لماذا نزل القرآن باللّغة العربيّة دون غيرها من اللّغات؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الإجابة:

هناك جوانب مختلفة تقف خلف نزول القرآن باللّغة العربيّة دون غيرها من اللّغات، ونحن هنا نجمل هذه الجوانب بشكل مختصر وفي شكل نقاط:

أوّلاً: من منظور عقائديّ، فإنّ نزول القرآن باللّغة العربيّة هو اختيار إلهيّ حكيم مرتبط بعلم الله الكامل، فالله عزّ وجلّ هو الذي يقرّر الأنسب والأفضل والأكمل من حيث التوقيت، واللّغة، والمكان، فاختيار الله اللّغة العربيّة هو بنفسه دليل على كونها الأفضل والأنسب والأكمل لحمل رسالته؛ وذلك لأن الله بإرادته وحِكمته هو الذي اختارها لتكون لساناً لرسالته، يقول تعالى: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)، ويقول: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، ويقول: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ).

ثانياً: سنّة الله تعالى في إرسال الرسل تقوم على أنّ الله يرسل كلّ رسول بلغة قومه، يقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)، والنبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) بُعث في بيئة عربيّة، وكانت اللّغة العربيّة هي لغته ولغة قومه، فمن الطبيعيّ أن ينزل القرآن بلغتهم التي يعرفونها، ولو نزل بلغة أخرى لاستحال التواصل بينهم وبين الرسول (ص)، وبذلك تضيع الحِكمة من الرسالة والرسول، يقول تعالى: (كَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا).

ثالثاً: العرب في ذلك العصر كانوا يتميّزون بثقافة أدبيّة غنيّة تعتمد بشكل كبير على الشعر والخطابة، وكانت لديهم قدرة فائقة على تذوّق الجمال اللّغويّ وفهم الفروق الدقيقة بين الكلمات، واللّغة العربيّة كانت تتمتّع بثراء لغويّ وبلاغيّ فريد، وهو ما جعلها قادرة على حمل رسالة عميقة ونفيسة مثل القرآن الكريم.

وقد أتى القرآن نفسه متحدّياً العرب في بلاغته وبيانه وإعجازه اللّغويّ، فكونه نزل بلغة يتقنها العرب جعله معجزة لغويّة إضافيّة تُدركها العقول التي اعتادت على تقييم القوّة اللّغويّة من خلال الشعر والخطابة، يقول الله تعالى: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ)

رابعاً: اللّغة العربيّة تتميّز بأنّها من أغنى اللّغات من حيث المفردات والتراكيب، وهو ممّا يسمح بإيصال المعاني الدقيقة والمعقّدة، والقرآن الكريم يحتوي على معانٍ ومعارف فلسفيّة وروحيّة وأخلاقيّة وتشريعيّة عميقة تحتاج إلى لغة تستطيع أن تحتوي هذه المعاني دون اختلال أو نقصان.

فعلى سبيل المثال: الكلمات في العربيّة قد تحمل معانٍ متعدّدة حسب السياق، وهو ممّا يتيح للقرآن التعبير عن أفكار متعدّدة ضمن جملة واحدة، وهذا يساعد في تقديم مستويات مختلفة من المعنى حسب مستوى فهم كلّ متدبّر للنصّ.

خامساً: اللّغة العربيّة تتميّز بقدرتها على مواكبة التطوّر المعرفيّ والثقافيّ، إذْ تحتوي على نظام صرفيّ يجعلها أكثر مرونة وقدرة على التكيّف مع تطوّرات الزمن واحتياجات الأجيال المستقبليّة، فنظام الاشتقاق يتيح للغة إنشاء عدد كبير من الكلمات ذات المعاني المتنوّعة من جذر واحد، وهو ممّا يجعل الخطاب باللّغة العربيّة أكثر دقّة في التعبير عن المعاني والحقائق، فمثلاً لو أخذنا الجذر الثلاثيّ (علم) كمثال لفهم هذه المرونة والثراء، لوجدناه يعبّر عن العلم، والمعرفة، والوعي، والفهم، والإدراك، وإذا قمنا بإضافة التشديد على اللّام (علّم) يتحوّل الجذر إلى صيغة أخرى بمعنى قام بإيصال العلم والمعرفة، ومنها يمكن أيضاً اشتقاق كلمة (معلّم) وهو الشخص الذي يعلّم، وكذلك يمكن اشتقاق كلمة (عالم) لتعني الشخص الذي يمتلك العلم، وكذلك يمكن تحويل الجذر إلى صيغة مفعول (معلوم) أي الشيء الذي تمّ العلم به أو الشيء المعروف، وكذلك كلمة (علامة) التي تعني الشيء الذي يستدلّ به على شيء آخر، وكلمة (استعلام) على وزن استفعال التي تعني البحث عن المعرفة أو السؤال للحصول على معلومات، وهكذا يمكن اشتقاق كلمات مثل (عالِم) و(علميّة) و(علوم)، وكلّ واحدة من هذه الكلمات لها معانٍ دقيقة في سياقات مختلفة، وهذا ما لا نجده في أيّ لغة من لغات العالم.

وقد فصّل علماء اللّغة العربيّة الكثير من الجوانب التي تجعلها أكثر اللّغات ثراءً وغناً من اللّغات الأخرى.

ولا يفوتنا أن نشير بأنّ نزول القرآن باللّغة العربيّة لا يعني أنّ الإسلام رسالة خاصّة بالعرب، نعم، كانت البداية من العرب، ولكنّ الهدف النهائيّ هو نشر الرسالة إلى البشريّة جمعاء، ونزول القرآن بلغة قوميّة محدّدة لا يعني حصر الرسالة على هذه اللّغة؛ بل هو اختيار مرحليّ مناسب لنشر الرسالة عالميّاً بعد ذلك، وقد تطرّقنا إلى ذلك في إجابة سابقة.