هل ميكانيكا الكم تلغي مبدأ السببيّة؟
السؤال: يقول أحد الملحدين وهو أستاذ في علم الفيزياء: إنّ مبدأ السببية (لكلّ شيء مسبّب) ثبت بطلانه في فيزياء ميكانيكيّة الكمّ، وأيضاً ثبت وجود كثير من الأمور لا نعرف لها سبباً أوجدها، فما هو الردّ؟ جزاكم الله خيراً
الإجابة:
إنّ الإلحاد المعاصر يستند أحياناً إلى تفسيراتٍ علميّةٍ غيرِ دقيقة ليدّعي بطلان مبدأ السببيّة. ومن بين هذه الادّعاءات ما يُقال عن ميكانيكا الكمّ، بأنّها تثبت عدم الحاجة إلى الأسباب لحدوث الظواهر.
ولكن عند الرجوع إلى أقوال المتخصّصين في الفيزياء، نجد أنّ هذا الفهم خاطئٌ لطبيعة الميكانيكا الكمّية، ويمكن للمهتمّ الرجوع إلى بعض الكتب العلميّة المترجمة إلى العربيّة، مثل كتاب (أحلام الفيزيائيّين بالعثور على نظريّة نهائيّة: جامعة شاملة)، لستيفن واينبرغ، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء، ترجمة أدهم السمّان أستاذ الفيزياء في جامعة دمشق، وغير ذلك من الكتب.
ويمكن تلخيص الإجابة عن هذا السؤال بالشكل التالي:
ميكانيكا الكمّ تدرس سلوك الجسيمات الصغيرة جدّاً مثل الإلكترونات والفوتونات، وهي لا تخضع للقوانين التقليديّة التي نراها في حياتنا اليوميّة في هذا العالم الكموميّ، ويمكن للجسيم أن يكون في أكثر من حالة في الوقت نفسه، ولا يمكننا تحديد موقعه وسرعته بدقّة مطلقة، بل يمكننا فقط التنبؤ باحتماليّة وجوده في مكانٍ معيّنٍ، هذه الطبيعة الاحتماليّة لا تعني أنّ الأشياء تحدث بلا سبب، وإنّما تعني أنّ السبب يعمل بطريقة غير مألوفة لنا. فالظواهر الكموميّة تخضع لمعادلات رياضيّة تحدّد الاحتمالات بدلاً من النتائج الحتميّة.
لذلك، القول بأنّ ميكانيكا الكمّ تلغي السببيّة هو استنتاج غير دقيق. ففي ميكانيكا الكمّ، بدلاً من أن يكون لكلّ حدث سبب محدّد يؤدّي إلى نتيجة حتميّة كما في الفيزياء الكلاسيكيّة، فإنّ لكلّ حدثٍ - في هذا العالم الكموميّ - مجموعةً من الاحتمالات التي تتحدّد وفقاً لعوامل معيّنة، وهذا لا يعني غياب القوانين، بل يعني أنّ القوانين تعمل بطريقةٍ مختلفةٍ عن العالم الذي نراه بأعيننا.
وعلى سبيل المثال، ظاهرة التحلّل الإشعاعيّ لا تعني أنّ الجسيم يتحلّل بلا سبب، بل تعني أنّنا لا نملك نظريّة تفسّر السبب الدقيق لتحلّل ذرّة معيّنة في لحظة معيّنة، لكن يمكننا تحديد معدّل التحلّل بشكل إحصائيّ.
الخطأ الشائع الذي يقع فيه البعض: هو افتراض أنّ عدم معرفتنا بالسبب تعني عدم وجود سبب من الأساس، لكن في تاريخ العلوم، كلّما واجه العلماء ظواهر بدت غير مفسّرة في البداية، اكتشفوا لاحقاً قوانين تحكمها، وعليه، فإنّ القول بوجود ظواهر بلا سبب هو استنتاج متسرّع، فالفيزياء لا تنفي السببيّة، وإنّما قد تعيد تعريفها وفقاً لنطاق البحث العلميّ.
كما أنّ تعميم نتائج ميكانيكا الكمّ على الكون بأسره ليس منهجاً علميّاً دقيقاً، فهذه النظريّة تصف سلوك الجسيمات الدقيقة، ولا تعني بالضرورة أنّ قوانينها تُطبَّق على المستويات الأكبر بالطريقة نفسها، بل إنّ الفيزياء الحديثة، بما فيها النسبيّة العامّة، لا تزال تعتمد على السببيّة كإطارٍ رئيسٍ لفهم العلاقة بين الأحداث
اترك تعليق