هل ذكر علماء العامّة أنّ فاطمة (عليها السلام) صدّيقة؟!
السؤال: ((هل تمّ ذِكر لقب "الصديقة" في حقّ السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مصادر أهل السنّة؟ وما هي الأسباب التي أدت إلى منحها هذا اللقب في تلك المصادر؟)).
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ السائل الكريم! للإجابة عن سؤالكم لا بدّ من عقد الكلام في مطلبين:
المطلب الأوّل: أنّه من خلال جولة سريعة في بعض مصادر وكتب أبناء العامّة يمكن أن يستفاد اتّصاف مولاتنا فاطمة الزهراء (عليها أفضل الصلاة والإسلام) بكونها صدّيقة، بل الصدّيقة الكبرى من خلال النصوص الصريحة التي رواها بعض علمائهم، فمن ذلك مثلاً:
1- ما رواه الزرنديّ الحنفيّ والعلّامة الآمرتسري الحنفيّ والباعونيّ الشافعيّ والخركوشيّ الشافعيّ والشيرازيّ الشافعيّ عن أبي الحمراء عن النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) أنّه قال لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام): «أُوتيتَ ثلاثاً لم يُؤتهنَّ أحد ولا أنا: أُوتيتَ صهراً مثلي ولم أُوتَ أنا مثلي، وأُوتيتَ زوجة صدّيقة مثل ابنتي ولم أُوتَ مثلها زوجة، وأُوتيتَ الحسن والحسين من صلبك ولم أُوتَ من صلبي مثلهما، ولكنّكم منّي وأنا منكم» [نظم درر السمطين ص149، أرجح المطالب ص238 و 243 و649، جواهر المطالب ج1ص209، شرف المصطفى ج5ص306، توضيح الدلائل ص 243].
2- وروى الحاكم النيسابوريّ بإسناده إلى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: «كانت فاطمة تُسمّى الصدّيقة»، ثمّ قام الحاكم بذكر خمسة أحاديث بطرق مختلفة عن عائشة تصرّح فيها بأنّه لا أحد أصدق لهجة من فاطمة إلّا أبوها رسول الله (صلّى الله عليه وآله). [فضائل فاطمة الزهراء "عليها السلام" ص64]
3- ما نقله القندوزيّ الحنفيّ عن المناقب بالإسناد إلى أبي الزبير المكّيّ عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ (رضي الله عنهما) قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ الله تبارك وتعالى اصطفاني واختارني وجعلني رسولاّ وانزل عليَّ سيّد الكتب. فقلت: إلهي وسيدي إنّك أرسلت موسى إلى فرعون فسألك أن تجعل معه أخاه هارون وزيراّ يشدّ به عضده ويصدّق به قوله، وإنّي أسألك يا سيدي وإلهي أن تجعل لي من أهلي وزيراً تشدّ به عضدي، فاجعل لي عليّاً وزيراً وأخاً، واجعل الشجاعة في قلبه وألبسه الهيبة على عدوّه، وهو أوّل مَن آمن بي وصدّقني، وأوّل من وحّد الله معي، وإنّي سألت ذلك ربّى عزّ وجلّ فأعطاني، فهو سيّد الأوصياء....، وزوجته الصدّيقة الكبرى ابنتي...» [ينابيع المودّة ج1 ص197].
4- ما رواه القندوزي أيضاً نقلاً عن ابن أبي الدنيا قال: «كان زيد بن أرقم عند ابن زياد [وهو ينكت شَفتي الحسين "عليه السلام" بقضيب بيده] فقال له: ارفع قضيبك فوالله لطالما رأيت رسول الله (ص) يُقبّل ما بين هاتين الشفتين، ثمّ بكى زيدٌ. فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك!، لولا أنّك شيخ قد خرفت لضربت عُنقك! فنهض زيد وهو يقول: أيّها الناس إنّما أنتم العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة الصدّيقة المرضيّة وأمّرتم ابن مرجانة الخبيثة، والله لَيَقتُلنَّ خياركم ولَيَستعبدَنَّ شراركم، فبعداً لِمَن رضي بالذلّ والعار... الخبر» [ينابيع المودّة ج3ص26]، فزيد بن أرقم هذا من كبار الصحابة، قال عنه الزركلي: (زيد بن أرقم الخزرجي الأنصاري: صحابيّ، غزا مع النبيّ "صلّى الله عليه [وآله] وسلّم" سبع عشرة غزوة، وشهد صِفّين مع عليٍّ، ومات بالكوفة) [الأعلام ج3ص56]، وكما ترى فهو يخاطب الناس ويصف مولاتنا فاطمة (عليها السلام) بوصف "الصدّيقة" من دون أن ينكر عليه أحد من الحاضرين مقالته بما فيهم ابن زياد (عليه اللعنة).
5- وفي موسوعته الموسومة (فاطمة بنت النبي "ص") قال مؤلفها السلفي الوهابي إبراهيم المديهش: (وجدت لها [أي لفاطمة "ع"] ثلاثة ألقاب: "الصدّيقة والزهراء والبتول"، فأمّا لقب الصدّيقة فقد ورد في أثر عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب رحمه الله [عليه السلام] قال: «كانت فاطمة تُسمّى الصدّيقة» .... ثمّ قام بتضعيف الحديث المذكور، لكنّه عاد واعترف بما حاصله أنّ تضعيف الحديث لا ينفي كونها (عليها السلام) "صدّيقة" فذلك أمر لا شكّ فيه!. قال: ولا شكّ بأنّ فاطمة رضي الله عنها [عليها السلام] صدّيقة! وهي سيّدة نساء أهل الجنّة!، وقد رُوي عن عائشة... أنّها إذا ذكرت فاطمة بنت النبيّ "صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قالت: «ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة منها إلّا أن يكون الذي وَلَدَها») [ينظر: فاطمة بنت النبي ج2ص135].
