المُنَادَاةُ بِ (يَا عَلِيُّ) عِنْدَ الشَّدَائِدِ. 

عَدَن مِقْدَادٌ العَبَّاسِيُّ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. السُّؤَالُ الأَوَّلُ: مَا مَعْنَى هَذِهِ العِبَارَاتِ: يَا عَلِيُّ، يَا زَهْرَاءُ، يَا مُحَمَّدُ، يَا عَبَّاسُ، يَا إِبْرَاهِيمُ، يَا...... إلخ.  السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ تُعْتَبَرُ هَذِهِ العِبَارَاتُ أَعْلَاهُ عِنْدَ قَوْلِنَا إِيَّاهَا بِأَنَّهَا مُنَاجَاةُ وُدَعَاءُ الإمَامِ وَالنَّبِيِّ بِ... يَا.... فُلَانُ أَنَّهَا مُنَاجَاةٌ لِلهِ (عَزَّ وَجَلَّ). مَعَ العِلْمِ أَكْثَرُنَا نَقُولُ هَذِهِ العِبَارَاتِ وَبِكَثْرَةٍ وَحَتَّى فِي القَسَمِ، وَنَكْتُبُهَا فِي الأَحْجَارِ الكَرِيمَةِ، وَالمَشْهُورُ عِنْدَنَا أَنَّ فِي مَعْرَكَةِ أُحُدٍ عِنْدَمَا وَصَلَ الكُفَّارُ إِلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) نَزَلَ جِبْرِيلُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَأَوْصَى النَّبِيَّ مُحَمَّدًا (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) بِقَوْلِ نَادِ عَلَّيًا مُظْهِرَ العَجَائِبِ تَجِدْهُ عَوْنًا لَكَ فِي النَّوَائِبِ... إلخ الدُّعَاءَ.... مَعَ العِلْمِ هُنَاكَ عِدَّةُ نُصُوصٍ مُخْتَلِفَةٍ لِنَصِّ الدُّعَاءِ. العَوَامُّ مِنَّا مَنْ يَقُولُ هَذِهِ العِبَارَاتُ مُتَأَكِّدٌ أَنَّهُ النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: يَا عَلِيُّ أَدْرِكْنِي. وَهَذِهِ حَدَثَتْ كَمَا يُقَالُ أَثْنَاءَ مَعْرَكَةِ أُحُدٍ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلْ يَصِحُّ لَنَا قَوْلُهَا أَيْضًا بِاعْتِبَارِهَا تَوَسُّلًا مِنْ دُونِ اللهِ؟.  السُّؤَالُ الرَّابِعُ: هَلْ يُوجَدُ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَدَا قَوْلِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فِي مَعْرَكَةِ أُحُدٍ: يَا عَلِيُّ... وَحَسَبَ قَوْلِنَا العَامِّيِّ... إذا هُوَ النَّبِيُّ يَصِيحُ يَا عَلِيُّ وَخَلَّصَهُ جَا هي شني الله دزاه لِجِبْرِيل يكله لمُحَمَّدٍ كولن يَا عَلِيُّ وَ نَجَّاه ترِيدنِي آنَّهُ مَا كولن يَا عَلِيُّ..... السُّؤَالُ الخَامِسُ: لِمَاذَا لَا نَجِدُ فِي أَيِّ دُعَاءٍ مَنْسُوبٍ لِأَئِمَّتِنَا الأَطْهَارِ (عَلَيْهِمْ السَّلَامُ) بِذِكْرِ هَذِهِ العِبَارَاتِ "يَا عَلِيُّ، يَا زَهْرَاءُ يَا..... إلخ، بَلْ نَجِدُهُمْ يُنَاجُونَ وَيَدَعُونَ وَيَذْكُرُونَ اللهَ (عَزَّ وَجَلَّ)؟ وَلَكُمْ الشُّكْرُ مَوْصُولٌ

: اللجنة العلمية

     الأَخُ عَدَن المُحْتَرَمُ.. السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. 

