عصمة الأنبياء

إذا كان الأنبياء معصومون من الولادة حتى الوفاة ، فماذا تقولون بهذه الآيات : (وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) و (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وقوله تعالى : (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) ؟

: سيد حسن العلوي

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : 

إنّ القرآن الكريم يحتوي على المحكم والمتشابه قال تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } (آل عمران 7) 

والمتشابه لا يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم ، ولا يجوز العمل بالمتشابه وترك المحكم ، فهذا ما يقوم به الذين في قلوبهم زيغ ، حيث يعملون بالآيات المتشابهة ويتمسكون بها ، ويتركون المحكمات .

ومهما يكن فالمتشابه لا يمكن العمل به على ظاهره ، ولا يجوز تفسيره وتوجيهه بما يخالف المحكم .

وكذلك أفعال الأنبياء فيها المحكم والمتشابه ، فلا بدّ من التأني والرجوع الى المحكمات لتفسير افعالهم المتشابهة .

من المحكمات العقلية والنقلية عصمة الأنبياء ، وأدلتها مذكورة في محلها ، وقد ألّفت كتب في ذلك .

وبناء عليه فكل ما ظاهره الخدشة في عصمتهم ، يعدّ من المتشابهات ، التي لا يجوز اتّباعها والتعبد بها والمصير إليها .

وإليك الجواب عن الآيات التي وقع السؤال عنها : 

 

أما الآية الأولى : فقوله تعالى : { وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [طه 121] 

فنقول : العصيان هو مخالفة الأمر .

قال ابن منظور : والعِصيانُ : خِلافُ الطَّاعَة . عَصى العبدُ ربه إِذا خالَف أَمْرَه . (لسان العرب : 15 / 67) 

والأمر الإلهي تارة يكون على نحو الإلزام والوجوب فيكون أمراً مولوياً ، وأخرى على نحو الإستحباب والإرشاد .

ومخالفة الأمر الإلزامي والمولوي حرام ، وأما مخالفة الأمر الإستحبابي والارشادي فليس بحرام .

وليس في الآية ما يدلّ على أنّ معصية آدم كانت مخالفة الأمر المولوي الإلزامي ، بل كانت مخالفة الأمر الإرشادي والإستحبابي بمعنى : أنّ بقاءه في الجنة مشروط بعدم الأكل من الشجرة ، وإلا فالطرد . 

فآدم لم يكن تاركاً للواجب وإنما للمستحب والأولى .

وهذا معنى أنه يجوز على الأنبياء ترك الأولى ، إذ الأولى والأفضل بآدم أن لا يأكل من الشجرة .

وأما الغواية فتارة تستعمل في خلاف الرشد ، واخرى بفساد الشيء . (معجم مقاييس اللغة لابن فارس مادة غوى)

ولعل الأقرب هنا هو الثاني ، قال ابن منظور : وقوله عز وجل : فعَصَى آَدَمُ ربَّه فَغَوَى ؛ أَي فسَدَ عليه عَيْشُه . (لسان العرب : 15 / 141) فإنه كان يعيش في الجنة أفضل وأجمل عيشة ، فعندما أكل من الشجرة وطرد من الجنة ، فسد عليه عيشه .

إذن : المعصية ليست مخالفة الأمر الإلزامي والمولوي ، والغواية ليست الضلال . 

وعليه : فلم يصدر من آدم معصية لله ولا ذنب ولا مخالفة لأمر مولوي إلزامي .

 

وأما الآية الثانية : فقوله تعالى : { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء 87] 

إنّ نبي الله يونس خرج مغاضباً لقومه – لا لربه كما قال الامام الرضا (ع) - لأنهم لم يؤمنوا وأصرّوا على الكفر ، فخرج وهو يظنّ أن لن يضيّقَ الله عليه الأمر ، لترك الصبر والمصابرة مع قومه ، وليس الظن هنا بمعنى أنه خطر هذا الظن بباله ، بل كان ذهابه وترك قومه يمثل حالة مَن ظنّ أن لن يقدر ويضيّق عليه في خروجه من غير إنتظار إذن الله ، ولذا ضيّق الله عليه وابتلاه بالحوت . 

فعلمَ يونس أنه كان الأولى به أن يصبر على قومه وينتظر إذن الله قبل الخروج ، فندم على فعله { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } 

والظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، وترك يونس قومه في ذلك الظرف العصيب وإن لم يكن معصية ، إلا أنه خلاف شدة العطف والحنان المترقبة من الأنبياء ، فلاجل ذلك كان خروجه في غير موضعه .

ويحتمل أن يكون الفعل الصادر منه في غير موضعه هو طلبه العذاب لقومه ، إذ كان الاولى به أن لا يطلب من الله نزول العذاب على قومه .

وعلى كل حال : فالاية تدل على صدور عمل منه كان الأليق بحال الأنبياء تركه ، وهذا العمل إما تركُ قومه بدون إذن الله ، أو طلب نزول العذاب . ( بتلخيص وتحرير من كتاب عصمة الأنبياء في القرآن للشيخ جعفر السبحاني ص199 وما بعد) 

وبهذا البيان يتضح أنّ يونس لم يمارس أي معصية أو ذنب . 

