هل للتاريخ مدخلية في استنباط الاحكام الشرعية؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
منَ الطبيعيّ أن تكونَ هناكَ وشائجُ صلةٍ وثيقةٍ بينَ التاريخِ وبينَ الحاضرِ والمُستقبل، فلولا الرّصيدُ المعرفيُّ والإنسانيّ الذي تستمدّهُ المُجتمعاتُ منَ التاريخِ لما تقدّمَت خطوةً واحدةً في أيّ علمٍ أو فن، وعليه يمكنُنا أن نقولَ إنَّ هنالكَ حيثيّاتٍ كثيرةً يمكنُ رصدُها في علاقةِ التاريخِ بكثيرٍ منَ العلومِ والمعارفِ الإسلاميّة؛ وذلكَ لوجودِ رابطٍ حيويٍّ بينَ التجربةِ على مستوى الواقعِ والتجربةِ على مُستوى التاريخِ، فكثيرٌ منَ المسائلِ الرّاهنةِ يمكنُ فهمُها إذا تمَّ مراجعةُ مسارِها تاريخيّاً، وبذلكَ يمكنُ أن يكتسبَ التاريخُ حيويّةً فاعلةً بما يحتويه مِن تراكمٍ في الأحداثِ والتجارب.
وإذا نظرنا كمُسلمينَ إلى أنواعِ العلاقةِ التي تربطُنا بالتاريخِ نجدُها تتجلّى في أكثرَ مِن رابطٍ، فكلُّ التعاليمِ التي أمرَنا بها الدينُ تاريخيّةٌ على مستوى التنزيلِ والتكليفِ كما أنّها خضعَت لتجربةٍ قد مضَت، فعلى مُستوى الحُكمِ الشرعي نرتبطُ بالتاريخِ ونعتمدُ على الأحكامِ الشرعيّة التي نزلَت ودُوّنَت قبلَ ألفٍ وأربعمائةِ سنةٍ، فلابدَّ أن نبحثَ عَن تلكَ الأحكامِ في بطونِ الكُتب، وعندَما نفعلُ ذلكَ فإنّنا كثيراً ما نجدُ رواياتٍ مُختلفةً اِختلافاً كبيراً في الأحكام، ولذلكَ يتحتّمُ أن نعرفَ بشكلٍ دقيقٍ الظروفَ التاريخيّة التي جاءَت تلكَ الأحكامُ فيها. ومِن دونِ معرفةِ تلكَ الظروفِ المُتغيّرة، لا يمكنُنا أن نعرفَ كيفَ اختلفَت الأحكامُ والتوجيهاتُ التي صدرَت عَن أئمّةِ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) معَ أنّهم جميعاً على نهجٍ واحدٍ وهوَ نهجُ الرّسولِ الأعظم (صلّى اللهُ عليه وآله).
وعليهِ فإنَّ الدراسةَ الواعيةَ للتاريخ، وتتبّعَ الحوادثِ التاريخيّة التي كانَت تكتنفُ حياةَ كلِّ إمام، هيَ الكفيلةُ بحلِّ هذا التناقضِ على مُستوى الظاهر، وحينَها نكتشفُ أنَّ هذا الاختلافَ هو نتاجٌ طبيعيٌّ لاختلافِ الظروفِ التاريخيّة التي كانوا فيها، ممّا يجعلُ منَ الضروريّ إعطاءُ هذه الظروفِ أهمّيّتَها وموقعَها الطبيعيّ في دراسةِ الأحكامِ الشرعيّة. وعليهِ فإنَّ الفقهاءَ في حاجةٍ ماسّةٍ لدراسةِ التاريخِ مِن جميعِ النواحي السياسيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة، ليتمكّنوا مِن معرفةِ أسبابِ بعضِ الاختلافاتِ بينَ الأخبار.
وفي المُحصّلةِ، إنَّ دراسةَ التاريخِ لها علاقةٌ بالفقهِ على مُستوى معرفةِ الظروفِ التاريخيّة والسّياقاتِ التي جاءَت فيها الأحكام؛ وذلكَ مِن أجلِ التمييزِ بينَ الأحكامِ الشرعيّة التي كانَت على نحوِ القضيّةِ الخارجيّة أي الأحكامِ التي كانَت تُراعي ظرفاً خاصّاً وبينَ الأحكامِ التي كانَت على نحوِ القضيّةِ الحقيقيّة أي الأحكامِ العامّةِ غيرِ المُحدّدةِ بزمنِ صدورِها، وبذلكَ يمكنُ حلُّ كثيرٍ منَ الاختلافاتِ في الرواياتِ الشرعيّة ورفعِ التناقضِ الظاهرِ بينَها، ومِن خلالِ ذلكَ يمتلكُ الفقيهُ بصيرةً وذائقةً فقهيّةً تمكّنُه مِن معرفةِ المسارِ الطبيعيّ للأحكامِ الشرعيّة بينَ الثابتِ منها والمُتغيّر.
اترك تعليق