لِمَ تدعون القبور وأصحابها أموات لا قدرة لهم على دفع الضر عن أنفسهم؟

فتح الله/ الأردن/: حين نتحاور معكم ونسألكم: لمَ تدعون القبور وهؤلاء أموات لم يستطيعوا دفع الضر عن أنفسهم؟ تقولون: إن الأئمة شهداء، وهم أحياء عند ربهم، ويسمعون دعاءنا، ويشفعون لنا.. وغير هذا من الكلام الباطل، نقول: قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة154]. وقال في آية أخرى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران169]. نعم هم أحياء. ولكن أين؟ عند ربهم وليس عندنا؛ بل قال تعالى: ﴿يُرزقون﴾ ولم يقل: (يَرزقون)، فلو كانوا هم من يَرزقون فلن نحاججكم في دعائهم، والأولى دعاء من يرزقهم بما أنهم يُرزقون.

: اللجنة العلمية

الأخ المحترم .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 إن وقوع التأثير والكرامة من الأنبياء والأولياء بعد موتهم يدل عليه القرآن الكريم والسنة الشريفة .

يقول تعالى في كتابه الكريم: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ) فهذه الآية عامة تشمل حالتي الحياة الدنيا وبعد الموت أَيضاً، وذلك لمجيء الفعل (جاءوك) في سياق الشرط، وبما أن الفعل يتضمن مصدراً منكراً، والنكرة في سياق الشرط أَو النفي تفيد العموم وضعاً، فيثبت الشمول في المجيء للرسول والاستغفار عنده في حياته وبعد مماته، وبعموم العلة يثبت استغفار الرسول (صلى الله عليه وآله)  لمن جاءه واستغفر الله عنده، لثبوت وقوع المشروط بعد ثبوت شرطه، ومن هنا فهم العلماء العموم من هذه الآية الكريمة وجعلوها ضمن سنن وآداب زيارته (صلى الله عليه وآله) .

 قال ابن قدامة الحنبلي [والذي يصفه ابن تيمية بأنّه ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من ابن قدامة] في كتابه المغني على الزائر عند توجهه للقبر الشريف أن يقول: اللهم إنك قلت وقولك الحق: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً)(1)، وقد أتيتك مستغفرا من ذنوبي مستشفعا بك إِلى ربّي، فأسالك يا ربّ أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته(2). انتهى

 فانظر إِلى الخطاب المباشر من ابن قدامة للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): (وقد أتيتك مستغفرا من ذنوبي، مستشفعا بك إِلى ربي)، فلو كان الأثر والمؤثر الوارد في هذه الآية الكريمة مختصا بحياته الشريفة فقط، وأنّ النبيّ بعد موته لا تأثير ولا أثر له في طلب التشفع والاستغفار منه إِلى الله، لما كان لهذا الكلام من ابن قدامة معنى، وكان لغواً وهذياناً من البيان.

وأمّا السنّة الشريفة، فيكفينا أن نذكر الحديث الصحيح الصريح الوارد عن النبي (صلى الله عليه وآله): (حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتى خير لكم تعرض عليّ أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شرّ استغفرت لكم). وهذا الحديث صحيح.

قال عنه الحافظ العراقي في "طرح التثريب": ((إسناده جيد))(3).

 وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد": ((رواه البزار ورجاله رجال الصحيح))(4).

 وصححه السيوطي في الخصائص(5).

وأَيضاً فيما ورد من الأثر الصحيح الصريح عن ابن عمر، فيما رواه البخاري في الأدب المفرد، قال: حدّثنا أبو نعيم قال: حدّثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن سعد قال: خدرت رجل ابن عمر، فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك، فقال: يا محمد(6). انتهى

وهذا إسناد صحيح، فأبو نعيم هو الفضل بن دكين، ثقة إمام ثبت في الحديث، وأَمّا سفيان فهو سفيان الثوري إمام الحفاظ عند أهل السنّة، وأَمّا أبو إسحاق فهو السبيعي ثقة من أجلة التابعين. لكنه لما كبر تغير حفظه واختلط، ولكن رواية الثوري عنه كانت قبل ذلك، قال الحافظ ابن حجر فى تهذيب التهذيب: ((أنّ الثوري هو أثبت الناس في السبيعي))(7).

وأما عبد الرحمن بن سعد فقد وثقه النسائي وذكره ابن حبان في كتاب الثقات.

وأَيضاً يروي هذا الأثر الحربي في كتابه غريب الحديث عن شعبة عن أبي أسحاق، وقد ثبت عن شعبة قوله: (كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش وأبي إسحاق وقتادة)، نقله عنه الحاكم والبيهقي والحافظ ابن حجر وابن طاهر المقدسي وغيرهم. قال ابن حجر معقبا على كلام شعبة: فهذه قاعدة جيدة في أحاديث هؤلاء الثلاثة أنّها إِذا جاءت من طريق شعبة دلت على السماع ولو كانت معنعنة(8).. وبالتالي تنتفي العلتان اللتان يتبجح بهما البعض ــ من غير تحصيل ــ في ردّ هذا الأثر بدعوى اختلاط السبيعي وتدليسه..

