المستشرقون والتشيع (إثارة الشبهات والمحاكمة على الفرضيات)
إنّ التراث الشيعي قد حظي باهتمام المستشرقين أمّا كفرقة، أو كحدث تاريخي فقد كتبت العديد من الكتابات حول موضوع الشيعة، وما يتعلق بهم، وهي بحق دراسات كثيرة حتّى قال عنها الدكتور (عبد الجبار الناجي) في كتابه (التشيع والاستشراق): (لم يدر في خلدي في بداية الأمر حين شمرت عن ساعدي، وجمعت أدوات بحثي، ومعداته لأرسم مخططاً لمفرداته الدقيقة، بأن تكون إسهامات المستشرقين عن التشيع، وعن سير أهل البيت بمثل هذه الكثافة، والتركيز نوعاً، وكماً...)(1).
لكن ما يميز هذا النتاج وبشكل عام أنّه أتسم بعدم الانصاف، وعدم الدقة، وعدم الموضوعية بالتعامل البشري مع الحوادث والنصوص، ذلك بسبب اعتمادهم على التراث السني الذي سيطرت عليه الأيديولوجيا السلطوية الحاكمة بما حوته من مرويات موضوعة، وأحاديث، وقصص محرفة، فكانت هذه الروايات المنطلق لجملة من المستشرقين الذين فرحوا بها، وأصبحت محركاً لهم للطعن، والتشويه حجتهم في ذلك أنّها من داخل المنظومة الإسلامية، فتمسكوا بها، بل وزادوا عليها بحسب ما يخدم مصالحهم وأهوائهم.
نعم، إنّهم وبدراستهم لمذهب التشيع كان هدفهم إبراز الهوة العميقة بين الفرق الإسلامية، وزيادة الشرخ الموجود بالأساس؛ لأنّ ذلك يخدم سياستهم الاستعمارية، لكن بعضهم درس مذهب التشيع بعد أن تيقن بأنّ هذه الفرقة الإسلامية قد تم إقصاءها عن عمد.
يقول الدكتور (عبد الجبار الناجي): (إنّ هذا النفر منهم قد وصل إلى نتيجة مفادها ضرورة إقصاء المؤلفات السنية لكل من يريد التدوين التاريخي عن العقيدة الشيعية...)(2)، وجملة من المؤلفات التي حُسبت على التشيع كذلك. وعلى كل حال، فإنّ المؤلفات الاستشراقية لم تنصف الشيعة، ولم تكتب عنهم بمنهج علمي خالٍ من الأهواء، أو الميول، أو المؤثرات.
ونحن نقول وبكل ثقة: إنّه لا يوجد أي مؤلَّف استشراقي يخلوا من الملاحظات، والمغالطات عن مذهب التشيع، وعن سيرة أهل البيت(عليهم السلام)، وعن التاريخ الإسلامي بشكلٍ عام، مع عدم الغفلة عن الجهود العلميّة لثلة من المستشرقين في التحقيق وحفظ التراث الإسلامي.
نعم، يمكن اعتبار القرن الثاني عشر الميلادي - تقريباً - بداية معرفة أوربا بالمذهب الشيعي كعقيدة وتنظيم سياسي، وذلك بالتزامن مع الحملات الصليبية زمن (الدولة الفاطمية)، إلاّ أنّ الأخبار عن الشيعة صيغت بكثير من الخلط، والتعميم، وعدم التمييز والفرز عن غيرها، مع وجود التأثير الأيديولوجي السياسي على طبيعة تلك الكتابات. إذ نجد جملة من المستشرقين والكتاب الغربيين يعتبرون أن الأفكار الشيعية، وبالخصوص بعض الفرق المحسوبة على الشيعة انتحالاً للأفكار الوثنية الإغريقية والفارسية القديمة.
فمثلاً: في قضية الغدير، حيث إنّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد نص على أن خليفته في المسلمين من بعده هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوم غدير خم. رغم ذلك نجد أنّ (مارجليوث)(3) في كتاب (محمد وظهور الإسلام. 1905م) يستبعد مثل هذه التوصية. كما ونجد (بروكلمان)(4) في كتاب (تاريخ المسلمين. 1939م) يجري على نفس المنوال. وكذلك (جولدتسيهر)(5) الذي أورد رواية غدير خم بصيغة التشكيك. كما ونجد أنّ (وليم الصوري)(6)، والذي يعتبر أهم مؤرخي الحملات الصليبية في القرن الـ( 12) الميلادي قد نسب إلى الشيعة الاعتقاد بأنّ علياً(عليه السلام) هو نبي الإسلام الحقيقي، لولا أنّ الملاك جبرائيل أخطأ، وأوصل الرسالة إلى محمد(صلى الله عليه وآله)
وسار على هذا النهج (يعقوب دي فيتري)(7)، الذي تسنم منصب مطران عكا فيما بين (1216- 1228م) والذي روج فيما كتبه من كتابات إلى: أنّ علياً كان نبياً مرموقاً تكلم إليه الله كتقدير تمييزي عن النبي محمد(8).