     قَوْلُ المُؤْمِنِينَ: (يَا عَلِيُّ) عِنْدَ الشَّدَائِدِ يُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ:

     1 - أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ قَائِلِهِ: اَللَّهُمَّ بِجَاهِ عَلِيٍّ اقْضِ حَاجَتِي. وَوَجْهُ هَذَا النِّدَاءِ لُغَةً: أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى نَحْوِ المَجَازِ فِي الإِسْنَادِ، وَالمَجَازُ فِي الإِسْنَادِ هُوَ تَعْبِيرٌ سَائِغٌ لُغَةً وَشَرْعًا لِوُرُودِهِ بِكَثْرَةٍ فِي لُغَةِ العَرَبِ وَالقُرْآنِ الكَرِيمِ، فَأَنْتَ تَقُولُ مَثَلًا: سَالَ المِيزَابُ. بِحَيْثُ تُسْنِدُ السَّيَلَانَ لِلمِيزَابِ، بَيْنَمَا الَّذِي سَالَ حَقِيقَةً هُوَ المَاءُ وَلَيْسَ المِيزَابَ، وَلَكِنْ صَحَّ الإِسْنَادُ المَذْكُورُ لِعِلَاقَةِ المَكَانِ بَيْنَ المِيزَابِ وَالمَاءِ، وَعِلَاقَةُ المَكَانِ هِيَ إِحْدَى العِلَاقَاتِ المُسَوِّغَةِ فِي التَّعْبِيرِ المَجَازِيِّ، فَإِنَّ عِلَاقَاتِ الحَقِيقَةِ وَالمَجَازِ هِيَ أَكْثَرُ مِنْ 25 عِلَاقَةً.

     وَتَقُولُ أَيْضًا: أَنْبَتَ الرَّبِيعُ البَقْلَ. فَتُسْنِدَ الإِنْبَاتَ لِلرَّبِيعِ، بَيْنَمَا المُنْبِتُ حَقِيقَةً هُوَ اللهُ (عَزَّ وَجَلَّ) وَلَيْسَ الرَّبِيعَ، وَالرَّبِيعُ إِنَّمَا هُوَ ظَرْفُ وَزَمَانُ الإِنْبَاتِ لَا أَكْثَرُ، وَلَكِنَّ صِحَّةَ التَّعْبِيرِ المَذْكُورِ لِعِلَاقَةِ الزَّمَانِ بَيْنَ الرَّبِيعِ وَالبَقْلِ، وَهَكَذَا.

     وَفِي القُرْآنِ الكَرِيمِ تَجِدُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} البَقَرَةُ 19، وَلَكِنَّ الَّذِي وَضَعُوهُ حَقِيقَةً إِنَّمَا هُوَ الأَنْمُلَةُ فَقَطْ، وَهِيَ جُزْءُ الإصْبِعِ لِتَعَذُّرِ وَضْعِ الإصْبِعِ كُلِّهِ فِي الآذَانِ تَكْوِينًا، فَكَيْفَ صَحَّ التَّعْبِيرُ المَذْكُورُ؟!

     صَحَّ التَّعْبِيرُ المَذْكُورُ لِلعِلَاقَةِ بَيْنَ الجُزْءِ وَالكُلِّ. وَأَيْضًا تَقْرَأُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وأخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} الزَّلْزَلَةُ: 2، حَيْثُ أُسْنِدَ الإِخْرَاجُ لِلأَرْضِ، وَالأَرْضُ هِيَ مَادَّةٌ صَمَّاءُ لَيْسَ لَهَا قُدْرَةُ الفِعْلِ وَالإِخْرَاجِ، وَإِنَّمَا المُخْرِجُ هُوَ اللهُ (عَزَّ وَجَلَّ)، فَكَيْفَ صَحَّ الإِسْنَادُ المَذْكُورُ؟!

