هل كان أمير المؤمنين يعلم أنه منصب من قبل الله للخلافة؟
السؤال: قال عليٌّ (رضي الله عنه): «والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إِرْبَة. ولكنّكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها» [نهج البلاغة 322]، وهذا يعني أنَّ المعصوم استلم الخلافة وهو كارهٌ لها، ولا رغبة له فيها، وأُرغِم عليها. أيّها الرافضة، هل كان المعصوم يعلم أنّه مُنَصَّب من الله، أم أنّه لا يعلم؟ إن قلتم: إنّه كان يعلم أنّه مُنَصَّب من الله، فقد كفر لأنّه رفض أمر الله. وإن قلتم: لم يكن يعلم، أسقطتم الولاية التكوينيّة وعلم الغيب والعصمة، وسقط دينكم برمّته.
الجواب:
قبل الوقوف على السياق الذي جاءت فيه كلمات أمير المؤمنين (ع)، نقول في الجواب عن سؤالك: هل كان الإمام عليٌّ يعلم بأنّه مُنَصَّب من قبل الله للخلافة، أم لا يعلم؟
فنقول: كان (ع) يعلم بذلك، وكان الصحابة يعلمون بذلك أيضًا، والذي حدث أنّ الصحابة أنكروا الخلافة القائمة على التنصيب والتعيين الإلهيّين، وابتدعوا بأنفسهم معنًى خاصًّا للخلافة.
وبمعنى آخر: هناك معنيان للخلافة:
الخلافة الأولى: وهي خلافة الله، وهذه الخلافة لا تكون إلّا بتنصيبٍ وتعيينٍ من الله تعالى، وليس للناس أيّ شأن فيها.
الخلافة الثانية: هي خلافة الناس، وليس لله شأن في هذه الخلافة، فالناس هم الذين يتحكّمون في مجرياتها بحسب ميلهم وهواهم، وهذه الخلافة ليس لها معنًى غير الملك والسلطان، وقد قال عنها عمر بن الخطّاب في سقيفة بني ساعدة: (من ينازعنا سلطان محمّد) [تاريخ الطبريّ ج2 ص460].
والذي حدث أنّ أمير المؤمنين (ع) رفض خلافة الناس، والصحابة رفضوا خلافة الله تعالى، وقد صرّح أمير المؤمنين في أكثر من خطبة أنّه لم يكن يسعى للأمرة والسلطان، إلّا أن يقيم حقًّا أو يدحض باطلًا، ففي خطبة له (ع) عند خروجه لقتال أهل البصرة، قال عبد الله بن العبّاس: «دخلت على أمير المؤمنين (ع) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال (ع): والله، لهي أحبّ إليّ من إمرتكم، إلّا أن أقيم حقًّا أو أدفع باطلًا» [نهج البلاغة ج1 ص80].
وقد ذكرنا في أجوبةٍ سابقةٍ: أنّ البيعة تمّت للإمام عليّ (ع) بقرارٍ ثوريّ من عامّة الناس الذين خرجوا على عثمان، ولو لم يكن القرار ثوريًّا يتناسب مع الظرف الثوريّ الذي أطاح بالحكومة السابقة، لما آلت الأمور للإمام عليّ البتّة.
فالنخبة السياسيّة وقيادات الصفّ الأوّل هي في العادة من تتحكّم في الخيارات السياسيّة الكبرى، ولو سنحت لها الفرصة واتّسع لها الوقت لكانت وجَّهت الجماهير التي تدافعت على الإمام عليّ (ع) إلى وجهةٍ أخرى، وعندما وُضِعَت هذه القيادات أمام الأمر الواقع بايعوا عليًّا، ولكن سريعًا ما نكثوا بيعتهم، ثم ألَّبوا الجموع البعيدة وساروا بها إلى حرب الإمام (ع) في الجمل وصفّين.
بل حتّى الجموع التي بايعت أمير المؤمنين (ع) لم تبايعْه بدافعٍ دينيٍّ بحت، أي إنّها لم يتبايع عليًّا (ع) بوصفه إمامًا مفترض الطاعة، وإنّما بوصفه الرجل الذي لا يمكن أن تتعرَّض للظلم تحت ظلّه، فقد هربوا من المظالم التي كانت في عهد عثمان إلى من يُوفّر لهم العدل والمساواة.
أمّا الإمام عليّ (ع) الذي أوصى الرسول (ص) باتّباعه، واجتمع الناس لمبايعته في غدير خم، فهم كانوا أوّل من خذلوه، إلّا القلّة القليلة، وعندما دارت بهم الدوائر جاؤوا إليه يهرعون.
