علم الأئمة (ع) بجميع اللغات

السؤال: هل كان أئمة الهدى (ع) يعلمون جميع اللغات والألسن؟

: السيد أبو اَلحسن علي الموسوي

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

لا شكَّ أنّ النبيّ الأعظم (ص) وأهل بيته الأطهار (ع) قد أكرمهم الله تعالى بأشرف المقامات وأرفع الدرجات، وخصّهم بمخزون علمه وحكمته، فلا يعادلهم عالِـم، ولا لهم مثيل ولا نظير.

ومن جملة خصائصهم وصفاتهم التي امتازوا بها عن سائر الناس: أنّ الله تبارك وتعالى خصّهم (ع) وعلّمهم كلَّ اللغات والألسن.

وليس في اتّصافهم بذلك محذورٌ عقليٌّ ولا شرعيٌّ؛ إذ لا يحكم العقل باستحالة اتّصاف المخلوق بمعرفة جميع اللغات والألسن، كما لَـم يرد في الشرع امتناع ذلك، فهو من الأمور الممكنة عقلاً وشرعاً.

بل ورد في الشرع اتّصاف الأئمّة (ع) بذلك، وهي أحاديث كثيرة جداً، عقد لها قدماء المحدّثين ومتأخّريهم باباً مفرداً بل أبواباً، كما صنع الشيخ الصفّار في [بصائر الدرجات ص353]، والشيخ الصدوق في [عيون أخبار الرضا ج2 ص250]، والعلّامة المجلسيّ في [بحار الأنوار ج26 ص189]، والحرّ العامليّ في [الفصول المهمة ج1 ص414]، وغيرهم، نذكر في المقام بعضاً من تلكم الأحاديث الواردة:

1ـ حديث الإمام الحسن المجتبى (ع):

روى المشايخ الصفّار الكلينيّ والمفيد بالإسناد عن ابن أبي عمير، عن رجاله، عن أبي عبد الله (ع) قال: « إنَّ الحسن (ع) قال: إنّ لله مدينتين: إحداهما بالمشرق، والأخرى بالمغرب، عليهما سورٌ من حديد، وعلى كلّ واحد منهما ألف ألف مصراع، وفيها سبعون ألف ألف لغة، يتكلّم كلّ لغة بخلاف لغة صاحبها، وأنا أعرف جميع اللغات وما فيهما وما بينهما، وما عليهما حجّة غيري وغير الحسين أخي » [بصائر الدرجات ص359، وص513، الكافي ج1 ص463، الاختصاص ص291]. ونقله ابن شهر آشوب والحسن بن سليمان الحليّ في [المناقب ج3 ص176، المحتضر ص186].

2ـ حديث الإمام محمّد الباقر (ع):

روى الشيخ الصدوق بالإسناد عن أبي الجارود قال: « سألت أبا جعفر الباقر (ع): بِمَ يُعرَف الإمام؟ قال: بخصالٍ أوّلها: نصّ من الله تبارك وتعالى عليه، ونصبه علماً للناس حتّى يكون عليهم حجّة؛ لأنّ رسول الله (ص) نصب عليّاً (ع) وعرّفه الناس باسمه وعينه، وكذلك الأئمة (ع) ينصب الأوّل الثاني، وأنْ يُسأل فيجيب، وأنْ يسكت عنه فيبتدئ، ويخبر الناس بما يكون في غدٍ، ويكلّم الناس بكلِّ لسان ولغة » [معاني الأخبار ص102].

3ـ حديث الإمام جعفر الصادق (ع):

روى الشيخان الصفّار والمفيد بالإسناد عن عمّار بن موسى الساباطيّ قال: قال لي أبوعبد الله (ع): «يا عمّار! أبو مسلم فظلله وكساه وكسيحه بساطورا. قال: فقلت له: ما رأيتُ نبطياً أفصح منك بالنبطيّة، فقال: يا عمّار، وبكلّ لسان» [بصائر الدرجات ص353، الاختصاص ص289]. ونقله ابن شهر آشوب في [المناقب ج3 ص347].