     صَحَّ الإِسْنَادُ المَذْكُورُ لِعِلَاقَةِ المَكَانِ; لِأَنَّ الأَرْضَ هِيَ المَكَانُ الَّذِي تَخْرُجُ مِنْهُ هَذِهِ الأَثْقَالُ. وَهَكَذَا نَجِدُ الكَثِيرَ مِنْ هَذِهِ البَيَانَاتِ فِي لُغَةِ العَرَبِ وَالقُرْآنِ الكَرِيمِ الوَارِدَةِ عَلَى نَحْوِ المَجَازِ فِي الإِسْنَادِ وَهِيَ كُلُّهَا تُسَوِّغُ لِمَنْ يَقُولُ (يَا عَلِيُّ) أَنْ يَقْصِدَ بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ بِجَاهِ (عَلِيٍّ) عِنْدَكَ اقْضِ حَاجَتِي. لِعِلَاقَةِ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَجَاهَ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عِنْدَ اللهِ.

     وَهَذَا المَعْنَى هُوَ شَبِيهٌ لِمَا وَرَدَ فِي مَصَادِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ دُعَاءِ التَّوَسُّلِ الوَارِدِ فِي حَدِيثِ الأَعْمَى الَّذِي عَلَّمَهُ الصَّحَابِيُّ عُثمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ لِأَحَدِ الأَشْخَاصِ فِي زَمَنِ عُثمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَالَّذِي طَلَبَ فِيهِ أَنْ يُنَادِيَ النَّبِيَّ (ص) حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ، وَيَقُولُ: (يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّكَ (جَلَّ وَعَزَّ) فَيَقْضِيَ لِي حَاجَتِي) [صَحَّحَهُ الطَّبرَانِيُّ فِي المُعْجَمِ الكَبِيرِ، الجُزْءُ التَّاسِعُ، بِرَقْمِ 8311، والبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ج 6 ص 167، وَالحَاكِمُ فِي المُسْتَدرَكِ ج 1 ص ج 1 ص 526 عَنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شَبِيبٍ عَنْ أَبِيهِ، وَسَلَّمَهُ الذَّهَبِيُّ، وَأَقَرَّ الحَافِظُ المُنْذِرِيُّ تَصْحِيحَ الطَّبَرَانِيِّ لَهُ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ ج 1 ص 273، وَالحَافِظُ الهَيْثَمِيُّ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ ج 2 ص279].

     2 - أَوْ يَكُونَ مَقْصُودُ القَائِلِ بِهَذِهِ العِبَارَةِ: (يَا عَلِيُّ) هُوَ طَلَبُ الإسْتِعَانَةِ المُبَاشِرَةِ بِعَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) لِمَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ وِلَايَتِهِ التّكوينِيَّةِ الَّتِي مَنَحَهَا اللهُ (عَزَّ وَجَلَّ) إِيَّاهُ، شَبِيهُ الوِلَايَةِ التّكوينِيَّةِ الَّتِي مُنِحَتْ لِعِيسَى (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فِي إِحْيَاءِ المَوْتَى وإبرَاءِ الأَكَمَهِ بِإِذْنِ اللهِ.

     تَقُولُ: وَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ لِلإِمَامِ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وِلاَيَةٌ تكوينِيَّةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاسُ؟!!

     نَقُولُ: لَا تَنْقَطِعُ الكَرَامَاتُ لِلأَنْبِيَاءِ وَالأَئِمَّةِ (عَلَيهِمْ السَّلَامُ) بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَهَذَا المَعْنَى يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ فِي مَصَادِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ قَبْلَ الشِّيعَةِ أَيْضًا، فَقَدْ وَرَدَ مِنْ الأَثَرِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي "الأَدَبِ المُفْرَدِ"، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نَعِيمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: خَدَرَتْ رِجْلُ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: اذْكُرْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْكَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ. انْتَهَى. الأَدَبُ المُفْرَدُ 1: 535، حَدِيثُ 959].

     وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، فَأَبُو نَعِيمٍ هُوَ الفَضْلُ بْنُ دكين، ثِقَةٌ إِمَامُ ثَبُتٌ فِي الحَدِيثِ، وَأَمَّا سُفْيَانُ فَهُوَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِمَامُ الحُفَّاظِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَمَّا أَبُو إِسْحَاقَ فَهُوَ السّبيعِيُّ، ثِقَةٌ مِنْ أَجِلَّةِ التَّابِعِينَ. لَكِنَّهُ لَمَّا كَبُرَ تَغَيَّرَ حِفْظُهُ وَاخْتَلَطَ، إِلَّا أَنَّ رِوَايَةَ الثَّوْرِيِّ عَنْهُ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي "تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ": ((إنَّ الثَّوْرِيَّ هُوَ أَثْبَتُ النَّاسِ فِي السّبيعِيِّ)). [تَهْذِيبُ التَّهْذِيبِ 8: 57].

     وَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ فَقَدْ وَثَّقَهُ النِّسَائِيُّ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حَبَّانَ فِي كِتَابِ الثُّقَاتِ.

     وَعِنْدَمَا تُرَاجِعْ "الوَابِلَ الصَّيِّبَ وَرَافِعَ الكَلَامِ الطَّيِّبِ" لِابْنِ قَيِّمٍ الجَوْزِيَّةِ ص 227 وَ265 تَجِدُهُ يَرْوِي الأَثَرَ المَذْكُورَ فِي الفَصْلِ الَّذِي تَحْتَ عُنْوَانِ: فِي الأَذْكَارِ المُوَظَّفَةِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي لِلعَبْدِ أَنْ يُخِلَّ بِهَا لِشِدَّةِ الحَاجَةِ إِلَيْهَا وَعِظَمِ الإنْتِفَاعِ فِي العَاجِلِ وَالآجِلِ بِهَا.

     وَأَيْضًا يَرْوِي هَذَا الأَثَرَ الحَرْبِيُّ فِي كِتَابِهِ "غَرِيبِ الحَدِيثِ" عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي أسْحَاقَ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ شُعْبَةَ قَوْلُهُ: (كَفَيْتُكُمْ تَدْلِيسَ ثَلَاثَةٍ: الأَعَمِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ وَقَتَادَةَ)، نَقَلَهُ عَنْهُ الحَاكِمُ، والبَيْهَقِيُّ، وَالحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَابْنُ طَاهِرٍ المَقْدِسِيُّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ مُعَقِّبًا عَلَى كَلَامِ شُعْبَةَ: فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ جَيِّدَةٌ فِي أَحَادِيثِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ دَلَّتْ عَلَى السُّمَاعِ وَلَوْ كَانَتْ مُعَنْعَنَةً [انْظُرْ: تُحْفَةَ الأحْوذِي 4: 140]. وَبِالتَّالِي تَنْتَفِي العِلَّتَانِ اللّتَانِ يَتَبَجَّحُ بِهِمَا البَعْضُ - مِنْ غَيْرِ تَحْصِيلٍ - فِي رَدِّ هَذَا الأَثَرِ بِدَعْوَى اخْتِلَاطِ السّبيعِيِّ وَتَدْلِيسِهِ.

     وَالأَثَرُ المَذْكُورُ ظَاهِرُ الدِّلَالَةِ فِي المُنَادَاةِ بِاسْمِ النِّدَاءِ: "يَا مُحَمَّدُ" لِمَيِّتٍ غَائِبٍ عَنْ الدُّنْيَا وَهُوَ النَّبِيُّ الأَعْظَمُ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ(، وَكَذَلِكَ حُصُولُ الأَثَرِ التّكوينِيِّ لِهَذَا النِّدَاءِ، كَمَا فِي رِوَايَةِ الحَرْبِيِّ: (قُلْتُ: ادْعُ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْكَ. قَالَ: "يَا مُحَمَّدُ" فَبَسَطَهَا) [انْظُرْ: تُحْفَةَ الأحْوذِيِّ 4: 140].

     وَمَنْ أَرَادَ مُخَالَفَةَ هَذَا الظُّهُورِ المُسْتَفَادِ مِنْ الأَثَرِ، عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ الأَثَرِ بِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ أَوْ حَالِيَّةٍ، وَالحَالُ أَنَّهُ لَا قَرِينَةَ فِي الْبَيْنِ تُثْبِتُ مُدَّعَاهُ، وَبِذَلِكَ يَثْبُتُ المَطْلُوبُ، وَالحَمْدُ لِلهِ.