 

وأما الآية الثالثة : فقوله تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } [الفتح 1-2]

الذنب لغةً بمعنى الإِثْمُ والجُرْمُ والمعصية . (لسان العرب : 1 / 389) 

والجرم يختلف ، فتارة يخالف الانسان القانون الإلهي فيكون عاصياً لله تعالى .

وأخرى : يخالف قانون المَلِك ، أو الدولة الحاكمة ، فيسمى عندهم مذنباً كمال قال موسى : { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ } ، فنبي الله موسى مذنب عندهم لأنه قتل رجلا منهم ، فيكون متمرداً عليهم .

وثالثة : يخالف العرف العشائري فيكون عاصياً للعشيرة ، وإن لم يكن عاصياً لله تعالى .

فإذن : الذنب بمعنى مطلق الجرم والمعصية والإثم ، ( وليست خصوصية العصيان لله سبحانه مأخوذة في صميم اللفظ بحيث لو اطلق ذلك اللفظ يتبادر منه كونه سبحانه هو المعصيّ أمره ، وإنما تستفاد الخصوصية من القرائن الخارجية ، وهذا هو الأساس لتحليل الآية وفهم المقصود منها.) عصمة الانبياء للسبحاني ص223 .

وكذلك نبينا صلى الله عليه وآله فإنه كما يقول الإمام الرضا (ع) عندما سأله المأمون العباسي عن هذه الآية قال : لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنبا من رسول الله (ص) لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمأة وستين صنما فلما جاءهم (ص) بالدعوة إلى كلمه الاخلاص كبر ذلك عليهم وعظم وقالوا : ( اجعل الآلهة الها واحدا ان هذا لشئ عجاب وانطلق الملا منهم ان امشوا واصبروا على آلهتكم ان هذا لشئ يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة هذا إلا اختلاق ) فلما فتح الله عز وجل على نبيه ( ص ) مكة قال له يا محمد : ( انا فتحنا لك ) مكة ( فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدم وما تأخر لأن مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة ومن بقي منهم لم يقدر على انكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه فصار ذنبه عندهم ذلك مغفورا بظهوره عليهم . (عيون اخبار الرضا : 1 / 180) .

فالذنب الذي كان لرسول الله (ص) هو ذنبٌ بنظر مشركي أهل مكة ، حيث كانوا يصفونه بكل قبيح من السحر والكهانة والكذب وقتل رجالهم ، وغيرها ، كما أنّ الذنب الذي كان لموسى كان بنظر فرعون وجلاوزته . 

والمراد من المغفرة هو إذهاب آثار ما نسبوه اليه ووصفوه به في المجتمع ، حيث إنّ مشركي مكة بعد أن رؤوا ما رؤوا من رسول الله في فتح مكة وقبلها صلح الحديبية ، علموا أنه ليس بساحر ولا كاهن ولا كذاب ولا دجال ، وأنّ ما افتعلوه تجاهه كلها أخطاء على أخطاء ، ولذا أسلم الكثير منهم ، وبعضهم خرج من مكة ، ومَن بقيَ منهم لم يستطع إنكار التوحيد ، ولذا أزيلت كل تلك التهم وبرّئ ساحة رسول الله (ص) منها بعد فتح مكة .

وهذا نظير ما لو اتّهِمَ إنسانٌ في مجتمعه بشيء وهو بريء منها ، فظلّ الناس يسيؤون الظن به لسنوات ، إلى أن أتت تلك الساعة التي ظهرت البينة وبُرّئت ساحته من تلك التهمة . فالبينة صارت سبباً لغفران ذنبه – الذي بنظر مجتمعه – بمعنى إزالة التهمة وسوء الظن به الذي لحقه لسنوات .

وكذلك في نبينا (ص) ، كان المشركون يرونه مذنباً ، لأنه تمرد عليهم ودعا الى التوحيد ، فاتهموه بالساحر والكاهن والكذاب وحمّلوه كل تلك الدماء التي سفكت منهم في بدر والخندق وغيرها .

وبعد فتح مكة ، وما رأوه من تصرف رسول الله تجاههم علموا أنه لم يكن ساحراً ولا كاهناً ولا كذاباً ، وأنّ تلك الدماء التي سفكت منهم كانت بسبب أفعالهم ، إذ تصرفاته (ص) ليست تصرفات الساحر والكاهن والكذاب و.و. 

فأزيلت كل تلك الوصمات والذنوب التي كانوا ينسبونها اليه في المجتمع المكي بفضل وبركة فتح مكة .

وهناك توجيه آخر للذنب في هذه الآية وهو ترك الاولى ، وهو مخالفة الاوامر الإرشادية .

وذكروا توجيها ثالثا لمغفرة الذنب وهو غفران ذنوب أمته أو شيعة علي بن ابي طالب (ع) وذلك بشفاعته (ص) .