وقد وصف أمير المؤمنين اجتماع الناس لبيعته بقوله: «فما راعني إلّا والناس كعرف الضبع إليّ، ينثالون عليّ من كلّ جانب، حتّى لقد وُطِئَ الحسنان وشُقّ عِطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم. فلمّا نهضتُ بالأمر نكثت طائفة، ومرقت اُخرى، وقسط آخرون، كأنّهم لم يسمعوا الله تعالى يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
بلى والله، لقد سمعوها ودعوها، ولكنّهم حَلِيَتْ الدنيا في أعينهم، وراقهم زِبرُجها. أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله تعالى على العلماء ألاّ يُقارّوا على كِظّة ظالم، ولا سَغَبِ مظلوم، لألقيتُ حبلها على غاربها، ولسقيتُ آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز» [نهج البلاغة ج1 ص35].
ومن هذه الزاوية نفهم رفض الإمام عليّ (ع) لبيعتهم وزهده فيها، فقال: «دعوني والتمسوا غيري»، حتّى لا تكون بيعته مجرّد خيارٍ سياسيٍّ وحالةٍ عاطفةٍ عابرة، فأعطاهم بذلك فرصةً كافيةً للتفكّر والتأمّل، فإذا عزموا أمرهم وعقدوا له البيعة، لا يكون لهم مبرّر للتراجع، وبذلك يكشف عن مدى استعدادهم لتحمّل وعورة الحقّ المتمثّل في المنهج الإسلاميّ الصحيح في الحكم حيث قال لهم: «دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمرًا له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإنّ الآفاق قد أغامت، والمحجّة قد تنكّرت، واعلموا أنّي إن أجبتكم، ركبت بكم ما أعلم، ولم أُصغِ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني، فأنا كأحدكم، ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم». [نهج البلاغة ج1 ص181].
وبرفضه البيعة، ودعوته لهم بأنْ يلتمسوا غيره، يكون قد كشف عن النيات التي لم تطلب عليًّا (ع) لوجه الله، وإنّما طلبته لرفع الحيف عنها، والبعض منهم رغبوا في عليّ (ع) وكان يحدوهم الطمع أن يكون لهم مع عليٍّ ما كان لبني أميّة مع عثمان، فما أن نهض بالأمر حتّى نكثت طائفةٌ ومرَقَت أخرى، فهربوا مرّةً أخرى من عليّ إلى معاوية، فعليٌّ (ع) عنده الآخرة مع شَظَف العيش، ومعاوية كانت عنده الدنيا مع دينٍ دُجِّن لصالح الدنيا.
يقول ابن أبي الحديد: (وروى أبو عثمان الجاحظ، قال: أرسل طلحة والزبير إلى عليّ (ع) قبل خروجهما إلى مكة مع محمد بن طلحة، وقالا: لا تقل له يا أمير المؤمنين، وقل له: يا أبا الحسن، لقد خاب فيك رأينا، وخاب ظنّنا، أصلحنا لك الأمر، ووطّدنا لك الأمرة، وأجلبنا على عثمان حتى قُتل، فلمّا طلبك الناس لأمرهم جئناك وأسرعنا إليك وبايعناك، وقدنا إليك أعناق العرب، ووَطِئَ المهاجرون والأنصار أعقابنا في بيعتك، حتى إذا ملكت عنانك، استبددت برأيك عنّا، ورفضتنا رفض التريكة، وملّكت أمرك الأشتر وحكيم بن جبلة وغيرهما من الأعراب ونُزّاع الأمصار) [شرح نهج البلاغة ج3 ص576].
وقد ردّ أمير المؤمنين (ع) على عتاب طلحة والزبير من ترك مشورتهما والاستعانة في الأمور بهما بقوله: «قد نقمتما يسيرًا وأرجأتما كثيرًا. ألا تُخبراني أيّ شيء كان لكما فيه حقّ دفعتُكما عنه؟ أم أيّ قسم استأثرتُ عليكما به؟ أو أيّ حقّ رفعه إليّ أحد من المسلمين ضعفتُ عنه أم جهلتُه أم أخطأتُ بابَه؟ والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إِربة، ولكنّكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها، فلمّا أفضت إليّ نظرتُ إلى كتاب الله، وما وُضِع لنا، وأمرنا بالحكم به، فاتّبعتُه، وما استنّ النبيّ (ص) فاقتديتُه، فلم أحتج إلى رأيكما ولا رأي غيركما، ولا وقع حكم جهلتُه فأستشيركما وإخواني من المسلمين، ولو كان ذلك، لم أرغب عنكما ولا عن غيركما» [شرح نهج البلاغة للمعتزليّ ج11 ص7].
اترك تعليق