      هَذَا، وَقَدْ سُئِلَ العَلَّامَةُ شِهَابُ الدِّينِ الرَّمْلِيُّ (المُلَقَّبُ بِالشَّافِعِي الصَّغِيرِ): عَمَّا يَقَعُ مِنْ العَامَّةِ مِنْ قَوْلِهِمْ عِنْدَ الشَّدَائِدِ: يَا شَيْخُ فُلَانٍ، يَا رَسُولَ اللهِ. وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الإسْتِغَاثَةِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ وَالأَوْلِيَاءِ وَالعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَهَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ أَمْ لَا، وهَلْ لِلرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالمَشَايِخِ إِغَاثَةٌ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَمَاذَا يُرَجِّحُ ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ:

    ((الإسْتِغَاثَةُ بِالأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ وَالأَوْلِيَاءِ وَالعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ جَائِزَةٌ، وَلِلرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ إِغَاثَةٌ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، لِأَنَّ مُعْجِزَةَ الأَنْبِيَاءِ وَكَرَامَاتِ الأَوْلِيَاءِ لَا تَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِمْ.

     أَمَّا الأَنْبِيَاءُ فَلِأنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الأَخْبَارُ، وَتَكُونُ الإِغَاثَةُ مِنْهُمْ مُعْجِزَةً لَهُمْ، وَالشُّهَدَاءُ أَيْضًا أَحْيَاءٌ شُوهِدُوا نَهَارًا جِهَارًا يُقَاتِلُونَ الكُفَّارَ، وَأَمَّا الأَوْلِيَاءُ فَهِيَ كَرَامَةٌ لَهُمْ، فَإِنَّ أَهْلَ الحَقِّ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ مِنْ الأَوْلِيَاءِ بِقَصْدٍ وَيُغَيِّرُ قَصْدَ أُمُورٍ خَارِقَةٍ لِلعَادَةِ يُجْرِيهَا اللهُ تَعَالَى بِسَبَبِهِمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهَا أَنَّهَا أُمُورٌ مُمْكِنَةٌ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ وُقُوعِهَا مُحَالٌ، وَكُلُّ مَا هَذَا شَأْنُهُ فَهُوَ جَائِزُ الوُقُوعِ، وَعَلَى الوُقُوعِ قِصَّةُ مَرْيَمَ وَرِزْقُهَا الْآتِي مِنْ عِنْدِ اللهِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ التَّنْزِيلُ، وَقِصَّةُ أَبِي بَكْرٍ وَأَضْيَافِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ، وَجَرَيَانُ النِّيلِ بِكِتَابِ عُمَرَ، وَرُؤْيَتُهُ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ بِالمَدِينَةِ جَيْشَهُ بنَهَاوَنْدَ حَتَّى قَالَ لِأَمِيرِ الجَيْشِ: يَا سَارِيَةُ الجَبَلَ، مُحَذِّرًا لَهُ مِنْ وَرَاءِ الجَبَلِ لِكَمِينِ العَدُوِّ هُنَاكَ وَسَمَاعُ سَارِيَةَ كَلَامَهُ وَبَيْنَهُمَا مَسَافَةُ شَهْرَيْنِ، وَشُرْبُ خَالِدٍ السُّمَّ مِنْ غَيْرِ تَضَرُّرٍ بِهِ.

     وَقَدْ جَرَتْ خَوَارِقُ عَلَى أَيْدِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهَا لِتَوَاتُرِ مَجْمُوعِهَا، وَبِالجُمْلَةِ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَرَامَةً لِوَلِيٍّ لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا التَّحَدِّي) انْتَهَى. [كِتَابُ فَتَاوَى الرَّمْلِيِّ فِي فُرُوعِ الفِقْهِ الشَّافِعِي: 733].

     وَدُمْتُمْ سَالِمِينَ.