معنى تنزيه الله عن الزمان والمكان
السؤال: يرفض بعضهم فكرة وجود الله غير المتناهيّ والمنزّه تنزيهًا تامًّا عن الزمان والمكان، معتبرين أنّه لا يمكن تصوّر «الزمان والمكان» إلّا مع الله تعالى، وبالتالي يرَون وصفه سبحانه باللامحدوديّة خطأً.
الجواب:
إنّ الزعم بأنّ «الزمان والمكان لا يمكن تصوّرهما إلّا مع وجود الله» ينطوي على خلطٍ واضحٍ؛ لأنّ العقل البشريّ لا يتصوّر الزمان والمكان كوجودين مستقلّين، بل يدركهما دومًا في سياق الحركة والتغيّر، أي في إطار وجود المخلوقات، فالزمان عند الإنسان لا يُدرك إلّا من خلال تعاقب الأحداث، والمكان لا يُتصوّر إلّا من خلال الامتداد والموضع الذي تشغله الأجسام. ومن ثمّ، فإنّ إدراك الزمان والمكان في حقيقته مرتبطٌ بوجود الخَلق، لا بالخالق (عزَّ وجلَّ).
والدليل على ذلك أنّ الملحدين أنفسهم - رغم إنكارهم وجود الله تعالى - لا ينكرون الزمان والمكان؛ لأنّهم لا يتصوّرونهما إلّا ضمن إطار العالم الطبيعيّ، لا في إطار وجود الله سبحانه.
وأمّا الله تعالى، الذي هو خالق الزمان والمكان، فالإيمان به لا يصحّ إلّا مع التسليم بتنزيهه عنهما؛ لأنّه لو كان داخلاً فيهما لكان مخلوقًا، محتاجًا إلى ظرفٍ يحتويه. وعليه، فإنّ التصوّر الصحيح هو عكس ما يدّعيه المعترض؛ فبدلًا من القول: «لا يمكن تصوّر الزمان والمكان إلّا مع الله»، الصواب أنْ نقول: «لا يمكن تصوّر الله ضمن الزمان والمكان»؛ إذ إنّ خضوعه لهما يستلزم كونه جزءًا من العالم، لا خالقًا له، وهذا باطلٌ عقلًا ونقلًا.
وإنّ عجزَ الذهن عن تصوّر موجودٍ متعالٍ عن الزمان والمكان هو في ذاته دليلٌ على صحّة هذا النمط من المعرفة بالله؛ إذ لو كان من الممكن تصوّر الله تعالى كما نتصوّر سائر الموجودات؛ لكان مشابهًا لها، والمشابهة تستلزم المخلوقيّة والمحدوديّة؛ وذلك أنّ أدوات الإدراك العقليّ لدى الإنسان نشأت ضمن إطار الزمان والمكان، فلا يمكنها أنْ تتجاوزهما في تصوّراتها؛ ولهذا، فإنّ كلّ ما يندرج ضمن التصوّر العقليّ يبقى من جنس الممكنات، ولا يبلغ مرتبة الواجب المتعالي عن القيود.
وقد أشار الإمام الباقر (عليه السلام) إلى هذه الحقيقة بقوله:
«كلُّ ما ميّزتمُوُه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوقٌ مصنوعٌ مثلكم مردودٌ إليكم»
[بحار الأنوار، ج66، ص293]
فالصورة الذهنيّة ليست سوى أثرٍ من آثار الإدراك المحدود، مردودةٌ إلى أصلها البشريّ، ولا يجوز إسقاطها على ذات الله سبحانه.
ومع ذلك، فإنّ العقل يحكم بضرورة وجود مَن هو خارج هذا الإطار؛ لأنّ الزمان والمكان أنفسهما مخلوقان، ولا بدّ لهما من خالقٍ لا تحيطه قوانينهما. وهكذا، فإنّ تنزيه الله عن الزمان والمكان لا يتعارض مع العقل، بل هو مقتضى العقل ذاته، بينما يؤدّي إنكار هذا التنزيه إلى التناقض المنطقيّ والاضطراب في المفاهيم.
