أهميّة الثبات على الولاية والبراءة

السؤال: يدعو العلماء إلى الوَلاء والبَراء في بعض البلدان ذات المذاهب المتنوّعة، لكن إذا التزمنا بآرائهم، فقد نتعرّض للاتّهام بالطائفيّة أو نواجه مشكلاتٍ مع طوائف أخرى بسبب التزامنا الدينيّ. فما هو الحلّ لهذه المعضلة؟

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

لا يخفى عليك أخي السائل أنّ الولاية والبراءة من أثافي الإسلام وركائزه الأساسيّة، شأنهما شأن الصلاة والزكاة، وهما من ضرورات الدين وفروعه العشرة التي يجب الإتيان بها على كلّ مسلمٍ مكلّفٍ، وبحسب الفرض فإنّ خصوص شيعة أهل البيت (عليهم السلام) ليسوا بحاجةٍ إلى الدعوة إليهما؛ باعتبار أنّهم يدركون ما لهما من الأهميّة، فإنّ الولاية والبراءة هما جوهر الرسالة الإسلاميّة، وكمال الدين وتمام النعمة الإلهيّة بنصّ القرآن الكريم على ذلك في آيات بيعة الغدير، كما أنّهما يمثّلان هوية التشيّع وقوام الإيمان، والأحاديث في ذلك كثيرةٌ ومتواترةٌ، فقد روى ثقة الإسلام الكلينيُّ بسندٍ صحيحٍ عن عجلان أبي صالح قال: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أوقفني على حدود الإيمان، فقال: شهادة أنْ لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله، والإقرار بما جاء به من عند الله وصلاة الخمس وأداء الزكاة وصوم شهر رمضان، وحجّ البيت وولاية وليّنا وعداوة عدوّنا، والدخول مع الصادقين» [الكافي ج2 ص18].

وروى ابن إدريس الحلّيُّ أنّه: «قيل للصادق (عليه السلام): إنّ فلاناً يواليكم، إلّا أنّه يضعف عن البراءة من عدوكم؟!

قال: هيهات، كذب مَن ادّعى محبّتنا ولم يتبرّأ من عدوّنا».

وأيضاً عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنّه قال : «كمال الدين ولايتنا والبراءة من عدوّنا» [مستطرفات السرائر ص640]؛ ولذا جاء في زيارة عاشوراء وغيرها قول الزائر: «إنّي سلمٌ لِمَن سالمكم، وحربٌ لِمَن حاربكم، ووليٌّ لِمَن والاكم، وعدوٌّ لِمَن عاداكم».

فإذا عرفت جميع ذلك فإنّ اللَّازم على الإنسان المؤمن في مثل ما ذكرتم أنْ يعمل على الأمور الآتية:

الأمر الأوّل: وجوب الثبات على التولّي لأهل البيت (عليهم السلام) والتبرّي من أعدائهم أجمعين، فلا يسوغ للمؤمن تركهما معاً أو الإتيان بأحدهما دون الآخر مهما كلّف الأمر، فقد روى أبو الجارود عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) عند تفسير قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4]. أنّه قال: قال: عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): لا يجتمع حبُّنا وحبُّ عدوّنا في جوف إنسان، إنّ الله لم يجعل لرجلٍ من قلبين في جوفه فيحبُّ هذا ويبغض هذا، فأمّا محبّنا فيخلص الحبّ لنا كما يخلص الذهب بالنار لا كدَرَ فيه، فمن أراد أنْ يعلم حبّنا فليمتحنْ قلبَه فإن شاركه في حبِّنا حبُّ عدوّنا فليس مِنّا ولسنا منه، والله عدوّهم وجبرئيل وميكائيل والله عدوٌ للكافرين» [تفسير القمّيّ ج2 ص172].

الأمر الثاني: كما يجب على المؤمن عدم التفريط بالتولّي والتبري، فكذلك يجب عليه عدم الإفراط فيهما، فإنّ وجوبهما لا يعني لزوم الإعلان عنهما والجهر بهما أمام الملأ، ولاسيما في مثل ما ذكرتم من المجتمعات التي تشتمل على خليطٍ من المذاهب والطوائف المختلفة، فلربّما كان الإعلان والجهر موجباً للوقوع في مخالفةٍ صريحةٍ لما يحكم به العقل والشرع من لزوم اجتناب الفتنة أو إلقاء النفس في التهلكة، كما أنّه مدعاةٌ للتعريض بأهل البيت (عليهم السلام) وجعلهم موضعاً للسبّ والشتم من قبل المخالفين والمتعصّبين كالسلفيّة الوهابيّة، وذلك كلّه ممّا نهى عنه الشارع المقدّس أشدّ النهي، قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].

وروى الشيخ الصدوق أنّه قيل للصادق (عليه السلام): «يا ابن رسول الله، إنّا نرى في المسجد رجلاً يُعلِن بسبِّ أعدائكم ويسميهم؟ فقال: ما له لعنه الله يُعرَّض بنا؟!» [الاعتقادات ص107].

وبعبارة أخصر: فإنّ الواجب الشرعيّ الذي في عهدة المكلّف هو الوسطيّة والاعتدال والاستقامة في الاعتقاد، والعمل من خلال إيجاد حالةٍ من الاتّزان الفكريّ والعقائديّ الذي هو عليه، وذلك بأن لا يحمله الإفراط في الولاية لهم (عليهم السلام) على الغلوّ فيهم ورفعهم إلى درجة الربوبيّة، كما يجب أنْ لا تخرج به البراءة من عدوّهم عن حدّ العمل بالتقيّة ومداراة الآخرين بعدم المساس بمقدّساتهم في محضرهم.