المطلب الثاني: وهو يتعلّق بما سألتم عنه حول توجيه علماء العامّة لهذا اللقب وبحثهم في أسباب إطلاقه على مولاتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فللأسف الشديد لم نجد في ما بين أيدينا من مؤلّفاتهم مَن يتعرّض لذلك منهم، لكن! من المؤكّد الذي لا يقبل الشكّ أو الجدل أنّ اتصافها (عليها السلام) بكونها "صدّيقة" راجع إلى أفضليّتها على سائر النساء، وهذا ما ذهبت إليه جماعة كبيرة من علماء العامّة، وإليك نُبذاً من تصريحاتهم بذلك:
1- ففي تفضيلها على نساء الأمّة بما فيهنّ زوجات النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال المنّاوي: (قال السبكيّ: "الذي نختاره وندين الله به أنّ فاطمة أفضل ثمّ خديجة ثمّ عائشة ولم يخفَ عنّا الخلاف في ذلك ولكن إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. قال الشيخ شهاب الدين ابن حجر: "ولوضوح ما قاله السبكيّ تبعه عليه المحقّقون...فأفضلهنَّ فاطمة فخديجة فعائشة"... إلى آخر كلامه) [فتح القدير في شرح الجامع الصغير ج4ص555].
2- وفي تفضيلها على نساء العالمين قاطبة قال أبو حيّان الأندلسيّ: (...قال بعض شيوخنا: والذي رأيت ممَّن اجتمعت عليه من العلماء، أنّهم ينقلون عن أشياخهم: أنّ فاطمة أفضل النساء المتقدّمات والمتأخّرات لأنّها بضعة من رسول الله "صلّى الله عليه [وآله] وسلّم") [تفسير البحر المحيط ج2ص477].
3- وفي تفضيلها على نساء الأمّة والعالمين معاً قال المؤرّخ والحافظ الشافعيّ الصالحيّ الشاميّ: (.... وحاصل الكلام السابق أنّ السبكي اختار أنّ السيّدة فاطمة أفضل من أمّها، وأنّ أمّها أفضل من عائشة، وأن مريم أفضل من خديجة. واختار شيخنا [أي السيوطيّ] أنّ فاطمة أفضل من مريم. وقال القاضي قطب الدين الخضريّ في الخصائص بعد أن ذكر في التفضيل بين خديجة ومريم: "إذا علمت ذلك فينبغي أن يستثنى من إطلاق التفضيل سيّدتنا فاطمة ابنة رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، فهي أفضل نساء العالم؛ لقوله صلّى الله عليه وآله] وسلّم: «فاطمة بضعة منّي»، ولا يُعدَل ببضعة رسول الله "صلّى الله عليه [وآله] وسلّم" أحدٌ. وسُئل الإمام أبو بكر عمر ابن إمام أهل الظاهر داود: هل خديجة أفضل أم فاطمة؟ فقال: الشارع قال: «فاطمة بضعة منّي!»[أي أنّها بضعة من الشارع فكيف تتردّدون في أفضليّتها؟!]. قال الشيخ تقيّ الدين المقريزيّ في الخصائص النبويّة في كتابه إمتاع الأسماع: إن قلنا بنبوّة مريم كانت أفضل من فاطمة، وإن قلنا: إنّها ليست بنبيّة احتُمل أنّها أفضل للخلاف في نبوّتها، واحتُمل التسوية بينهما تخصيصاً لهما بأدلّتهما الخاصّة من بين النساء، واحتمل تفضيل فاطمة عليها، وعلى غيرها من النساء، لقوله "صلّى الله عليه وسلّم": «فاطمة بضعة منّي»، وبضعة النبيّ "صلّى الله عليه [وآله] وسلّم" لا يعدل بها شيء، وهو أظهر الاحتمالات لِمَن أَنصف. وقال الزركشيّ في الخادم عند قول الرافعيّ والنوويّ: "وتفضيل زوجاته صلّى الله عليه [وآله] وسلّم على سائر النساء"، ما نصّه: "هل المراد نساء هذه الأمّة أو النساء كلّهن؟ فيه خلاف حكاه الرويانيّ، ويستثنى من الخلاف سيّدتنا فاطمة، فهي أفضل نساء العالم، لقوله "صلّى الله عليه وسلّم": «فاطمة بضعة منّي»، ولا يُعدل ببضعةٍ من رسول الله "صلّى الله عليه [وآله] وسلّم" أحدٌ...) [سبيل الهدى الرشاد ج11ص162]. وهنالك العشرات من موارد كلماتهم التي لا يسع المقام لذكرها، فننصح للوقوف عليها مراجعة كتاب الأرائج المسكيّة في تفضيل البضعة الزكيّة (عليها السلام) حيث أحصى المؤلّف أكثر تلك الموارد مع إرجاعاتها إلى مصادرها الأصليّة، كما يمكن مراجعة جواب سابق لمركزنا على الموقع بعنوان: (دلالات حديث: «فاطمة بضعة منّي»).
والخلاصة من جميع ما تقدّم: أنّه لا ينبغي النقاش في كون منشأ بلوغها (عليها السلام) مقام الصدّيقيّة، واختصاصها بلقب (الصدّيقة الكبرى) هو أفضليّتها على نساء العالمين على الإطلاق، فإنّ ذلك أمر في غاية الوضوح. هذا غيض من فيض، والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق