع: الصدق في العِدّة، أو فقل: الصدق في القول الإنشائيّ. والمراد بذلك هو: مطابقة قوله لصميم نيّته القلبيّة، ولما يعزم على فعله مستقبلاً، فإنّ من أكمل صفات الإنسان صدقه في وعوده وعهوده، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب:23]، كما أنّ من أقبحها عند الله أن يخلف الإنسان ما التزم به، بأن يقول ما لا يفعل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (*) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}[الصفّ: 2-3]، وقال عزّ وجلّ أيضاً: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (*) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (*) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[التوبة:75-77]، والإنسان الصدّيق يُدرك مدى هذا القبح جيّداً؛ لذا فهو يربأ بنفسه عنه، فيقول ما يفعل ويفعل ما يقول بلا مناقضة بين قوله وفعله[ينظر: تفسير الميزان ج14 ص56].

المورد الخامس: الصدق في الكشف واليقين، والمراد بذلك أنّ (الصدّيق) يُصدّق بكلّ ما يراه عن ربّه؛ لأنّه لا يرى عن ربّه إلّا ما كان حقّاً وصدقاً، فهو يشاهد حقائق الأشياء[ينظر: تفسير الميزان ج4ص408]، ويرى الناس على حقيقتهم بحيث تستوي عنده صورتهم الباطنة مع صورتهم الظاهرة، ويرى أفعالهم كما هي عليه من حُسن أو قُبح، فلا يغتشّ في جميع ذلك، ولا يجهل شيئاً من حقائق هذا الكون وما فيه، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[الأنعام:75} أي أراه أسرار الملكوت كلّها حتّى كيفية إحياء الموتى حيث وقف عليها بنفسه[يلاحظ: تفسير الميزان ج2 ص370].

وهكذا في رؤية الشخص الصدّيق لحقائق الناس وأفعالهم، ففي مثال يوسف الصدّيق (عليه السلام) وحادثته مع زليخة يقول تعالى:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[يوسف:24] بمعنى أنّ الله تعالى أفاض عليه رؤية الحقائق كما هي؛ فكان(عليه السلام) يرى الصورة الظلمانيّة الباطنيّة لحقيقة زليخة وكان الناس يرونها في ظاهرها بارعة الجمال، وكان يرى قُبح ما دعته إليه وكان غيره يراه لذّة ومتعة، فهو بواسطة هذه الرؤية المفاضة عليه من ربّه استعصم عن إجابتها إلى ما تريد، ولو لم يكن يمتلك هذه الرؤية لَهَمَّ بها كما همَّت به على السواء[انظر: تفسير الأمثل ج7 ص180].

ومن هنا كان الصدّيق مصدّقاً لما يراه في منامه؛ لأنّه لا يرى إلّا ما كان صدقاً وحقّاً، كما في حادثة إبراهيم ورؤيا ذبح ولده إسماعيل (عليهما السلام)، فإنّه لم يراجع ربّه ويستفهم منه عمّا رآه وهل أنّه حقّ أم باطل؟!؛ لأنّه يعلم أنّه لا يرى إلّا الحقّ والصدق، وحينئذٍ لا ثمرة من المراجعة فلن ينكشف له أكثر ممّا رآه من حقّ وحقيقة؛ لذا قال تعالى في مدحه: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (*) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[الصافّات: 104-105].

وإلى هذا المعنى ألمح الشيخ جواد الكربلائيّ عند حديثه عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بقوله: (إنّ الإمام "عليه السّلام" له مقام العنديّة للَّه تعالى، وهو مقام لم يُحجب عنه شيء من حقائق الأمور؛ ولهذه الجهة قال أمير المؤمنين "عليه السّلام": «لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً») [شرح الزيارة الجامعة ج5ص273].

وبالعود إلى السيّدة الزهراء (عليها السلام) فقد ثبت صدقها في كشفها ورؤيتها للأشياء على طبيعتها، وفي علمها بأفعال العباد بما لها من صفة الحُسن أو القُبح، ورؤيتها للناس على ما هم عليه من حقيقة وصورة باطنة، ومن هنا صدقت منزلتها عند ربّها بأن كان لها مقعد صدق عنده تعالى تجلّى هذا المقعد بعدّة مقامات من أهمّها: مقام اقتران الرضا والغضب الإلهيّين برضاها وغضبها كما في الحديث الذي رواه العامّة والخاصّة من قول رسول الله(صلّى الله عليه وآله) لها (عليها السلام): «إنّ اللهَ يغضبُ لغضبِكِ ويرضى لرضاكِ » [ الإصابة لابن حجر ج8 ص265، تهذيب الكمال للمزّي ج35 ص250، المستدرك ج3 ص154، وقال فيه الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه]. فإنّ الحقّ سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وهو علّام الغيوب الخبير بأعمال عباده وهو الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه فكان أقرب إليه من حبل الوريد، وبالتالي فلا يحسُن أن يقرن رضاه وغضبه برضا وغضب إنسان محدود في كيانه وقدراته ومعرفته، إلّا إذا كان ذلك الإنسان على قدر ومنزلة عظيمة عنده تعالى تؤهله لمعرفة كلّ شيء كما هو وكما يعلمه الله تعالى!.

وبعبارة أخرى فإنّ هذا الحديث النبويّ يكشف لنا عن ثلاثة أمور:

الأوّل: دلالته على عظيم منزلة فاطمة (عليها السلام) عند الله تعالى.

الثاني: دلالته على عصمتها (عليها السلام)، وإلّا لما حصل هذا القَرن منه تعالى.

والثالث: دلالة الحديث على أنّ الله تعالى قد خصّها (عليها السلام) بعلمٍ لَدُنِّي كشف لها به الحُجُبَ عن ملكوته نظير كشفه تعالى لأبيها إبراهيم الخليل الصدّيق(عليه السلام)، فهي لا تشتبه عليها طبيعة مخلوقاته على الإطلاق، بل تراها كما هي في علمه تعالى.

وكذلك كشف لها بواسطته عن كلّ إنسان فصار يستوي عندها ظاهره وباطنه فتراه على حقيقته، وعن كلّ فعل فإنّها تعلم حسنه أو قبحه كما هو، تماماً كما كشف ليوسف الصدّيق (عليه السلام) عن ذلك؛ وإلّا فلو كانت الحقائق تشتبه عليها - وحاشاها من ذلك - فلربّما رضيت عمّن لا يستحق رضا الله أو غضبت على من لا يستحق غضبه، أو ربّما رأت الحقّ باطلاً والباطل حقّاً والحسن قبيحاً أو بالعكس، وحينئذٍ يقبح في الحكمة والعدل أن يقرن الله تعالى رضاه برضاها وغضبه بغضبها؟!

أمّا اتّصافها ببقيّة موارد الصدق التي تقدّمت فهذا ممّا يمكن استكشافه من جهتين: إحداهما: هذا المورد الخامس فإنّه أعظم الموارد على الإطلاق ويدلّ بثبوته على ثبوت جميع ما سبقه من الموارد من باب أولى. والأخرى: سيرتها العطرة التي يضيق المقام عن ذكر ما فيها من الدلائل الكثيرة على كونها صدّيقة بكلّ ما لهذه الكلمة من معاني ودلالات وضعيّة أو استعماليّة، هذا ما وفّقنا الله تعالى إليه من الجواب.. والحمد لله ربّ العالمين.