والأثر المذكور ظاهر الدلالة في المناداة باسم النداء: يا محمد، لميت غائب عن الدنيا وهو النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وكذلك حصول الأثر التكويني لهذا النداء، كما في رواية الحربي: (قلت: ادع أحبّ الناس إليك قال: يا محمد، فبسطها)(9).

ومن أراد مخالفة هذا الظهور المستفاد من الأثر، عليه أن يثبت ذلك من نفس الأثر بقرينة لفظية أَو حالية، والحال أنّه لا قرينة في البين تثبت مدعاه.. وبذلك يثبت المطلوب، والحمد لله.

هذا، وقد سُئل العلامة شهاب الدين الرملي (الملقب بالشافعي الصغير): عمّا يقع من العامة من قولهم عند الشدائد يا شيخ فلان، يا رسول الله، ونحو ذلك من الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين، فهل ذلك جائز أم لا وهل للرسل والأنبياء والأولياء والصالحين والمشايخ إغاثة بعد موتهم، وماذا يرجح ذلك؟.

فأجاب: ((الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين جائزة، وللرسل والأنبياء والأولياء والصالحين إغاثة بعد موتهم؛ لأن معجزة الأنبياء وكرامات الأولياء لا تنقطع بموتهم. أمّا الأنبياء فلأنّهم أحياء في قبورهم يصلّون ويحجّون كما وردت به الأخبار وتكون الإغاثة منهم معجزة لهم، والشهداء أَيضاً أحياء شوهدوا نهاراً جهاراً يقاتلون الكفار، وأَمّا الأولياء فهي كرامة لهم، فإنّ أهل الحقّ على أنه يقع من الأولياء بقصد وبغير قصد أمور خارقة للعادة يجريها الله تعالى بسببهم، والدليل على جوازها أنّها أمور ممكنة لا يلزم من جواز وقوعها محال وكلّ ما هذا شأنه فهو جائز الوقوع، وعلى الوقوع قصة مريم ورزقها الآتي من عند الله على ما نطق به التنزيل، وقصة أبي بكر وأضيافه كما في الصحيح، وجريان النيل بكتاب عمر، ورؤيته وهو على المنبر بالمدينة جيشه بنهاوند حتّى قال لأمير الجيش: يا سارية الجبل، محذرا له من وراء الجبل لكمين العدو هناك وسماع سارية كلامه وبينهما مسافة شهرين، وشرب خالد السم من غير تضرر به. وقد جرت خوارق على أيدي الصحابة والتابعين ومن بعدهم لا يمكن إنكارها لتواتر مجموعها وبالجملة ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي لا فارق بينهما إلا التحدي))(10). انتهى

ومما جاء في ترجمة العلامة الرملي، ما ذكره الزركلي في الأعلام، حيث قال: (((شمس الدين الرملي (919 ــ 1004 هـ= 1513 ــ 1596 م) محمد بن أحمد بن حمزة، شمس الدين الرملي: فقيه الديار المصرية في عصره، ومرجعها في الفتوى. يقال له: الشافعي الصغير. نسبته إِلى الرملة (من قرى المنوفية بمصر) ومولده ووفاته بالقاهرة. ولي إفتاء الشافعية. وجمع فتاوى أبيه. وصنف شروحاً وحواشي كثيرة، منها (عمدة الرابح ــ خ) شرح على هدية الناصح في فقه الشافعية، و (غاية البيان في شرح زبد ابن رسلان ــ ط) و (غاية المرام ــ خ) في شرح شروط الامامة لوالده، و (نهاية المحتاج إِلى شرح المنهاج ــ ط) فقه))(11). انتهى

والنتيجة: أنّ التوسّل بالأنبياء والأولياء ولو بنحو طلب الأثر التكويني منهم، جائز سائغ، كتاباً وسنّة، أثراً وفتوى، والمخالف في ذلك لا يوجد ما يسند به مدعاه سوى الوهم والخيال، وهما لا يغنيان عن الحقّ شيئاً.

ودمتم في حفظ الله ورعايته

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سورة النساء: 64.

(2) المغني 3: 590.

(3) طرح التثريب 3: 297.

(4) مجمع الزوائد 9: 24.

(5) الخصائص الكبرى ــ للسيوطي ــ 2: 281.

(6) الأدب المفرد 1: 535، حديث 959.

(7) تهذيب التهذيب 8: 57.

(8) أُنظر: تحفة الأحوذي 4: 140.

(9) غريب الحديث ــ الحربي ــ 2: 674.

(10) كتاب فتاوى الرملي في فروع الفقه الشافعي: 733.

(11) الأعلام ،، للزركلي ــ 7: 6.