4ـ حديث الإمام موسى الكاظم (ع):

روى المشايخ الحميريّ والكلينيّ والمفيد والطبريّ بالإسناد عن أبي بصير، عن أبي الحسن الماضيّ (ع)، قال: « دخلت عليه فقلت له: جعلت فداك، بِمَ يُعرَف الإمام؟ فقال: بخصالٍ: أمّا أولاهنّ: فشيء تقدّم من أبيه فيه وعرّفه الناس ونصبه لهم علماً حتّى يكون حجّة عليهم؛ لأنّ رسول الله (ص) نصب عليّاً (ع) عَلَماً وعرّفه الناس، وكذلك الأئمّة يعرفونهم الناس وينصبونهم لهم حتّى يعرفوه، ويُسأل فيجيب، ويُسكَت عنه فيبتدئ، ويخبر الناس بما في غدٍ، ويكلِّم الناس بكلّ لسان، وقال لي: يا أبا محمد، الساعة قبل أنْ تقوم أعطيك علامة تطمئنّ إليها. فوالله ما لبثت أنْ دخل علينا رجلٌ من أهل خراسان، فتكلّم الخراسانيُّ بالعربية فأجابه هو بالفارسيّة، فقال له الخراسانيّ: أصلحك الله! ما منعني أن أكلّمك بكلامي إلّا أنّي ظننتُ أنّك لا تحسن، فقال: سبحان الله! إذا كنتُ لا أحسنُ أجيبك، فما فضّلي عليك؟ ثمّ قال: يا أبا محمد! إنّ الإمام لا يخفى عليه كلامُ أحدٍ من الناس، ولا طير ولا بهيمة ولا شيء فيه روح، بهذا يُعرَف الإمام، فإنْ لم تكن فيه هذه الخصال فليس هو بإمام » [قرب الإسناد ص339، الكافي ج1 ص285، الإرشاد ج2 ص224، دلائل الإمامة ص337]. ونقله الحسين بن عبد الوهاب والراونديّ وابن شهر آشوب والطبرسيّ والإربليّ في [عيون المعجزات ص89، الخرائج والجرائح ج1 ص333، المناقب ج3 ص416، إعلام الورى ج2 ص22، كشف الغمة ج3 ص16].

5ـ حديث الإمام عليّ الرضا (ع):

روى الشيخ الصدوق بالإسناد عن أبي الصلت الهرويّ قال: « كان الرضا (ع) يكلّم الناس بلغاتهم، وكان - والله - أفصح الناس وأعلمهم بكلّ لسان ولغة، فقلت له يوماً: يا ابن رسول الله، إنّي لأعجب من معرفتك بهذه اللغات على اختلافها، فقال: يا أبا الصلت، أنا حجّة الله على خلقه، وما كان الله ليتّخذ حجّةً على قومٍ وهو لا يعرف لغاتهم، أو ما بلغك قول أمير المؤمنين (ع): أوتينا فصل الخطاب؟ فهل فصل الخطاب إلّا معرفة اللغات » [عيون أخبار الرضا ج2 ص251]. ونقله الطبرسيّ والإربليّ في [إعلام الورى ج2 ص70، كشف الغمة ج3 ص119].

6ـ حديث الإمام الحسن العسكريّ (ع):

روى الشيخ الكلينيّ بالإسناد عن أبي حمزة نصير [نصر] الخادم قال: « سمعتُ أبا محمّد غير مرّة يكلِّم غلمانَه بلغاتهم: ترك وروم وصقالبة، فتعجّبتُ من ذلك وقلتُ: هذا وُلِد بالمدينة ولم يظهر لأحد حتّى مضى أبو الحسن (ع) ولا رآه أحد، فكيف هذا؟ - أحدِّثُ نفسي بذلك -، فأقبل عليَّ فقال: إنّ الله تبارك وتعالى بيّن حجّته من سائر خلقه بكلّ شيء ويعطيه اللغات ومعرفة الأنساب والآجال والحوادث، ولولا ذلك لم يكن بين الحجة والمحجوج فرق » [الكافي ج1 ص509]. ونقله الفتّال النيسابوريّ والراونديّ وابن شهر آشوب والطبرسيّ والإربليّ في [روضة الواعظين ص248، الخرائج والجرائح ج1 ص436، المناقب ج3 ص529، إعلام الورى ج2 ص145، كشف الغمة ج3 ص208].

أقول: هذه باقة من الأحاديث الواردة في معرفة الأئمّة (ع) جميع اللغات والألسن، وتوجد رواياتٌ كثيرةٌ أخرى أعرضنا عنها، قال الحرّ العامليّ – بعد ذكر أحد عشر حديثاً -: (والأحاديث في ذلك كثيرة جدّاً) [الفصول المهمّة ج1 ص418].

