حقيقة المسجد الأقصى..

كيفَ أسرى بالرّسولِ مُحمّد -صلّى اللهُ عليهِ وآله- إلى المسجدِ الأقصى وصلّى بالأنبياءِ معَ أنَّ المسجدَ الأقصى تاريخيّاً بناهُ عبدُ الملكِ بنُ مروان؟

: السيد أبو اَلحسن علي الموسوي

الجوابُ:

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرحيم،

وقعَ خطأ قديمٌ بينَ المُسلمين في تحديدِ موضعِ المسجدِ الأقصى المُبارك فظنَّ الكثيرُ مِنهم أنَّ المبنى ذا القبّةِ الذهبيّةِ (قبّةِ الصخرة) هوَ المسجدُ الأقصى وظنَّ آخرونَ أنَّ (الجامعَ القبلي) هوَ المسجدُ الأقصى.

وهذا توهّمٌ كبير، وذلكَ لأنَّ قبّةَ الصّخرةِ والجامعَ القِبلي يعتبرانِ جزآنِ داخلَ المسجدِ الأقصى، فالمسجدُ الأقصى هوَ المكانُ المُسوّرُ الذي يحيطُ بالجامعِ القِبلي وقبّةِ الصّخرة، فهوَ أوسعُ وأشملُ مِنهما.

فلا يستطيعُ الكثيرُ منَ الناسِ التفرقةَ بينَ المسجدِ الأقصى وقبّةِ الصّخرة والجامعِ القبلي!

أمّا مسجدُ قبّةِ الصّخرة، فقد بناها الخليفةُ عبدُ الملكِ بنُ مروان الأموي، وبدأ في بِنائِها عامَ 66 هجريّ الموافق 685 ميلاديّ، وانتهى مِنها عامَ 72 هجريّ الموافقِ 691 ميلادي. جنباً إلى جنبٍ معَ قبّةِ الصّخرة، وتواصلَت في عهدِ ابنِه الوليدِ بنِ عبدِ الملك حتّى عامَ 96 هـ الموافقِ 715.

حيثُ بدأ البناءُ الأمويّ للمسجدِ الأقصى ببناءِ قبّةِ الصّخرة وهيَ عبارةٌ عن قبّةٍ ذهبيّةٍ فوقَ الصّخرةِ المُشرّفةِ الواقعةِ في قلبِ الأقصى (في مُنتصفِ المسجدِ أقرب إلى الغربِ قليلاً)، والتي تمثّلُ أعلى نقطةٍ في جبلِ بيتِ المقدس، ويعتقدُ أنَّ معراجَ النبيّ محمّد إلى السماءِ تمَّ منها، لتكونَ قبّةً للمسجدِ كاملاً.

ففي تاريخِ ابنِ خلدون: 2 ق 1/ 226: جاءَ (وفي سنةِ خمسٍ وستّينَ منَ الهجرةِ زادَ عبدُ الملكِ في المسجدِ الأقصى وأدخلَ الصّخرةَ في الحرم).

وفي الروضِ المعطار/ 119: (بنى عبدُ الملكِ بنُ مروان مسجدَ بيتِ المقدسِ سنةَ سبعين، وحملَ إلى بُنيانه خراجَ مِصر سبعَ سنين، وبنى القبّةَ على الصّخرةِ وجعلَ على أعلى القبّةِ ثمانيةَ آلافِ صفيحةٍ مِن نُحاس مطليّةٍ بالذّهب، في كلِّ صفيحةٍ سبعةُ مثاقيلَ ونصفٍ مِن ذهب، وأفرغَ على رؤوسِ الأعمدةِ مائةَ ألفِ مثقالٍ ذهباً وخارجُ القبّةِ كلّها ملبّسٌ بصفائحِ الرّصاص، وطولُ مسجدِ بيتِ المقدِس بالذراعِ الملكي ويقالُ إنّه ذراعُ سُليمان (عليهِ السلام) وهوَ ثلاثةُ أشبار سبعمائةٌ وخمسٌ وخمسونَ ذراعاً، وفيهِ منَ الأساطينِ ستّمائةٌ وأربعٌ وثمانونَ أسطوانةً، والعمُدُ التي في قبّةِ الصخرةِ ثلاثونَ عموداً، وفيه خمسةُ آلافِ قنديل).

وفي النجومِ الزّاهرة: 1/ 188: (وسببُ بناءِ عبدِ الملكِ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ الزّبير لمّا دعا لنفسِه بمكّةَ فكانَ يخطبُ في أيّامِ منى وعرفةَ وينالُ مِن عبدِ الملك، ويذكرُ مثالبَ بني أميّة ويذكرُ أنَّ جدّه الحكمَ كانَ طريدَ رسولِ اللهِ ولعينَه، فمالَ أكثرُ أهلِ الشامِ إلى ابنِ الزّبير فمنعَ عبدُ الملكِ الناسَ منَ الحجِّ فضجّوا، فبنى لهُم القبّةَ على الصخرةِ والجامعَ الأقصى ليصرفَهم بذلكَ عن الحجِّ والعُمرة فصاروا يطوفونَ حولَ الصخرةِ كما يطوفونَ حولَ الكعبةِ وينحرونَ يومَ العيدِ ضحاياهم وصارَ أخوهُ عبدُ العزيزِ بنُ مروان صاحب مصر يعرفُ بالناسِ بمِصر ويقفُ بهم يومَ عرفة.... وقد بنى عبدُ الملكِ قباباً للحجِّ في الأمصار)!

