التنصيب الإلهي والجبر التشريعيّ
السؤال: من تناقضات بعض المتشيّعة في العلاقة بين الله وبين الكون مالوا إلى عدم تدَخُّل الله في الكون، ولكن في الإمامة التي هي من حق الناس ذهبوا إلى الجبر التشريعيّ وسلب حق الناس وحريتهم!
الجواب:
بدايةً، يتّضح بعد التأمّل في هذا الإشكال أنّه يرتكز على دعويَين اثنتين: الأولى: الشيعة يذهبون إلى القول بالتفويض ونفي التدَخُّل الإلهيّ في شؤون الكون.
والثانية: اعتقادهم بالإمامة يستلزم الجبر التشريعيّ وسلب الإنسان حقّه في الاختيار.
وبناءً عليه، يُراد تصوير الاستدلال على النحو التالي:
بما أنَّ الشيعة يعتقدون بعدم تدَخُّل الله في الكون (وفقاً للدعوى الأولى)، وبما أنّ القول بالإمامة يستلزم تدَخُّلاً إلَّهيَّاً مباشراً في شؤون الأمة (وفقاً للدعوى الثانية)، فيلزم من الجمع بين هذين القولين التناقض في البنية العقائديَّة للمذهب الإماميّ.
لكنّ هذا البناء الاستدلاليّ قائمٌ على مقدّمتينِ باطلتينِ، لا تستندانِ إلى حقيقة معتقد الشيعة، بل هما افتراءٌ محضٌّ ومركّبٌ من فهم مغلوطٍ لمعتقد الشيعة في التوحيد والقدر، ومن إسقاطٍ خاطئٍ لمعنى الجبر على الإمامة كما سيظهر؛ وإذا بطلت المقدمتان، بطل الاستدلال برمّته، وسقط الإشكال من أساسه.
فأمّا التوحيد وفعل الله في الكون، فإنّ العقيدة الإماميّة ترفض الغلو في الجبر بخلاف ما ذهب إليه الأشاعرة القائلين بالجبر، كما ترفض القول بالتفويض المطلق كما ذهب إليه المعتزلة، وتؤمن بمرتبةٍ وسطى عبّر عنها الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله: «لا جبر ولا تفويض، ولكن أمرٌ بين أمرين». والأحاديث في هذا الباب كثيرةٌ يمكن مراجعة الكتب الحديثة مثل: باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين [الكافي ج١ ص١٥٥]، وباب المشيّة والإرادة [الكافي ج١ ص١٦٠، التوحيد ص٣٣٦]، وباب الاستطاعة [التوحيد ص٣٤٤].
وهذا المبدأ هو حجر الأساس في فهم العلاقة بين الله تعالى وعباده، إذ يجعل لله سبحانه السلطان المطلق في الخلق والتدبير، من دون أنْ يُسلب الإنسان مسؤوليته واختياره. فالله هو الخالق، المدبّر، القائم على كلِّ نفسٍ بما كسبت، وكلُّ يومٍ هو في شأن، كما تقول الآيات الكريمة، لكن أفعاله لا تُلغي سننه ولا تسلب المكلَّف قدرته على الفعل والترك. فالمذهب الإماميُّ يُقِرّ بأن لله تدَخُّلاً فعّالاً في الكون، ولكنّه تدَخُّلٌ حكيمٌ يجري وفق السنن لا العبث، وضمن نظام لا يُلغي حرية الإنسان بل يُبقيها في دائرة الاختبار والتكليف.
