ليلة القدر ثابتة أم متغيّرة؟

السؤال: هل ليلة القدر هي ليلة ثابتة لا تتغير، أو أنها متغيرة في كل سنة؟

: - اللجنة العلمية

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لا يخفى أنّ النصوص الواردة في مصادر المسلمين في تعيين ليلة القدر مختلفة، ففي مصادر المخالفين هي مردّدة بين العشر الأواخر من شهر رمضان، بل في كلّه، وفي مصادر الإماميّة هي مردّدة بين التاسعة عشر والحادية والعشرين والثالثة والعشرين.

وقد اختلف علماء المسلمين في سبب اختلاف النصوص في تعيين ليلة القدر على قولين:

القول الأوّل: أنّ الوجه في اختلاف النصوص هو باعتبار أنّ ليلة القدر متنقّلة متغيّرة في كلّ سنة، ففي سنةٍ تكون ليلة التاسع عشر، وفي سنةٍ أخرى ليلة الحادية والعشرين، وهكذا، فكلّ حديث جاء لبيان أحد أوقاتها، فلا تعارض فيما بينها. وبعبارة أخرى: الأحاديث الواردة في تعيين ليلة القدر – رغم اختلافها – هي في مقام البيان الجديّ، وليست في مقام الإجمال والتعمية.

هذا هو مذهب جملة من علماء المخالفين، قال النووي: (قال القاضي: واختلفوا في محلّها، فقال جماعة: هي منتقّلة، تكون في سنة في ليلة وفي سنةٍ أخرى في ليلة أخرى وهكذا، وبهذا يجمع بين الأحاديث ويقال: كلّ حديث جاء بأحد أوقاتها، ولا تعارض فيها، قال: ونحو هذا قول مالك والثوريّ وأحمد وإسحاق وأبى ثور وغيرهم، قالوا: وإنّما تنتقّل في العشر الأواخر من رمضان، وقيل: بل في كلّه، وقيل: إنّها معيّنة، فلا تنتقّل أبداً، بل هي ليلة معيّنة في جميع السنين لا تفارقها) [شرح صحيح مسلم ج8 ص57، المجموع ج6 ص459].

فالسبب في اختيارهم كون ليلة القدر متنقّلة: هو الجمع بين الأحاديث التي وردت في تحديدها في ليالٍ مختلفة من شهر رمضان، فلا طريق – حسب زعمهم - للجمع بين تلك الأحاديث إلّا بالقول بأنّها متنقّلة.

إذن: هذا القول - أي أنّها متنقّلة – ليس عليه دليلٌ، وإنّما هو وجه للجمع بين النصوص، ولكن لا يخفى أنّ وجه الجمع لا ينحصر في القول بأنّ ليلة القدر متغيّرة حسب السنين؛ إذ هناك وجهٌ آخر – كما سيأتي في بيان القول الثاني – هو أحرى بالقبول وأولى بالصحّة.

القول الثاني: أنّ الوجه في اختلاف النصوص هو تعمّد المعصوم (عليه السلام) عدم بيانها بشكل واضح، لتبقى مخفيّة ومعمّىً عليها لبعض المصالح، كما هو الحال في إخفاء الاسم الأعظم وغيره، فربّما تكون المصلحة في إخفائها هو تنشيط المسلمين للتعبّد في عدّة ليالٍ بدل ليلة واحدة، وربّما تكون المصلحة غير ذلك.

وهذا يعني أنّ ليلة القدر ثابتة في كلّ سنة، فلا تتغيّر ولا تتنقّل في السنين، أي لا تكون ليلة الحادية والعشرين في سنةٍ، وليلة الثالثة والعشرين في سنةٍ أخرى، وليلة التاسع عشر في سنة ثالثة وهكذا، بل هي ليلة واحدة ثابتة متعيّنة، والنصوص الواردة في تحديدها إنّما هي في مقام الإجمال والإبهام لتنشيط المسلمين على تحرّيها وفعل الطاعات في مظانّها.

ولنتبرّك في المقام بذكر رواية واحدة: روى الشيخ الطوسيّ بإسناد معتبر عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: « سألته عن ليلة القدر، قال: هي ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين، قلت: أليس إنّما هي ليلة؟ قال: بلى، قلت: فأخبرني بها، فقال: وما عليك أن تفعل خيراً في ليلتين » [تهذيب الأحكام ج3 ص58، الأمالي ص689].

فهذه الرواية واضحة الدلالة على أنّ ترديد الإمام بـ « أو » من باب إبهام الليلة على المخاطب وعدم رغبته في الإفصاح عنها، وهذا ما أكّد عليه – لـمّا سأله عن تعيينها مرّة أخرى – بقوله: « وما عليك أن تفعل خيراً في ليلتين »، أي أنّ الإمام في مقام الإجمال وعدم البيان، وهذا يعني أنّها ليلة واحدة في كلّ سنة.

هذا هو مذهب علماء الإماميّة (أعلى الله كلمتهم)، وبعض علماء المخالفين.

ولَـم أجد مَن ذهب إلى القول بأنّها متغيّرة في كلّ سنة من علماء الإماميّة، ولعلّ ذلك لتسالمهم على ثباتها وعدم تغيّرها، لظهور النصوص الشريفة الواردة في مصادرنا في ذلك؛ لأمور كثيرة، نذكر بعضاً منها:

1ـ عنوان « ليلة القدر » عنوان مشير، فهو يحدّد ليلةً بذاتها واقعاً وإنْ خفيت ظاهراً، كما هو عنوان « الاسم الأعظم » فهو عنوان مشير لاسم محدّد معيّن في الواقع وإنْ كان مخفيّاً عنّا.

2ـ النصوص الشريفة الواردة عندنا في تعيين ليلة القدر وإنْ كانت بعضها تردّدها بين الليالي الثلاث، إلّا أنّ جملةً من النصوص تبيّن أنّها تدور بين ليلة الحادية والعشرين والثالث والعشرين، بل جملة من النصوص تبيّن كونها ليلة الثالث والعشرين، حتّى قال الشيخ الصدوق: (واتّفق مشايخنا – رضي الله عنهم – على أنّها ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان) [الخصال ص354].

3ـ النصوص الشريفة عندنا تحدّد أوصاف الليالي المحتمَلة لليلة القدر، فكلّ ليلة لها وصفٌ معيّن، كما في رواية الشيخ الكلينيّ بإسناد موثّق عن زرارة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): « التقدير في ليلة تسع عشرة، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين » [الكافي ج4 ص159]. فهذا الحديث يفيد أنّ لكلّ ليلة من الليالي المحتملة صفةً محدّدة، لا أنّ الليالي المحتمَلة مشتركة في الأوصاف.