وفي سمطِ النّجوم/ 1001: (فبنى عبدُ الملكِ قبّةً على صخرةِ بيتِ المقدسِ ومساجدِ الأمصار).

وربّما كانَ يحجُّ هو إلى الصّخرة! (تاريخُ دمشق: 37/ 136، و: 70/ 164).

وأمّا الجامعُ القبلي فأوّلُ مَن بناهُ عُمر بنُ الخطّاب عام 15 هـ الموافقُ 636م، لمّا دخلَ القدسَ بعدَ فتحِ فلسطين قالَ: «اللهُ أكبر، هذا المسجدُ الذي وصفَه لنا رسولُ الله ﷺ»، وكانَ في تلكَ الأيّامِ عبارةً عن هضبةٍ خاليةٍ في قلبِها الصخرةُ المُشرّفة، فأمرَ عمرُ بنُ الخطّاب ببنائهِ وهوَ موقعُ «الجامعِ القبلي» اليوم، ويقعُ في الجنوبِ في جهةِ القبلة (1).

وقد ذكرَ (لي سترانج) بأنَّ المؤرّخَ الرّومي ثيوفانوس (751 - 818م) قد وصفَ المسجدَ الذي بناهُ عُمر فقال: "إنَّ الخليفةَ عُمر بنَ الخطّاب بدأ يبني مسجدَه في منطقةِ الهيكلِ سنةَ (22هـ / 643م)، لهذا ظلَّ الغربيّونَ والنّصارى عامّةً يطلقونَ اسمَ (مسجدِ عُمر) على المسجدِ الأقصى، مع أنَّ (مسجدَ عُمر) عندَ المُسلمين هوَ المسجدُ الصّغيرُ المقامُ أمامَ كنيسةِ القيامةِ على المكانِ الذي صلّى فيه عُمرُ بنُ الخطّاب عندَما فتحَ القُدس (2).

وأمّا المسجدُ الأقصى المعروف باسمِ بيتِ المقدس، فهوَ أحدُ أكبرِ مساجدِ العالم ومِن أكثرِها قُدسيّةً للمُسلمين، ويشدُّ الرّحالُ إليها وفقَ سُنّةِ رسولِ الله، وهوَ أيضاً أولى القِبلتين، وثالثُ الحرمين.

حيثُ يقعُ المسجدُ الأقصى، داخلَ البلدةِ القديمةِ بالقُدسِ الشريف بدولةِ فلسطين، وهوَ كاملُ المنطقةِ المُحاطةِ بالسّور .. والجامعُ القبلي، ومسجدُ قبّةِ الصّخرة، مبنيّتانِ على أرضِ المسجدِ الأقصى (بيتِ المقدس).

ولم يتّفِق المُسلمونَ على أنَّ النبيَّ مُحمّد -صلّى اللهُ عليهِ وآله- أسريَ به لنفسِ المسجدِ المعروف بــ «الجامعِ القبلي» ولم نجِد مِن أصحابِنا الإماميّةِ مَن قالَ إنَّ هذا المسجدَ «الجامعَ القِبلي» أسريَ لهُ النبيّ -صلّى اللهِ عليهِ وآله- وعليهِ فإشكالُ المُستشكلِ مُنتفٍ فالمرويُّ عن أئمّةِ أهلِ البيت –عليهم السلام- قولان:

الأوّلُ: قيلَ: الأقصى هوَ بيتُ المقدس، لأنّهُ لم يكُن حينئذٍ في زمانِ النبيّ -صلّى اللهُ عليهِ وآله- مسجدٌ غيرُه وهوَ مسجدُ سُليمانَ بنِ داود... وإنّما قيلَ له الأقصى، لبُعدِ المسافةِ بينَه وبينَ المسجدِ الحرام" (3).

والثاني: قيلَ: هوَ البيتُ المعمور في السماءِ أسريَ إليهِ النبيّ –صلّى اللهُ عليهِ وآله- أي إلى ملكوتِ المسجدِ الأقصى الذي هوَ في السّماءِ. (4).

