الملك فطرس عتيق الحسين (عليه السلام)

السؤال: هل يمكن توضيح مسألة الملك فطرس، كيف عُوقب عندما أبطأ عن أمر الله؟ هل الملائكة يعصون الله تعالى؟

: - اللجنة العلمية

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يقع الكلام في قصّة الملك فطرس وتوسّله بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) وتبرّكه بسيّد الشهداء (عليه السلام)، في أمرين:

الأمر الأوّل: مصادر الرواية:

وردت روايات وآثار كثيرة في مصادر الإماميّة وغيرهم حول الملك فطرس، فهي مرويّة عن الإمام الباقر (عليه السلام)، والإمام الصادق (عليه السلام)، والإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والإمام المهدي (عجل الله فرجه) أو أبيه الإمام العسكريّ (عليه السلام)، ومرويّة أيضاً عن عبد الله بن عبّاس وسعيد بن جبير ومحمّد بن سنان.

وفيما يلي نذكر في المقام روايةً واحدة، وهي ما رواه الشيخان ابن قولويه والصدوق وغيرهما عن إبراهيم بن شعيب الميثمي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: « إنّ الحسين بن عليّ (عليهما السلام) لـمّا وُلد أمر الله عزّ وجلّ جبرئيل (عليه السلام) أن يهبط في ألفٍ من الملائكة فيهنّئ رسول الله (صلّى الله عليه وآل) من الله ومن جبرئيل (عليه السلام)، قال: وكان مهبط جبرئيل (عليه السلام) على جزيرةٍ في البحر فيها ملك يُقال له: فطرس، كان من الحملة، فبعث في شيء فأبطأ فيه، فكسر جناحه وألقي في تلك الجزيرة، يعبد الله فيها ستمائة عام، حتّى ولد الحسين (عليه السلام)، فقال الملك لجبرئيل (عليه السلام): أين تريد؟ قال: إنّ الله تعالى أنعم على محمّد (صلّى الله عليه وآله) بنعمةٍ، فبُعِثت أهنّيه من الله ومنّي، فقال: يا جبرئيل، احملني معك لعلّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) يدعو الله لي، قال: فحمله، فلمّا دخل جبرئيل على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وهنّأه من الله وهنّأه منه، وأخبره بحال فطرس، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا جبرئيل أدخله، فلمّا أدخله أخبر فطرس النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بحاله، فدعا له النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وقال له: تمسّح بهذا المولود وعد إلى مكانك، قال: فتمسّح فطرس بالحسين (عليه السلام) وارتفع، وقال: يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أما إنّ أمّتك ستقتله، وله عليّ مكافأة: أن لا يزوره زائر إلّا بلّغته عنه، ولا يسلّم عليه مسلّم إلّا بلغته سلامه، ولا يصلّي عليه مصلٍّ إلّا بلّغته عليه صلاته، قال: ثمّ ارتفع » [كامل الزيارات ص140-141، الأمالي ص200-201، الثاقب في المناقب ص338، روضة الواعظين ص155، مناقب آل أبي طالب ج3 ص228-229، مناقب الطاهرين ج2 ص589-590].

ويمكن الاطّلاع على بقيّة الروايات بمراجعة هذه المصادر: بصائر الدرجات ص87، إثبات الوصية ص164، اختيار معرفة الرجال ج2 ص849، شرح الأخبار ج3 ص114، عيون المعجزات ص60، مصباح المتهجد ص826، فضل زيارة الحسين ص35، دلائل الإمامة ص189، بشارة المصطفى ص337، المزار الكبير ص397، مستطرفات السرائر ص115 عن جامع البزنطيّ، مناقب آل أبي طالب ج3 ص229، الخرائج والجرائح ج1 ص252، إقبال الأعمال ج3 ص303، مختصر بصائر الدرجات ص34، منتخب الطريحيّ ص99، كتاب الأربعين ص٣٦٦ عن الأوصياء للصيمريّ، وغيرها.

الأمر الثاني: دلالة الرواية:

إنّ هذه الرواية - بألفاظها المختلفة - تدلّ على كرامة سيّد الشهداء (عليه السلام) ووجاهته عند الله تعالى، حتّى إنّ مثل ملائكة السماء (ع) يتوسّلون به، بل ويعوذون بمهده وهو رضيع، ويترقّون في مقاماتهم ببركته (سلام الله عليه).

لا يُقال: إنّ الظاهر من الرواية صدور المعصية من فطرس، وذلك ينافي الاعتقاد بعصمة الملائكة.

لأنّا نقول: إنّ عصمة الملائكة ثابتة عند الإماميّة، قال الشيخ الصدوق - في بيان اعتقادات الإماميّة -: (اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمّة والملائكة – صلوات الله عليهم – أنّهم معصومون، مطهّرون من كلّ دنس، وأنّهم لا يذنبون ذنباً، لا صغيراً ولا كبيراً، ولا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يُؤمرون. ومَن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم في جهلهم) [الاعتقادات ص96].