ومن هنا نفهم أنّ العقيدة الإسلاميّة قد تأسّست منذ بدايتها على قاعدةٍ راسخةٍ في تنزيه الله تعالى عن كلّ ما يختصّ بعالم الخلق، وفي مقدّمة ذلك الزمان والمكان. فالله تعالى هو الأوّل الذي لا يسبقه شيء، والآخر الذي لا يلحقه شيء، والظاهر من دون جهة، والباطن من دون بُعد، كما جاء في الحديث الشريف. وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا التنزيه المطلق بقوله:
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾
[الشورى: 11]
وهو نصٌّ جامعٌ ينفي عن الله تعالى أي شَبَه أو مِثل في أيّ جهةٍ من جهات الوجود، بما في ذلك أحكام الزمان والمكان.
ولأهميّة هذا الأصل، أفرد العلماء له بابًا مستقلًّا، كما صنع العلّامة المجلسيّ في [بحار الأنوار، ج3، ص309]، حيث جمع تحت عنوان: (نفي الزمان والمكان والحركة والانتقال عنه تعالى) مجموعةً من الروايات الصريحة في ذلك، ومنها:
ما رواه أبو بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام):
«إنّ الله تبارك وتعالى لا يُوصَف بزمانٍ ولا مكانٍ، ولا حركةٍ ولا انتقالٍ ولا سكون، بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون والانتقال، تعالى عمّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا»
[الأمالي، ص353؛ التوحيد، ص184، كلاهما للصدوق]
وما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):
«إنّ الله عزّ وجلّ أيّنَ الأين فلا أين له، وجلّ من أنْ يحويه مكان، وهو في كلّ مكانٍ بغير مماسّةٍ ولا مجاورةٍ، يحيط علماً بما فيها، ولا يخلو شيءٌ من تدبيره»
[الإرشاد، ج1، ص201؛ الاحتجاج، ج1، ص312؛ متشابه القرآن، ج1، ص70]
وما رُوي عن الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام):
«إنّ الله تبارك وتعالى كان ولم يزل بلا زمانٍ ولا مكان، وهو الآن كما كان، لا يخلو منه مكان، ولا يشغله مكان، ولا يحلّ في مكان، ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلّا هو رابعهم، ولا خمسةٍ إلّا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلّا هو معهم أينما كانوا...»
[التوحيد للصدوق، ص179]
فهذه النصوص تؤكّد أنّ وجود الله سبحانه لا يخضع لأيّ تغيير أو تحوّل، ولا يتقيّد بأيّ ظرفٍ زمانيٍّ أو مكانيٍّ، بل هو المتعالي عن كلّ ما سواه، المحيط بكلّ شيء علمًا وتدبيرًا، دون مماسّةٍ أو حلول.
ولا بدّ من التمييز هنا بين مفهوم الحضور الإلهيّ بمعناه العلميّ والقدَري، وبين مفهوم التحيّز المكانيّ المحدود؛ فالله تعالى حاضرٌ في كلّ مكانٍ بعلمه وقدرته، لا بجسمٍ أو جهة. ولو كان متحيّزًا في مكانٍ ما، لكان محدودًا، وكلّ محدودٍ مخلوق، وكلّ مخلوقٍ ممكن، والممكن لا يكون واجبًا. والله سبحانه واجب الوجود، والفرق بين الواجب والممكن فرقٌ جوهريّ لا يمكن تجاوزه.
في المحصلة، يظهر بوضوح أنّ الزمان والمكان ليسا سوى مخلوقين تابعين لعالم المادة، ولا يمكن تطبيق أيٍّ من صفاتهما على الله تعالى، فهو سبحانه وتعالى متعالٍ عن هذه المفاهيم الماديّة، فلا يُحاط بزمانٍ ولا مكانٍ، ولا يتحدّد بأيَّة حدودٍ أو قيود، والإيمان بالله المتعالي عن قوانين المخلوقات، هو الأساس الثابت للتوحيد الحقيقيّ، ومن دونه تفقد العقيدة صحّتها ويصبح الحديث عن الله محاطاً بالتشبيه والتجسيم الذي لا يجوز.
اترك تعليق