وأمّا مُفسّرو أهلِ السنّةِ فكثيرٌ منهم ذهبَ إلى أنّ المسجدَ الأقصى هوَ بيتُ المقدسِ نذكرُ بعضَ أقوالهم:

قالَ أبو الفرجِ عبدُ الرّحمنِ بنُ عليّ بنِ محمّدٍ الجوزي (المُتوفّى: 597هـ): وأمّا المسجدُ الأقصى فهوَ بيتُ المقدسِ وقيلَ له الأقصى لبُعدِ المسافةِ بينَ المسجدينِ ومعنى ( بارَكنا حولَه ) أنَّ اللهَ تعالى أجرى الأنهارَ وأنبتَ الأشجارَ وقيلَ إنّه مقرُّ الأنبياءِ ومهبطُ الملائكةِ قالَ أبو هريرة دخلَ بيتَ المقدسِ وصلّى فيهِ بالأنبياءِ ثمَّ عرجَ به إلى السماءِ واعلَم أنَّ الإسراءَ كانَ إلى بيتِ المقدسِ والمعراجَ مِن هنالكَ إلى السّماءِ وإنّما جُعلَ كذلكَ لأربعةِ فوائدَ الفائدةُ الأولى أنّه لو أخبرَ بصعودِه إلى السماءِ في بدءِ الحديثِ لاشتدَّ إنكارُهم ولو وصفَها لهُم لم يكُن عندَهم علمٌ بذلكَ فلمّا أخبرَهم ببيتِ المقدسِ ووصفَه لهم دلَّ صدقُه في ذلكَ على صدقِه في حديثِ المعراجِ وفي الصّحيحينِ مِن حديثِ جابرِ بنِ عبدِ الله عن النبي {صلّى اللهُ عليهِ وسلّم} أنّه قالَ لمّا كذّبتني قُريش قمتُ في الحجرِ فجلّا اللهُ لي بيتَ المقدسِ فطفقتُ أخبرُهم عن آياتِه وأنا أنظرُ إليه. وروى عروةُ عن عائشةَ قالت لمّا أسريَ برسولِ الله {صلّى اللهُ عليهِ وسلّم} أصبحَ يُحدّثُ الناسَ بذلكَ فسعى رجالٌ منَ المُشركين إلى أبي بكرٍ فقالوا هل لكَ في صاحبِكَ يزعمُ أنّه أسريَ به إلى بيتِ المقدسِ قالَ وقد قالَ ذلك قالوا نعَم قالَ إن كانَ قالَ ذلكَ لقد صدَق .. (5).

وقالَ في تفسيرِه: فأمّا المَسجِدُ الأَقصَى فهوَ بيتُ المقدس، وقيلَ له: الأقصى، لبُعدِ المسافةِ بينَ المسجدَين.

ومعنى بارَكنا حَولَهُ: أنَّ اللهَ أجرى حولَه الأنهارَ، وأنبتَ الثِّمار. وقيلَ: لأنّه مَقَرُّ الأنبياءِ، ومَهبِطُ الملائكةِ. فروى أبو هريرةَ أنّه دخلَ بيتَ المقدس، وصلّى فيهِ بالأنبياء، ثمَّ عُرِجَ به إِلى السّماء (6).

وقالَ أبو عبدِ الله محمّدٌ بنُ أحمدَ بنِ أبي بكرٍ القُرطبي (المتوفّى : 671 هـ): وأمّا المسجدُ الأقصى فبناهُ سليمانُ عليهِ السلام ؛ كما خرّجَه النسائيّ بإسنادٍ صحيحٍ مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرو. وعن النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم : "أنَّ سُليمانَ بنَ داود عليهِ السلام لمّا بنى بيتَ المقدسِ سألَ اللهَ خلالاً ثلاثةً سألَ اللهَ عزَّ وجل حُكماً يصادفُ حُكمَه فأوتيهِ ، وسألَ اللهَ عزَّ وجل مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ مِن بعدِه فأوتيه ، وسألَ اللهَ عزَّ وجل حينَ فرغَ مِن بناءِ المسجدِ ألّا يأتيهِ أحدٌ لا ينهزُه إلّا الصّلاة فيه أن يُخرجَه مِن خطيئتِه كيومِ ولدَته أمّه فأوتيه" (7).

وقالَ أبو القاسم، محمّدُ بنُ أحمدَ بنِ محمّد بنِ عبدِ الله، ابنِ جزي الكلبي الغرناطيّ (المتوفّى: 741هـ): وأمّا المسجدُ الأقصى فهوَ بيتُ المقدسِ الذي بإيلياء، وسمّيَ الأقصى لأنّه لم يكُن وراءَه حينئذٍ مسجدٌ، ويحتملُ أن يريدَ بالأقصى الأبعدَ فيكونُ المقصدُ إظهارَ العُجبِ في الإسراءِ إلى هذا الموضعِ البعيدِ في ليلةٍ (8).

والحمدُ للهِ أوّلاً وآخراً..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- المدخلُ إلى دراسةِ المسجدِ الأقصى المُبارك، عبدُ اللهِ معروف، ص90-96، دارُ العلمِ للملايين، ط2009.

2- الواقدي: فتوحُ الشام، 1/ 242. الطبريّ: 1/ 2409، عن رجا بنِ حيوةَ عمَّن شهدَ الفتح. ابنُ البطريق: نظمُ الجواهر، 2/ 170. مجيرُ الدين: الأنسُ الجليل بتاريخِ القُدسِ والخليل، 1/ 367.

3- التبيانُ في تفسيرِ القرآن ج6ص438.

4- تفسيرُ الصافي: ج3: ص 75.

5- التبصرةُ ج2ص34.

6- زادُ المسيرِ في علمِ التفسير ج3ص8.

7- الجامعُ لأحكامِ القرآن ج4ص137.

8- التسهيلُ لعلومِ التنزيل ج1ص440.