وقد ذكر السيّد الخوئيّ مثالاً توضيحيّاً لبيان هذه العقيدة عند الإماميّة قائلاً: (لنفرض إنساناً كانت يده شلَّاء لا يستطيع تحريكها بنفسه، وقد استطاع الطبيب أنْ يوجد فيها حركةً إراديَّةً وقتيَّةً بواسطة قوة الكهرباء، بحيث أصبح الرجل يستطيع تحريك يده بنفسه متى وصلها الطبيب بسلك الكهرباء، وإذا انفصلت عن مصدر القوة لم يمكنه تحريكها أصلا، فإذا وصل الطبيب هذه اليد المريضة بالسلك للتجربة مثلا، وابتدأ ذلك الرجل المريض بتحريك يده، ومباشرة الأعمال بها - والطبيب يمده بالقوة في كلّ آن - فلا شبهة في أنّ تحريك الرجل ليده في هذه الحال من الأمر بين الامرين، فلا يستند إلى الرجل مستقلاً ؛ لأنّه موقوفٌ على إيصال القوة إلى يده، وقد فرضنا أنّها بفعل الطبيب، ولا يستند إلى الطبيب مستقلاً؛ لأنّ التحريك قد أصدره الرجل بإرادته، فالفاعل لم يجبر على فعله لأنّه مريد، ولم يفوّض إليه الفعل بجميع مبادئه، لأنَّ المدد من غيره، والأفعال الصادرة من الفاعلين المختارين كلّها من هذا النوع) [البيان في تفسير القرآن ص88].
فالقول بأنّ الشيعة ينكرون تدَخُّل الله في الكون، تهمةٌ باطلةٌ لا أصل لها في مصادرهم، وإنّما تُنسب إليهم زوراً نتيجة الخلط بينهم وبين المفوّضة الذين غلوا في القول باستقلال الإنسان عن المشيئة الإلهيةّ.
هذا بالنسبة إلى الشقّ الأوّل من السؤال وبطلان مقدّمتة الأولى من الاستدلال.
وأمّا بالنسبة إلى الشق الثاني من الاعتراض، فلا بد أولاً من توضيح المقصود بالجبر التشريعيّ.
إنّ الدين (الشريعة) يتضمن عدداً كبيراً من الأوامر والنواهي والتكاليف التعبديّة التي تنظم حياة الإنسان وتوجهها. وهذه التكاليف المحدَّدة والمسبقة الحضور موجودةٌ في جميع الشرائع الإلهيّة؛ إذ لا تخلو شريعةٌ سماويَّةٌ منها. وجميع هذه التكاليف، وُضعت على أساسٍ من القسط والعدل الإلهيّ، وبما يتناسب مع قدرات الإنسان واستعداده.
فالمراد به هو الأوامر والنواهيّ الإلهيّة، فهو إلزامٌ أخلاقيٌّ ودينيٌّ، لا يلغي حرية الإنسان، بل يُمتحن به، فكما أنّ الله أمر الناس بالصلاة والصيام ولم يجبرهم عليها، كذلك أمرهم بطاعة الإمام، ولم يُكرههم على ذلك. ومجرد صدور الأمر الإلهيّ لا يعني سقوط الاختيار، بل هو موضع الاختبار.
وعليه، فإنّ الجبر التشريعيّ لا يشبه الجبر التكوينيَّ؛ فالجبر التكوينيُّ يسلب الإنسان حرية الإرادة والاختيار، والجبر التشريعيّ لا ينفي عن الإنسان قدرته على الاختيار ولا يسلبه إرادته.
وقضية الإمامة يرى فيها الشيعة أنّها منصبٌ إلهيّ، لا ينعقد بالاختيار الشعبيّ ولا بالشورى، بل بالنصّ والتعيين من قبل الله تعالى عن طريق نبيّه الكريم (صلى الله عليه وآله). وهذا لا يعني – كما يتوّهم – أنّ الشيعة يرون فرضاً قهريَّاً على الناس، بل الإمام كالنبيّ، حُجّةٌ من الله على الناس، يُدعى إلى طاعته من باب الأمر الإلهي، ويُترك للناس قبول ذلك أو رفضه، تماماً، كما أنّ الإيمان بالنبيّ لم يكن جبريّاً، بل هو واجبٌ شرعيٌّ يُثاب عليه من التزم، ويعاقب عليه من أعرض.