وكذلك ما روجه المنصِّر الشهير (ريكولدو ديمونتو كروس)(9) بأنّ الشيعة يعتقدون بأنّ محمداً اغتصب حقوق عليّ. واعتبر (ريكولدو) أن أتباع علي يحتفظون بقدر من اللطف، وأنّهم أقل شيطنة من الأغلبية السنية. وكذلك أمثال دعوات (ريكولدو) المعادية الكثير، فقد تزامنت مع دعوات كثيرة على هذه الشاكلة المعادية للإسلام، نذكر من ذلك على سبيل المثال دعوات (رايمون لول)(10)، و(بطرس بسكوال)(11).
كما ونجد جملة من المستشرقين، والكتاب الغربيين يعتبرون أنّ الأفكار الشيعية، وبالخصوص بعض الفرق المحسوبة على الشيعة(12) انتحالاً للأفكار الوثنية الإغريقية والفارسية القديمة.
لقد قدم الدبلوماسي الفرنسي (جوزيف آرثر غوبينو)(13). الذي خدم كدبلوماسي فرنسي في طهران بين (1855)و(1858م)- معلومات جديدة للغرب ليس فقط عن الانشقاق السني الشيعي. كما صوّره هو، بل عن الاتجاهين الرئيسيين بين علماء فارس: (الإخباريين) و(الأصوليين) أي منظومتي (النقل والعقل)، وهي فروقات أرجعها لأسباب اجتماعية قبل أن تكون دينية بحسب مدعاه. كما وقد كتب (الفرد فون كريمر)(14) في عام (1868م) عن التعصب المفرط للشيعة وعدم تحملهم لغيرهم من أتباع الطائفة المحمدية.
وكتب (كرا دي فو) بعد ثلاثين سنة من تاريخ كتابة (كريمر) أنّ الشيعة لديهم تفكير ليبرالي حر، ويكافحون في مواجهة العقلية السنية المتحجرة ضيقة الأفق. وأنّ العزلة التي يعيشها الشيعة تنبع من خوفهم من الاحتكاك بالآخر نتيجة نجاسته.
ولقد ادعى ( أعداء الشيعة )، نسبة (قرآن خاص بالشيعة)، وأنّ فيه سورتين لا توجدان في القرآن المتداول هما (النورين) و(الولاية) إلى كتاب اسمه (دبستاني مذاهب) لمؤلف زرادشتي، ويرجّح أنّ الكتاب (دبستاني مذاهب) ظهر في القرن السابع عشر أو الثامن عشر، وقد لاقى هذا الكتاب اهتمام الانكليز ومنهم (السير وليم بتروروث بيلي) المسؤول في حكومة الهند البريطانية، والذي قام بتحقيق وترجمة وطباعة ونشر الكتاب، حتّى صار من أهم المثالب على مذهب التشيع(15).
ولا يخفى دور شركة الهند البريطانية في الهند في إخراج كتاب (الدبستان) إلى النور ونشره بصورة كبيرة والترويج له. مضافاً له اهتمام المستشرقين به كونه مادة خصبة للطعن بالإسلام والتشيع بشكل خاص. فأثاروا مواضيع متعددة في كتبهم، ودوائر معارفهم حول تحريف الشيعة للقرآن(16). كل ذلك شكل المعين للوهابية، ومن سار على ركابهم في معاداة الشيعة، موافقة ومواكبة لدوائر الاستعمار العالمي واعداء الدين الإسلامي.
إنّ الإدارة البريطانية وفي سبيل تدعيم مكانتها الاستعمارية في الهند، قامت في (كلكتا) بنشر كتاب (شريعة محمد- 1805م) وجاء هذا الكتاب عن مصادر شهيرة للشيعة الاثني عشرية، وأهم ما اعتمد عليه هذا العمل كتاب (تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية) وكتاب (إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان) للعلامة الحلي، وقد قام باختيار النصوص الضابط الإنكليزي (جون بيلي) الأستاذ في الشريعة الإسلامية واللغة العربية والفارسية، وقد سعى (بيلي) إلى نشر عدد واسع من الأسس الشرعية للشيعة الإمامية. وفيما بعد نشرت دراسات مقارنة بين الشريعة لدى المذهب الحنفي والاثني عشري. ولم يكن الأخير سوى مختارات من كتاب (تحرير الأحكام) المتعلقة بأمور الزواج والطلاق والرق والهبات والعطايا والوقف والمواريث. كما وتمت ترجمة كتاب (حياة القلوب) من الفارسية إلى الإنكليزية، وهو كتاب يتناول سيرة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) كتبه العلامة الشيخ المجلسي(17).
نعم، (إنّ أولى تلك العقبات الّتي واجهها المستشرق المختص بهذه الفرقة، هو تلك الصعوبة في العثور على الوثيقة الشيعية، ذلك أنّ أقدم المصادر التاريخية الّتي احتكرت الإخبار عن الشيعة هي مصادر السنة)(18).