ثـمّ أقول: وتوجد أحاديث عامّة – وهي مستفيضة بل متواترة – تدلّ على سعة علمهم (ع)، وهي بإطلاقها تشمل علمهم باللغات، ولهذا قال العلّامة المجلسيّ: (أقول: أمّا كونهم عالمين باللغات فالأخبار فيه قريبة من حدّ التواتر، وبانضمام الأخبار العامّة لا يبقى فيه مجال شكّ) [بحار الأنوار ج26 ص193].

ثـمّ إنّ هناك أدلّة عقليّة أو شواهد اعتباريّة تؤيّد هذه الأحاديث الشريفة:

الأوّل: أنّ حجّة الله تعالى لا بدّ أن يكون عالماً بلغة القوم المحجوجين به وعارفاً بلسان القوم الذين أُرسل إليهم؛ لأنّ اللغة هي وسيلة التواصل بينه وبينهم لبيان الأحكام الدينيّة والمعارف الإلهيّة، والأئمّة (ع) هم حجّج الله تعالى على جميع الناس بل الخلق، فلا بدّ أن يكونوا عالمين بجميع لغات الناس بل الخلق.

وقد أُشير لهذا الوجه في حديث أبي الصلت الهرويّ، قال: « كان الرضا (ع) يكلِّمُ الناسَ بلغاتهم، وكان - والله - أفصحَ الناس وأعلمهم بكلِّ لسان ولغة، فقلتُ له يوماً: يا ابن رسول الله، إنّي لأعجب من معرفتك بهذه اللغات على اختلافها، فقال: يا أبا الصلت، أنا حجّة الله على خلقه، وما كان الله ليتّخذ حجّةً على قومٍ وهو لا يعرف لغاتهم » [عيون أخبار الرضا ج2 ص251].

الثاني: أنّ حجّة الله تعالى لا بدّ أن يكون متميّزاً عن الناس بل الخلق، ومفترقاً عنهم في الصفات الكماليّة، وإلّا لَـم يكن فرقٌ ومائزٌ بينه وبينهم، ومن جملة الفروق العلم باللغات.

وقد أشير لهذا الوجه في حديث الإمام العسكريّ (ع) قال: « إنّ الله تبارك وتعالى بيّن حجّته من سائر خلقه بكلّ شيء ويعطيه اللغات ومعرفة الأنساب والآجال والحوادث، ولولا ذلك لم يكن بين الحجة والمحجوج فرق » [الكافي ج1 ص509].

قال المولى المازندرانيّ: (قوله: «بكلّ شيء» أي بالعلوم والأعمال والأقوال والأخلاق، والحجّة في كلِّ واحد من هذه الأمور أتمّ وأكمل من غيره، ولولا ذلك لم يكن بين الحجّة والمحجوج فرقٌ فيكون هذا حجّة وذاك محجوجاً، ليس بأولى من العكس) [شرح أصول الكافي ج7 ص169].

الثالث: قول العلّامة المجلسيّ: (ومما يؤيّد أنّ الإمام وجب أن يكون عالماً بجميع اللغات: أنّه لو حضر عنده خصمان بغير لسانه ولم يوجد هناك مترجم لزم تعطيل الأحكام، وهو - مع استلزامه تبدّد النظام - يوجب فوات الغرض من نصب الإمام، ولذلك يجب أن يكون الإمام عالماً بجميع الأحكام) [مرآة العقول ج6 ص156]. وقول المولى المازندرانيّ: (يكلِّم كلَّ صنف من الناس بلغتهم من غير حاجةٍ إلى المترجم؛ لئلّا يفوت الغرض عند عدمه، ولا يلحقه النقص بالحاجة إلى الرعية) [شرح أصول الكافي ج6 ص108].

إذن: معرفة الأئمّة (ع) باللغات والألسن ليست من الأمور المستحيلة عقلاً ولا شرعاً، بل هي ممكنةٌ وإنْ كانت خارجةً عن العادة، واختصاص حجج الله تعالى (ع) بما هو خارج عن العادة أمرٌ ثابتٌ، كما ثبت للأنبياء (ع) صدور المعجزات التي هي من خوارق العادة، وقد أثبتناها لهم (ع) حيث دلّ الدليل على ثبوتها، وكذلك بالنسبة إلى معرفة الأئمّة (ع) باللغات، فقد دلّت الأدلّة المفيدة لليقين أو الاطمئنان بأنّ الله تعالى خصّهم بها، وهي الأحاديث المتواترة أو المستفيضة، المؤيَّدة بالدليل العقليّ أو الشاهد الاعتباريّ.

نكتفي بهذا القدر، والحمد لله ربّ العالمين.