وقال المحقّق الحليّ: (الملائكة معصومون... وما رُوي في بعض الأخبار من ضدّ ذلك، وكذلك ما تضمّنته قصة هاروت وماروت، فقد صرف ذلك عن الظاهر إلى ضربٍ من التأويل) [المسلك في أصول الدين ص285].

وقال العلّامة المجلسيّ: (لـمّا ثبت بالنصوص وإجماع الفرقة المحقّة عصمة الملائكة، لابدّ من تأويل ما يوهم صدور المعصية منهم على نحوِ ما مـرَّ في عصمة الأنبياء عليهم السلام) [بحار الأنوار ج11 ص126].

يعني: أنّ عصمة الملائكة ثابتة بالقطع واليقين؛ بالآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة وإجماع الشيعة، وبناءً عليه: فما يظهر من بعض الأخبار ومن قصّة هاروت وماروت – من نسبة المعصية إليهم، وأنّهم ليسوا معصومين – يلزم تأويله وتوجيهه بوجهٍ لا يخلّ بعصمتهم؛ لأنّ هذه الأخبار إمّا ظنيّة السند وإمّا ظنيّة الدلالة على صدور الذنب، والدليل الظنيّ لا يقاوم الدليل اليقينيّ الدالّ على عصمتهم، فلا يمكن الأخذ بالظنيّ في مقابل اليقينيّ وتقديمه عليه، بل المعوَّل عليه هو اليقينيّ، وأمّا الظنيّ فيُحمَل على وجهٍ يتلاءم ويتناسب مع اليقينيّ، كما هو الحال بالنسبة للآيات والروايات المنافية ظاهرها عصمة الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)، فإنّه يلزم توجيهها بما يتناسب مع القول بعصمتهم وطهارتهم.

إذا عرفتَ هذا فنقول: إنّ هذه الرواية لا تدلّ على نسبة المعصية للملك فطرس، وإنّما تقول الرواية: « بُعث في شيء فأبطأ فيه »، ولم تصرّح بنسبة المعصية له، والإبطاء ليس معصيةً؛ إذ المسارعة والمبادرة نحو امتثال المأمور وإنْ كانت حسنة باعتبار كشفها عن كمال الانقياد والطاعة، لكنّها ليست على مستوى الإلزام والوجوب حتّى يكون الإبطاء معصية، فغاية الأمر أن يكون الإبطاء خلاف الأولى. فإنّ الملك فطرس لـمّا بُعث في شيء، كان الأولى به أن يُسارع نحو امتثاله فوراً، دون أدنى تباطؤ، ولكنّه تباطأ في الامتثال فخالف الأولى.

وأمّا تتمّة الرواية: « كسر جناحه وألقي في تلك الجزيرة »، فهي لا تدلّ على أنّها عقوبة على ارتكاب المعصية، بل ذلك أثرٌ وضعيّ مترتّب على الإبطاء الذي هو خلافُ الأولى، فإنّ لبعض الأفعال – مع أنّها ليست من المعاصي - آثاراً وضعيّة تكوينيّة، كما في تأثير بعض الأطعمة والتراكيب. فكسر الجناح هو أثر وضعيّ للإبطاء، نظير خروج النبي آدم (عليه السلام) من الجنّة الدنيويّة لأكله من الشجرة، فإنّ خروجه ليس عقوبة وإنّما هو أثرٌ وضعيّ.

قال المرجع السيّد الروحانيّ – في بعض أجوبة استفتاءاته -: (في الخبر الموثّق عن الإمام الصادق (عليه السلام): « أنّ فطرس كان من حملة العرش، فبُعث في أمر فأبطأ فيه، فكُسِر جناحه »، ومن الواضح أنّ الإبطاء ليس معصية من المعاصي، وإنّما هو خلاف الأولى ليس إلّا، ولم يكن كسر الجناح عقاباً وإنّما كان مجرّد أثر وضعيّ) [قربان الشهادة ص27-28].

وبعبارة أخرى: إنّ الله تعالى خلق الملك فطرس، ووهب له جناحين، وأكرمه بأنْ جعله من الحملة، وغير ذلك، فإنّ جميع هذه الأمور هي مكرمات وفيوضات إلهيّة على فطرس حدوثاً وبقاءً، كما أنّ كلّ ما في العالم هي فيوضات ونعم إلهيّة.

وإنّ الله تعالى لـمّا وجد من فطرس الإبطاء نحو امتثال أمره، ترك تكريمه في بعض الشؤون، بأنْ حرمه من كرامة الطيران مع الحملة، والحرمان من التكريم ليس عقوبة حتّى يُقال إنّ العقوبة تدلّ على صدور المعصية منه، وإنّما هو من باب ترك تكريمه بتلك المقامات والهبات الإلهيّة، ثمّ بعد تشفّعه بسيّد الأنبياء (صلى الله عليه وآله) وتبرّكه بسيّد الشهداء (عليه السلام) رجع لِـما له في السابق من مقامات، بل وأكثر من ذلك.

والحمد لله ربّ العالمين