فالقول بأنَّ الله نصَّب الإمام لا يُلغي حريّة الناس، بل يُلزمهم بالحجّة، كما أُلزموا من قبل بالنبيّ والقرآن والشرع. فهل يمكن لأحدٍ أنْ يقول إنّ بعثة النبيّ تمثل جبراً تشريعياً؟ إنّ هذا خلطٌ بين الإلزام الشرعيّ والإجبار القسريّ، فالثاني مرفوض، أمّا الأوّل فهو من طبيعة التكليف.
ومن الشواهد القويَّة التي تُبطل دعوى الجبر في الإمامة، ما جرى في التاريخ من رفض أغلب الأمة لأهل البيت (عليهم السلام) رغم النصوص الكثيرة عليهم؛ فلو كانت الإمامة جبراً ينافي الحريّة كما يُزعم، فلماذا لم يمنع ذلك الأمة من مخالفة الأئمة وشنّ الحروب عليهم؟ أليس هذا أدلّ دليلٍ على أن الاعتقاد بالنص لا يُلغي واقع الحرية البشريَّة؟
بل أكثر من ذلك، فإن الأئمة (عليهم السلام) لم يسعوا لفرض أنفسهم على الأمة بالقوة، بل غالباً ما اتخذوا موقف الحُجّة والصبر، محتجّين بالنص، ومنتظرين من الناس أن يلتزموا طوعاً لا قسراً، و قال الإمام (عليه السلام): «مثل الإمام كمثل الكعبة» - أيْ يزار و لا يزور -[مناقب ابن المغازليّ ص175].
وعليه، فإن القول بالنص في الإمامة لا يُعد جبريَّاً، بل هو بيان للحجّة الإلهيَّة، وهو من صميم قواعد التشريع، لا من الجبر الذي يُسلب فيه حق الإرادة.
ثمّ إنّ نصّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) على أمير المؤمنين (عليه السلام) – كما في حديث الغدير المتواتر – لا يُعدّ مصادرةً لحقّ الناس، بل هو تبليغٌ إلهيٌّ لما أراده الله، ولم يمنع ذلك جماعةً من الناس أن ينقضوا هذا النص، ويُبايعوا غيره، فهل كانت بيعتهم منفية؟ كلّا، لكنّها كانت مخالفةً للهداية، فالقضية إذاً ليست جبراً ولا إكراهاً، بل بيان للحق، وترك للناس في أن يتبعوه أو يعرضوا عنه.
ثمّ السائل يفترض أنّ الإمامة من حقّ الناس، ثمّ يبني على هذا الفرض أنّ القول بالنصّ الإلهيّ جبرٌ وسلبٌ للحريّة، مع أنّ النقاش هو أصلاً : هل الإمامة من حق الناس أم من حقّ الله؟ فإذا كانت من الله، فليس في تعيينه جبر، فهي مغالطةٌ ومصادرةٌ واضحةٌ من المستشكل، كما أنّها تنطوي على مغالطاتٍ أخرى لم نذكرها خوف التطويل، فهكذا تبطل أيضاً المقدّمة الثانية من الاستدلال.
ومن هنا يتبيّن: أنّ الإشكال المطروح ناتجٌ عن قراءةٍ ساذجةٍ لمعنى الجبر، ومبنيٌّ على تصوّرٍ خاطئٍ لمفهوم الإمامة عند أتباع مدرسة أهل البيت، فليس القول بالإمامة نصَّاً إلهيّاً يناقض حرية الإنسان، بل هو استمرارٌ لمبدأ الهداية الإلهيّة الذي كان في النبوة، ولم يسلب الناس حينها حريتهم، ولن يسلبها في الإمامة.
وعقيدة الشيعة تقوم على التوحيد الحقّ، الذي يجعل لله سلطاناً دائماً في الكون، مع حفظ حرية الإنسان، وهو ما ينسجم مع منطق التشريع والابتلاء. فلا تناقض بين العقيدتين، بل تكاملٌ في فهم السنن الإلهيَّة وهداية الإنسان.
اترك تعليق