كما ويورد الأستاذ (مصطفى مطهري) تقييماً عاماً لدراسات المستشرقين حول الشيعة يورده سبع نقاطٍ مهمة هي(19):
1ـ طرح فرضيات من دوافع شخصية.
2ـ عدم الإلمام بواقع فكر التشيّع في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية.
3ـ الاعتماد على الدراسات التي أجريت سابقاً والاستناد إليها كفرضيات ثابتة دون ملاحظة صحتها أو سقمها.
4ـ عدم الرجوع إلى المصادر المعتمدة في البحوث العلمية.
5ـ عدم الاستناد إلى مصادر الشيعة الأصلية والمعتبرة، والاعتماد بشكلٍ أساسي على مصادر أهل السنة.
6ـ إصدار أحكام مسبقة حول المعتقدات بقصدٍ أو بعدم قصد.
7ـ هشاشة البحوث المطروحة في هذه الدراسات وعدم رصانة تفاصيلها.
بعدما استعرضنا يتبين مدى العداء الذي وجه لمذهب التشيع، وأنّه كان عداءً أيديولوجيا بامتياز، غير مبني على حقائق، بل هو مجرد مفتريات كاذبة في طرح عدائي بامتياز، لذا ننصح كل من يسمع بذلك أو يقرأ عنه أن يبحث عن المصادر، وأن لا يكتفي بالأقوال والتقولات، بل أن يجعل الأدلة الحقيقية هي الحاكم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التشيع والاستشراق، عبد الجبار الناجي، ص 11.
(2) التشيع والاستشراق، عبد الجبار الناجي، ص 17.
(3) ديفيد صمويل مارجليوث (1858-1940م) مستشرق انكليزي، عمل قساً في كنيسة انكلترا، ثم أستاذاً لتدريس اللغة العربية في جامعة أكسفورد.
(4) كارل بروكلمان (1868- 1956م).
(5) اجانتس جولدتسيهر (1850- 1921 م) مستشرق يهودي مجري.
(6) وليم الصوري (1130-1185م) مؤرخ صليبي، رئيس أساقفة (صور) و(القدس)، مستشار الملك (بلدوين الرابع) ملك مملكة بيت المقدس الصليبية، ولد في بيت المقدس من أسرة ذات أصول فرنسية أو إيطالية.
(7) يعقوب دي فيتري (1170- 1240 م) مؤرخ وقس ولاهوتي كنسي فرنسي الأصل.
(8) يراجع كتاب: الشيعة في المشرق الإسلامي تثوير المذهب وتفكيك الخريطة، عاطف معتمد عبد الحميد، ص113.
(9) ريكولدو ديمونتو كروس (1243-1320م) راهب دومنيكي إيطالي ومبشر شديد الخصومة على الإسلام، له كتاب (تفنيد آيات القرآن).
(10) رايمون لول أو باللفظ الخاص الصحيح (رايموندوس لولوس) (1230-1315م) فيلسوف كتالوني، أنضم إلى رهبنة الفرنسيسكان، انكب على دراسة اللغة العربية والثقافة الإسلامية قاصداً من وراء ذلك دعوة المسلمين إلى المسيحية، له كتاب (الفن الأكبر) الذي حاول فيه أن يدافع عن المسيحية ضد الإسلام، وانتقد فيه فلسفة ابن رشد.
(11) بطرس بسكوال (1227-1300م) لاهوتي اسباني، له كتاب (الفرقة المحمدية).
(12) الفرق المغالية، والمهرطقة.
(13) جوزيف آرثر دي غوبينو (1816- 1882 م) أديب وديبلوماسي فرنسي اشتهر ببحوثه ودراساته حول الشرق، وأبرز نتاجاته الفكرية (التفاوت بين الأجناس البشرية) والذي تأثر به أصحاب نظرية العنصرية الجرمانية، وله روايات ومذكرات عديدة منها (الثريا) و(قصص آسيوية) و(جدة وعدن ومسقط ثلاث سنوات في آسيا 1855- 1858 م) ترجمة: مسعود سعيد عمشوش. أقام في إيران مدة خمس سنوات وكان مسؤولاً في السفارة الفرنسية بمدينة طهران.
(14) الفرد فون كريمر (1828-1889م) مستشرق نمساوي، ألماني الجنسية، كان قنصلاً في مصر وبيروت.
(15) للمزيد عن (دابستاني مذاهب) يراجع كتاب: الإمام علي واشكالية جمع القرآن ودراسات المستشرقين، عبد الجبار الناجي، ص 145 ـ 192.
(16) المصدر السابق، ص 193 ـ 240.
(17) الشيعة في المشرق الإسلامي تثوير المذهب وتفكيك الخريطة، عاطف معتمد عبد الحميد، ص115.
(18) محنة التراث الآخر، إدريس هاني، ص 55.
(19) دور الأحداث التاريخية في بيان معتقدات أهل البيت، مصطفى مطهري، ص 68.
اترك تعليق