الأمر الثالث: لا يخفى ما للبيئة من تأثيرٍ كبيرٍ على عقيدة الإنسان؛ لذا يلزم الإنسان المؤمن - والحال هذه - أن يضاعف الجهد في توثيق علاقته مع الله تعالى والتقرّب منه، والاستعانة به جلّت قدرته، والارتباط بشدّة بإمام العصر والزمان (عجّل الله فرجه الشريف)، والمواظبة على الأدعية والأعمال المنصوص عليها في مظانّها، التي تساعد على توفير حالةٍ من الثبات على الدين عقيدة وفقهاً وسلوكاً، ويتأكّد ذلك عند العيش في أوساط المجتمعات ذات النسيج التعدّدي، ويشتدّ تأكّده في عصر الغيبة الكبرى، ففي صحيحة عبد الله بن سنان قال: «دخلت أنا وأبي على أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: كيف أنتم إذا صرتم في حال لا ترون فيها إمام هدى، ولا علماً يُرى، فلا ينجو من تلك الحيرة إلّا من دعا بدعاء الغريق؟

فقال أبي: هذا والله البلاء، فكيف نصنع جعلت فداك حينئذٍ؟

قال: إذا كان ذلك - ولن تدركه - فتمسّكوا بما في أيديكم حتّى يتّضح لكم الأمر» [الغيبة للنعمانيّ ص163]

وفي روايةٍ أخرى عنه أيضاً قال: «قال أبو عبد الله عليه السلام: ستصيبكم شبهةٌ فتبقون بلا عَلَمٍ يُرى، ولا إمام هدى، ولا ينجو منها إلّا من دعا بدعاء الغريق.

قلتُ: كيف دعاء الغريق؟ قال: يقول: يا الله يا رحمن يا رحيم يا مقلّب القلوب ثبت قلبي على دينك» [كمال الدين ص352].

الأمر الرابع: لعلَّ من أبرز وظائف المؤمن في مثل هذه المجتمعات متعدّدة الأطياف أْن يكون داعيةً لمذهب الحقّ عن طريق سلوكه وسيرته مع الآخرين، وأنْ يُظهر لهم محاسن تربية أهل البيت لشيعتهم، ففي صحيحة ابن أبي يعفور قال: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإن ذلك داعية» [الكافي ج2 ص77]؛ لذا لابدّ في المقام من العمل بوصاياهم (عليهم السلام) في ضرورة الحرص على توفير أجواء التعايش السلميّ مع أبناء الطوائف والمذاهب الأخرى، والعمل على التواصل معهم في هذه التعدّديّة الطائفيّة، كما هو المستفاد من الروايات المعتبرة الواردة عنهم (عليهم السلام)، ففي صحيحة معاوية بن وهب عن الصادق (عليه السلام)، قال: «قلتُ له: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممّن ليسوا على أمرنا؟

قال: تنظرون إلى أئمّتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون، فوالله إنّهم لَيعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدّوا الأمانة إليهم» ، ونظير ذلك ما في صحيحة أبي أسامة زيد الشحام قال: «قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): اقرأ على مَن ترى أنّه يطيعني منهم [يعني أهل الكوفة] ويأخذ بقولي السلامَ، وأوصيكم بتقوى الله (عزّ وجلّ) والورع في دينكم، والاجتهاد لله وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلّى الله عليه وآله)، أَدّوا الأمانة إلى مَن ائتمنكم عليها بَرّاً أو فاجراً، فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صِلوا عشائركم واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة وحَسّن خُلقه مع الناس قيل: هذا جعفريٌّ، فيسرّني ذلك ويدخل عليَّ منه السرور وقيل: هذا أدب جعفر. وإذا كان على غير ذلك دخل عليَّ بلاؤُه وعاره وقيل: هذا أدب جعفر، فو الله لَحَدّثني أبي (عليه السلام) أنّ الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة عليٍّ (عليه السلام) فيكون زينها: آداهم للأمانة وأقضاهم للحقوق وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تُسأل العشيرة عنه فتقول: مَن مثل فلان؟! إنّه لآدانا للأمانة وأصدقنا للحديث» [الكافي ج2 ص636].

الأمر الخامس والأخير: وهو فيما لو كان جميع ما تقدّم لا يجدي نفعاً مع الخصوم من أبناء المذاهب والطوائف الأخرى في مثل هكذا مجتمعات متنوّعة الأطياف، ولا يُوفّر للمؤمن أجواء الحفاظ على عقيدته وأدائه شعائره والعيش بسلام، ولم ينفعه العمل بالتقيّة، فإنّ اللازم عليه في مثل ذلك كلّه أن يفرَّ بدينه فيهاجر إلى بلادٍ أخرى يمكنه فيها القيام بوظائفه الشرعيّة والاحتفاظ بعقيدته وهويّته الإيمانيّة وأدائه شعائره بأمنٍ وسلام ؛ لكي لا يكون من أهل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97].

ختاماً نسأله تعالى أنْ يثبّتنا وإيّاكم وجميع المؤمنين على الولاية والإيمان، والحمد لله ربّ العالمين